الفصــ 34 ــل .
جيلبرت كونِلر
الابن الأكبر لعائلة كونِلر ، ومن يُقال إنهُ الأكثر شبهاً بالدوق الأكبر إستين في تقاسيم وجهه وهيئته .
حتى لو لم يُذكر ذلِكَ صراحةً في القصة ، فإن المرء يشعرُ فورَ رؤيته بأنَ ملامحهُ تكادُ تكون نسخة طِبق الأصل مِن الدوق الأكبر .
ولا سيما … تِلكَ النظرة الباردة التي يرمِقُني بها .
” سيد جيلبرت ، لقد وصلتَ أخيراً !”
بينما كنتُ أحدّقُ فيه وأنا مذهولةً بِه ، أتى صوت بونيتا الودود مِن خلفي .
هرعت بونيتا نحوهُ ، وهيَ تبستمُ بِابتسامة مُشرِقة . لكن حتى في تلكَ اللحظة ، لم تتحرّك عينا جيلبرت عنيّ .
كانت نظرتهُ تلاحقُني بِعنادٍ غَريب .
” يا للأسف ، حظنا سيء حقاً ! الدوق الأكبر غائب عن القصر اليوم بِالذات ”
” أعلم ذلكَ ، لقد ذهبَ في جولة تفقِدية مُسبقة “
” كان يُمكن أن يكونَ يوم وصولِكَ أجمل لو كانَ موجودًا . سيد جيلبرت ، يبدو أنكَ أصبحتَ أطول !”
” سمعتُ أنهُ مُنشغل بأمور كثيرة . وأنتِ يا بونيتا ، كيفَ حالُكِ ؟”
أخيراً ، انتقلت عيناه إلى بونيتا بعدَ كلماتِها الحنونة .
شعرتُ بِراحةٍ خفية ، وتنفّستُ بِشكل تصاعُدي دونَ أن أُدرك .
بونيتا التي قالت إنها اعتنت بالإخوة الثلاثة في قصر كونِلر مُنذٌ ولادتِهم ، بدت قريبة مِن جيلبرت ، الذي تحدثَ إليها بصوتٍ ألطف مِما توقعت .
” بالطبع ، أنا بِخير . عودة صغيرتنا المُدللة جعلتني أشعرُ بِفرحٍ لا يُوصف ”
أمسكت بونيتا بِكتفي وهيَ تَتحدثُ .
لكن تِلكَ النظرة التي ظننتُ أنني نجوتُ منها عادت لتطعَنني كالسهم مُجددًا .
كانت بارِدة كالجَليد ، تخترقُني حتى تصل إلى عِضامي .
لكن لا بأس ، فبونيتا إلى جانبي .
اقتربتُ منها أكثر ، محتميةً بِها مِن تلك العينين اللتين جعلتاني أشعرُ بألمٍ لم أعهدهُ مِن قبل .
” ماري كونِلر ”
ناداني بِصوتٍ يُشبه صوت الدوق إستين إلى حدٍ مُخيف . ترددتُ للحظة .
هل هذا هوَ الوقت المُناسب لتحيته ؟
كحكحتُ لأصفّي حُنجرتي ، وبدأتُ أُفكر في الكلماتٍ التي سأقولها .
سأُحييه بِطريقة طفولية ، بِابتسامةٍ مُشرِقة . يقولون إنَ الوجه المُبتسم لا يُبصق عليه ، وهذا المثل ينطبق هُنا أيضًا ، أليسَ كذلِك ؟
” أخي العزيز ، مرحبًا ! أنا ماري . أنا سعيدة جِدًّا جِدًّا بِلقائكَ !”
أجل ، هكذا سأقولها .
” مـ مرحبًا … أ – أخي ؟”
“… ماذا ؟”
” جِدًّا سعيدة ؟”
مهلاً ، لم يكُن هذا ما خططتُ له !
مِن شدة توتري تعثرَ لِساني ، وخرَجت كلِماتي مُشوهةً تماماً .
حتى جيلبرت كونِلر ، الذي كانَ يواجهُني بِبرودٍ منذُ البِداية ، بدا مُرتبكاً مِن تحيتي الفاشِلة .
