إليانور كانت تدرّس أوليفيا كعادتها.
غير أنّ الحماسة غلبت أوليفيا حين نجحت في حلّ مسألة حسابية، فأرادت أن تتفاخر بما أنجزته، فاندفعت تفتح الباب على مصراعيه، وهناك اصطدمت مباشرةً بـآشر.
في الحقيقة، ذلك وحده لم يكن ليُشكّل مشكلة كبيرة، إذ إنّ أوليفيا معتادة على مثل هذه التصرفات.
غير أنّ المعضلة كانت أنّ إليانور كانت قد نزعت أزرار بلوزتها لتعلّم أوليفيا الحساب بها.
وكان الدليل على ذلك أربعة أزرار متناثرة بوضوح فوق الطاولة.
“أ.. أعتذر.”
قال آشر معتذراً بعجلة.
عيناه البنفسجيتان، الحائرتان في الهواء، لم تعرفا إلى أين تتجهان؛ فمن الصعب أن يوجّه بصره لا نحو الأشخاص الحاضرين، ولا نحو الطاولة.
“على الأقل، خذي هذا.”
قالها وهو يدير رأسه إلى الجهة المعاكسة قدر المستطاع، ثم خلع سترته التي كان يرتديها وناولها إلى إليانور.
لم تستطع أن تنبس ببنت شفة لتقول إنّها بخير، بل غطّت جسدها بسرعة بسترة آشر.
كان قلبها يخفق بجنون.
“لم.. لم أقصد.. لم أقصد أن أنظر…….”
قال آشر مدافعاً عن نفسه، ثم التفت بعادةٍ راسخة نحو من كان يكلّمه.
لكن ما إن التقت عيناه بعيني إليانور التي كانت ترمقه بطرفها، حتى ارتدّ كمن رُكل من الخلف فجأة.
“أعتذر!”
قالها مرة أخرى معتذراً عن أمر لم يكن ذنبه، ثم دار بجسده ليواجه الحائط.
في حين خرجت إليانور مسرعة من غرفة أوليفيا، متوجهة إلى غرفتها لتبدّل ملابسها.
لكن خطواتها كانت متعثرة.
فقد باغتها الحدث غير المتوقع، مما جعل عقلها يصبح فارغًا تمامًا، وتصرفاتها مرتبكة.
كل ما كانت تفكر فيه في تلك اللحظة هو
“عليّ أن أعلّم أوليفيا في المرة القادمة ألا تخرج من الدرس بهذه الطريقة.”
ثم سمعت صوتًا يناديها
“آنسة هدسون؟”
رفعت رأسها من الأرض حيث كانت تحدّق، لتلتقي نظراتها بنظرات لوغان الذي كان يصعد الدرج.
بدا وجهها الأبيض أكثر شحوبًا، وأمال رأسه مستغربًا.
قال متعجبًا
“ما هذا المنظر؟…”
عندها فقط رأى حال إليانور جيدًا: بلوزة مهترئة من الأمام، يدان شاحبتان ممسكتان بها وكأنها تتشبث بالحياة، وسترة رجالية على كتفيها.
ولم يستغرقه الأمر طويلًا ليعرف أن تلك السترة هي نفسها التي كان آشر قبل قليل يرتّبها على كتفيه كما يفعل الطاووس حين ينفش ريشه.
صدر من يد لوغان، التي كانت تقبض على الدرابزين، صوت طقطقة خافت.
قال بصوت خافت، لكن يحمل في داخله عاصفة غضب باردة وهادرة
“آشر فيتسمان…”
***
“أعتذر.”
قالت إليانور وهي تجلس بحذر إلى جانب آشر معتذرة.
رفع آشر رأسه ببطء بعد أن كان يخفي وجهه بين كفيه وهو يتنهد.
انقلب القصر رأساً على عقب بسبب أمر غير متوقع.
خدم القصر ارتعدت أجسادهم من صوت لوغان الغاضب، وآشر وُجِّهت إليه الشبهة ظلمًا على أمر لم يقترفه.
نظرات الخدم إليه كانت وكأنه إنسان مخزٍ.
