“لقد وعدتني يوم الأحد بكامله، سنمضيه معًا.”
“نعم ليوم واحد فقط.”
بعد أن سمع إجابة مرضية، غادر آشر مكانه متأخرًا في الليل.
ولم تستدر إليانور إلا بعد أن اجتازت عربة آشر بوابة قصر الدوق واختفت كليًا عن ناظريها.
“إيلي.”
حين وصلت إلى عتبة الباب، وكأن الحظ قد سخر منها، اقتربت منها أوليفيا بخطوات مترددة وعيناها محمرّتان من البكاء.
كان خلفها لوغان واقفًا كهيئة الموت، جامدًا بلا تعبيرات، ورغم أنه لم يُبدِ ملامح غضب، إلا أنّ هيبته الفطرية وحدها كانت كافية لتُشعر من أمامه بالرهبة.
“أوليف ارتكبت خطأً.”
جاء صوتها المتحشرج الممزوج بالبكاء.
لوغان الذي لم يرفع صوته يومًا على أوليفيا، بدا أنه لم يترك هذه المرة تمرّ مرور الكرام، بعدما تسببت بخطأ كبير.
“لا بأس المعلمة لم تغضب.”
جثت إليانور على ركبتيها لتلاقي أوليفيا بعينيها.
لكن الصغيرة، بشفاه بارزة على نحوٍ متذمّر، ذهبت تتفحص وجه أخيها بحذر.
“أنا بخير.”
“أوليفيا، اصعدي إلى غرفتك أولًا.”
وحين حاولت إليانور بلطف أن توضح رأيها، قاطعها لوغان، مخاطبًا أوليفيا التي تشبثت بأطراف ثوبها رافضة تركها، آمِرًا إياها بالصعود إلى غرفتها والاستعداد للنوم.
لقد كان وقع هذا الموقف صادمًا عليها، إذ لم يسبق أن واجهت منه سوى الأحضان والتهدئة، فهزّت رأسها حزنًا وهي تصعد الدرج الكبير.
التفتت مراتٍ عدة إلى الخلف بتردد، غير أنّها ما إن رأت أخاها يثبت في مكانه محدقًا إليها بوجه خالٍ من أي تعبير، حتى كفّت عن الالتفات وتابعت طريقها نحو غرفتها.
“أعتذر يا آنسة هدسون.”
قال لوغان مقتضبًا، ففاجأها اعتذاره حتى توقفت مترددة عند درجات الحجر أمام المدخل، ترمش بعينيها بدهشة.
“لقد وبختها بشدة، لذلك لن تجرؤ ثانية على مغادرة الصف فجأة.”
لقد كانت تعتزم بدء تدريسها من الغد على أي حال وشعرت بالذنب، وكأنها جعلت لوغان يتحمل دور الشرير نيابة عنها.
“أوليفيا لم تتصرف وكأنها كانت تتعمد حدوث مثل هذا الأمر.”
“لقد أدركت أنني دللتها أكثر مما ينبغي، لذا فعلت ما فعلت.”
لكنّ لوغان لم يلقِ باللوم على إليانور أو يتهمها بالتقصير في عملها، بل شرح بهدوء أن الوقت قد حان فحسب ليضع حدًا لتلك الدلال الزائد.
قد يكون السبب أنه لا يحب أن يثقل كاهل الآخرين، لكن بدا أن الأمر أعمق من ذلك.
فقد انكشف جانب أكثر رقة في شخصيته، لا ينسجم مع ملامحه الحادة ووجهه المنحوت.
“كل ما أردته أن لا تعاني أوليفيا من الضغوط التعليمية التي عانيتُها أنا.”
من جملة قصيرة كهذه، قرأت إليانور تعب حياته كله.
في الرابعة والعشرين، كان لوغان رجلًا شابًا يحمل فوق كتفيه الكثير لم يكن ليقود هذا البيت العظيم بهذا الثبات لولا ما بذله من جهد فمنذ صغره وهو يتلقى التدريب والتعليم بوصفه الوريث، من غير أن يُظهر لحظة ضعف.
كان من الصعب حتى أن يتخيل المرء ذلك الطفل، الذي لم يعرف ربما كيف يتكئ على أحد.
“أخشى أنني أدركت متأخرًا أنّها تختلف عن الآخرين، تمامًا كما أدركتُ الكثير متأخرًا في حياتي.”