‘ هل نجحتُ في تغييّر تعابيره …؟ ‘
شعرتُ بيد بونيتا التي كنتُ ألتصقُ بِها ، ترتجِف . كانت تحبسُ ضحكتها بِصعوبة .
أردتُ أن أصرخ وأهربَ بعيدًا ، لكنني تماسكتُ ، محافظةً على ابتسامتي المُتصلبة .
آه ، لو يتوقفُ الوقت الآن …
يقولون إن الوجه المُبتسم لا يُبصق عليه ، لكنهُ قد يعِض !
حاولتُ أن أبقى مُبتسمة بِشراق ، لكن وجهي بدا كما لو أنَ غمازاتي مُلئت بِالجبس .
وفي يومٍ كهذا ، غابَ الدوق إستين ولوكاس وهيستيا في جولة تفقُدية إلى ساحل فادولا .
افتقدتُ هيستيا بطلتيّ ، ولوكاس الذي كان دائماً إلى جانبي رُغمَ شقاوته ، وحتى الدوق الذي بدا بعيدًا عنيّ .
أدركتُ أن بونيتا هي خط الحياة الوحيد ليّ الأن ، فأمسكتُ بيدها بِقوة .
” مرحبًا ”
سمعتُ صوت ريفِرس الخافت من خلفي . اقتربَ ريفِرس ووقفَ إلى جانبي .
رغمَ ضعفِ جسدة ، إلا أنهُ بدا بِتحيته لجيلبرت بطريقة شُجاعة .
أحسنتَ يا صغيري ، لقد أتقنتَ التحية … على عكسي .
” ريــفِرس بِالُـــوس ؟”
“مرحبًا أخي ، لقد مر وقتٌ طويل ”
هل التقيا من قبل ؟ تفاجأتُ من دفء جيلبرت إتجاه ريفِرس .
أنا أختهُ الحقيقية ، ولم أحظَ بمثل هذا الترحيب !
لكن ، إذا فكرتُ في الأمر ، فإن دماءنا متشابهة ، وربما أنا نفسي أميل إلى ريفِرس أكثر من جيلبرت ، حسنًا إن هذا مقبول .
” سمعتُ عنك .”
” أنا بخير ، لا تقلق . لقد أتيتَ إلى جنازتها آنذاك ، ولم أتمكن من تحيتِكَ كما يجب …”
” لا بأس ، كنتَ في حالةٍ صعبة .”
كان في عينيّ جيلبرت لمحة حنونه .
لم أكُن أعلم أنه قادر على إظهار مِثل هذهِ المشاعر ! ألا يُمكِنُكَ أن تمنحني بعضًا مِن هذهِ الحنيه ؟
أنا أُختكَ الصُغرى التي عادت بعد إختطافِها ، ألستُ جديرةً بالشفقةِ أيضًا ؟
بينما كُنا نقف في صمتٍ مُحرج ، صفقت بونيتا بيديها .
” بدلاً مِن الوقوف هُنا ، لمَ لا نجلس في الحديقة ونتحدث ؟”
تبعناها إلى الطاوِلة البيضاء في الحديقة ، حيثُ جلسنا مُتقابلين .
كانت عينا جيلبرت تتجولان ، لكنهُما تعودان لتستقران عليّ َطويلاً .
لماذا ينظرُ إليّ هكذا؟ هل افتقدني كأختٍ بعد غيابٍ طويل ؟ إن كان كذلك ، فقُلها بكلماتٍ ، أرجوك …
” سأحضرُ الشاي . تحدثوا قليلاً حتى يجهزَ الطعام “
غادرت بونيتا حاملةً أمتعة جيلبرت ، تاركةً خلفها صمتاً ثقيلاً بيننا .
حاولتُ إيجاد موضوعٍ للحديث ، لكن نظرته جعلت عقلي فارغاً .
هل هذه لعنة عائلة كونِلر الحقيقية ؟
“… يُقال إن قُدرتكَ قد استيقظت ”
” أوه ، أجل ”
” سحر الأرواح ، أليسَ كذلك ؟”
” نـ نعم ، أنهُ صحيح ”
” هذا مُدهش … هل هُناك حدود عِندما تستخدِمُها ؟”
” لم أُجربها بِما فيه الكفاية بعد ، فأنا لا أعرف كيف استخدِمُها جيدًا .”
تحدثَ جيلبرت وريفِرس بِطلاقة أكثرَ مِما توقعت .
بدا جيلبرت مُهتمًا بِقدُرات ريفِرس ، وهوَ أمرٌ أتفهمه ، فقدرتهُ نادرة .
ورغمَ ضُعفِ ريفِرس الجسدي ، إلا أنهُ أجاب بِذكاءٍ على أسئلته . أجل ، إن فعلتُ مثلهُ سأكون بِخير .
” ومتى استيقظت قُدرتُكَ ؟”
لِلحظة … ترددتُ ونظرتُ إلى ريفِرس بِحذر .
كما توقعتُ ، تغيرت تعابيرهُ .
يبدو أن جيلبرت سمِعَ عن قدرة ريفِرس فقط ، دونَ تفاصيل استيقاظِها .
كانت لحظة استيقاظِها بعدَ وفاة والدته مُباشرةٍ ، عِندما استدعى روحها كأول تجربةٍ لهُ . لم أُرد أن يضطرَ ريفِرس لقول ذلِكَ بِنفسه ، فالجرحُ عميق .
” بِالمُناسبة !”
تدخلتُ فجأة ، فالتفتَ جيلبرت إليّ بعبوسٍ واضح .
أتظُن أننيّ أُريد الحديثَ مَعك ؟ كُل هذا مِن أجل ريفِرس ! لاحظ ريفِرس نيتي ، فابتسمَ ليّ بإمتِنانٍ خافت .
ثق بي يا ريفِرس ، سأحميّك .
” أنا … و بما أنني أراكَ لأولِ مرة ، لديّ الكَثير مِن الفضول حولكَ “
“… حقًا ؟”
” أريد أن أعرِفَ عن الأكاديمية الإمبراطورية . يُقال إنكم تدرَسون علومًا مُتنوِعة !”
” همم ، إذن أيّ العلوم تُهمُكِ …”
” أخبرني عن قصةِ حُبّكَ الأول !”
لا شيء يُلهي الشخص عن المواضيع الجدية مِثل قِصص الحُب الأول ! بهت وجه ريفِرس ، وكأنهُ لا يُصدق ما سَمِع .
أنا أُنقِذُكَ الآن ، فلا تنظُر إليّ هكذا !
” حُبيّ الأول …؟”
” أجل ، فأنا أعنيّ …”
” ظننتُ أنكِ مُهتمة بِالرياضيات ”
طعنتني نظرَتهُ الحادة كسيفٍ مَسلول .
حاولتُ التقرُبَ مِنه ، لكن يبدو أننيّ أبعدتهُ أكثر …
” الطعامُ جاهِز !”
كسرت بونيتا الصمت بِصوتها الحنون .
شُكرًا بونيتا ، توقيتُكِ مِثالي ! نهضنا بهدوءٍ مُنهار ، وتوجهنا إلى غُرفة الطعام دون كلِمة .
كانت قلعة كونِلر تعجُ بالحياة مع عودة الابن الأكبر .
زُينت الموائد بأطباقٍ فاخِرة ، لكننيّ ظللتُ مُنحنيةً تحتَ ثقِل نظرات جيلبرت .
في تِلك الجلسة الصامِتة ، كان صوت الأطباق هوَ الوحيد الذي يملأُ المكان .
حتى ريفِرس البريء بدا مُكتئبًا دونَ سبب واضح . تناولتُ قطعةٍ مِن اللحم ، لكنها لم تمر إلى حلقي .
فتوقفت و وضعتُ الشوكة جانِبًا ، تاركةً طبقيّ ناقصًا .
” لمَ تتركينَ طعامَكِ ؟”
” معِدة الآنِسة ضَعيفة …”
ردت بونيتا نيابةً عنيّ بعد أن رأى جيلبرت طبقيّ .
كرِهت أن أترُكَ طعاميّ كثيرًا ، لكِنها دافعت عنيّ رُغمَ ذلِكَ .
” لكِن يبدو ليّ أنَ حتى بونيتا قد أصبَحت ضَعيْفة “
” …… ”
” لقد عُدتِ منذُ مُدةٍ ، ومع ذلِكَ آدابُكِ سيِّئة “
عمــل عــلى الفصــل : 𝒻𝑒𝒻𝑒
التعليقات على الفصل " 34"
التعليقات