لهذا السبب، أراد أن يمنح شقيقته غير الشقيقة الحرية التي لم يعرفها هو أبدًا وعلى الرغم من اختلاف ظروفهما، إلا أنّ إليانور فهمت قلبه، وأدركت عمق مشاعره نحو أوليفيا.
“الأطفال ينمون ويتغيرون حتى في لحظات لا تراها فيها وفجأة ستكتشف أنّهم قطعوا شوطًا بعيدًا، فتشعر بالفخر.”
لقد أرادت أن تمنحه الطمأنينة.
“فلا تقلق أكثر من اللازم التدريس عليّ أنا، أما أنت فلتظل دائمًا الأخ الحامي كما كنت.”
كانت أوليفيا لا تزال متأثرة بما جرى، فالمرة الأولى التي وبّخت فيها بشدة كانت قاسية عليها.
وبما أنّ لوغان هو سندها الوحيد في هذا القصر، فقد تضاعف وقع الأمر عليها.
لكن إليانور كانت تعرف أكثر من أي أحد أنّ قلب من يوبّخ يتألم أيضًا لذا أعطته الدور الذي يرغب فيه أكثر: دور الأخ السند.
“ولهذا السبب اخترتني معلمة لها.”
هبت نسمة دافئة من خلفهما، وعند تلك اللحظة بدا وكأن لوغان يبتسم لم تكن ابتسامة واضحة، فقد ظلّ وجهه أقرب إلى الجدية، لكن ثمة فرقًا طفيفًا لوحظ.
“هل أنهَيتِ حديثك مع آشر على خير؟”
“نعم سأكون كاذبة لو قلت إنني لم أتفاجأ… لكن لم يكن الأمر مقصودًا؛ لا من جانبي ولا من جانبه.”
ابتسمت إليانور ابتسامة صغيرة.
بخلاف آشر الذي أربكه الموقف حين أبصر جزءًا من بشرتها عَرَضًا، ظلّ لوغان متماسكًا، غير متأثر حتى عند ذكر الحادثة.
“وقدّم اعتذارًا بأن يأخذني في جولة إلى المدينة يوم الأحد.”
“آه، كنوع من الاعتذار.”
وكان الأحد يوم عطلة على أي حال، وهو مجال لا يملك لوغان ـ بصفته رب عملها ـ التدخل فيه فأومأ متفهمًا.
“بإمكانك الخروج كيفما تشائين والعودة وقتما شئتِ.”
“في الحقيقة… هناك أمر أود أن أطلبه منك.”
غير أنّ ما قالته بعد ذلك لم يكن في حسبانه، حتى بدا على ملامحه شيء من الارتباك، وهو يميل رأسه قليلًا متسائلًا.
***
“آشر!”
أكان قد حان وقت قدوم آشر بالفعل؟
رفع لوغان رأسه من فوق رسالةٍ أرسلها بيت الماركيز بيرسيس كان يقرأها في مكتبه، بعدما سمع صوت أوليفيا المشرق يتردد من خلف نافذته.
ومن بين الستائر المرفرفة، أبصر الحديقة الخضراء والطريق المؤدي إلى البوابة.
“مرحبًا آه، وأوليف أيضًا هنا.”
أزاح الستائر بخفة وخرج إلى الشرفة ، فرأى عند مدخل الاستقبال الخادم جورج، وإليانور، وأوليفيا، ومعهم آشر الذي كان قد نزل للتو من عربته.
كان آشر يرتدي بدلة أنيقة، غير أن ابتسامته المرتبكة لم تنجح في إخفاء اضطرابه وهو يحيّي أوليفيا.
“إليانور.”
“لقد حصلت على إذن من الدوق لأرافق أوليفيا معي.”
كان يبدو أنه يريد أن يسألها ما إذا كانت تنوي حقًا أخذ أوليفيا معها، لكن إليانور أجابت بهدوء مؤكدة أنها حصلت على إذن مسبق من لوغان.
“ظننت أن أوليفيا سترغب أيضًا في التجول.”
ثم ابتسمت ابتسامةً خفيفة، كمن يعرف تمامًا كيف يزيد قلب الرجل اضطرابًا.
لم يستطع آشر أن يعترض، فرفع بصره نحو لوغان الذي كان يراقب الموقف من بعيد بلا استعجال.
بطبيعة الحال، لم يكن لوغان قادرًا على قراءة ما يريد آشر قوله بعينيه، لكن بدا من الواضح أن كلماته في داخله لم تكن ودودة.
فردّ لوغان بإيماءة صغيرة وهو يكتفي برفع كتفيه، كأنه يقول: “لم يكن بيدي حيلة.”
{ هل يمكن أن آخذ أوليفيا معي؟ }
لم يكن لوغان هو من حاول أن يتهرب من رعاية أوليفيا، بل كانت إليانور هي من طلبت أخذها معها.
{الأحد عطلة للآنسة هدسون، ولا حاجة لأن تقضيه مع أوليفيا كل ما عليك هو أخذ أجرك مقابل عملك فقط.}
كان عرض آشر أشبه ما يكون بموعدٍ صريح، لكن إليانور طلبت أن تصطحب أوليفيا معها وبالنسبة لأوليفيا كان خبرًا سارًا ، أما بالنسبة لآشر فقد كان صاعقةً على آشر وبالطبع، حاول لوغان أن يرفض ذلك بلطف.
{ إذن، يمكنكم اعتباره بمثابة عمل إضافي مع أجرٍ إضافي.}
{ آنسة هدسون.}
{أود أن أري أوليفيا عوالم جديدة، فهي بحاجة إلى تنمية جانبها الاجتماعي أيضًا.}
كيف له أن يمنعها، وهي مصممة على ذلك؟ كان لوغان يرى أن شقيقته أهم من أي صديق وقبل كل شيء…
ارتكز لوغان على درابزين الشرفة ، وعيناه تتأملان إليانور التي ترتدي ثوبًا كحليًّا بسيطًا يصل حتى كاحلها، وتزين صدرها بكورسيج وردي.
كان من الطبيعي أن ترتدي الألوان الفاتحة التي تناسب شعرها الأشقر المشرق، لكنها على العكس بدت قاتمة بجوار أوليفيا التي ارتدت فستانًا أصفر كالفراخ الصغيرة.
“لوغان! أوليف ذاهبة الآن!”
رفعت أوليفيا يدها عاليًا ولوحت نحو لوغان الواقف على الشرفة، محاولة لفت انتباهه.
“أوليف ستذهب الآن!”
في تلك اللحظة، همست إلينور لها بشيء، فغيرت أوليفيا عبارتها بسرعة، مستخدمة لغة أكثر تهذيبًا كانت لا تزال طفلة بريئة، تطيع من تثق به بكل طواعية، مما جعل لوغان يبتسم لا شعوريًّا.
ثم فك ذراعيه ولوّح لها بيده صعدت أوليفيا إلى العربة بمساعدة آشر، فيما أرسلت إليانور إيماءة تحية قصيرة نحو لوغان، فردّ هو بالمثل.
انطلقت العربة التي تقل أوليفيا وإلينور بهدوء على الطريق المعبد ولم يرجع لوغان إلى مكتبه إلا بعدما اختفت العربة خلف البوابة.
{ في الحقيقة، قبلت الاقتراح بدافع اندفاعي قد يكون من السيئ قول هذا، لكن أوليفيا هي بمثابة درع واقٍ بالنسبة لي، ولا يمكنني الاستغناء عنها.}
تذكّر صوتها الصادق وملامحها المصممة وهي تصرح أن اصطحاب أوليفيا لم يكن الغرض الحقيقي، بل مجرد ذريعة لطيفة.
{بوجود أوليفيا، لن أفكر في أمور أخرى.}
لقد كانت إلينور مدركة للهوة التي تفصلها عن بيت إيرل فيتسمون، وأرادت أن تغلق الباب أمام أي رغبة قد تُفسَّر كطموح غير مشروع وكان لوغان يتفهم رغبتها في أن تُذكّر نفسها دائمًا بموضعها.
أما سماحه بخطوات آشر التقرب منها، فلم يكن معناه أنه يريد أن ينجح في مسعاه.
وحتى لو لامه آشر، فلن يكون بوسع لوغان فعل شيء ففي أي حال، الشخص الذي قد يتأذى أو يُظلم من كل هذا لن يكون آشر، بل إليانور.
لذلك، رأى لوغان أن قراره، وإن بدا أقرب إلى التحيّز، كان قرارًا مبرَّرًا.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
The Time When Love Intersects
تحتوي القصة على موضوعات حساسة أو مشاهد عنيفة قد لا تكون مناسبة للقراء الصغار جدا وبالتالي يتم حظرها لحمايتهم.
هل عمرك أكبر من 15 سنة
التعليقات