يا للعجب ظنناه نبيلاً مهذباً، فإذا به شخص مستهتر.
ليس خطأ اللورد آشر!
لحسن الحظ، شرحت إليانور الأمر للوغان في حينه حتى قبل أن تغير ثيابها.
ولولا ذلك لكان آشر قد طُرد شر طردة وتعرّض للحظر من دخول قصر دوقية كلافن.
“ليس خطؤكِ يا إليانور.”
قال آشر وهو يوجه رأسه نحوها بحذر لكن ما إن التقت عيناه بعينيها حتى خفض رأسه على الفور.
لبرهة، تساءلت إليانور إن كان غاضباً منها.
“كنت أريد أن ألتقي بكِ كما لو بالصدفة، فتصرفت بحماقة فنلت العقاب.”
“…….”
“في الحقيقة، لم أكن ذاهباً لملاقاة أوليفيا، بل كنت متجهاً لرؤيتك.”
إذن فما ارتكبه لم يتعدَّ إزعاج الدرس قال آشر ذلك وهو يحك عنقه في ارتباك.
تجولت نظرات إليانور ببطء على أذنه وعنقه المكشوف، ثم على لسانه الأحمر الذي بدا متوتراً يخرج ويختفي.
عند ذلك لم يعد بإمكانها إنكار ما فهمته.
لم يكن غاضباً لأنه تعرض للظلم بسببها، بل كان يشعر بالحرج لأنه رأى جسدها عن غير قصد.
“هكذا إذن.”
إن كان في سن لوغان، فهو في الرابعة والعشرين لم يعد صبياً بريئاً بعد.
في هذا العمر لا بد أنه عرف النساء من قبل، بل ربما حتى خبر أجسادهن.
“ما حدث لا يستحق أن تسميه عقاباً، أليس كذلك؟”
“…….”
“فلستَ أول مرة ترى فيها جسد امرأة.”
ومع ذلك، كان آشر أمامها متوتراً كصبي لم يبلغ سن الرشد بعد.
للحظة شعرت إليانور وكأنها أغرت طفلاً بريئاً حين كشفت جسدها أمامه.
“إليانور.”
نظر إليها آشر مدهوشاً، عيناه تتسعان وكأنه لا يصدق ما سمعه وتحت وقع تلك النظرات، أحست وكأنها هي المذنبة التي تجسست على جسده.
“كيف… كيف تقولين مثل هذا الكلام…”
غطى آشر وجهه بكفيه مرة أخرى وفركه في حرج.
“فُف…”
غلب الضحك إليانور فغطت فمها بيدها.
ضحكة رنانة انطلقت منها، فامتد صداها عبر سماء ليلة الصيف المظلمة.
ورغم أنها رأت آشر يحدق بها بوجه مذهول، لم تستطع كبح ضحكتها.
“انظر إلى حالنا الآن يبدو وكأنني أنا من تطفلت على جسدك، لا العكس.”
تحركت شفتا آشر المرتبكتان دون أن يخرج منهما كلام.
بدا حتى هو مقتنعاً بذلك.
كان منظره وسيمًا لكنه ساذج، مما زاد من طرافه الموقف.
وهي تنظر إليه، تذكرت إليانور ذلك اليوم قبل أربع سنوات حين أقامت حفلة بلوغها ورسمياً دخلت المجتمع الراقي.
الحذاء الذي ورثته عن أمها لم يكن مناسباً لقدميها، فجرح كعبها تماماً، أما الفستان المستعار فقد كان قديماً بليداً.
ومع ذلك حاولت جاهدة أن ترضي والدها تشارلز.
لكن ما كسبته في النهاية لم يكن سوى لقبٍ مخزٍ: “زهرة الحائط.”
“يا له من تشبيه غريب.”
تنهد آشر في دهشة من غرابة الموقف.
“آه، حقاً…”
أغمض عينيه وتنفس بضعف وإن كانت إليانور ترى أن الأمر لا بأس فيه، فما سبب شعوره بالحرج؟
“وكأنني أنا وحدي الغريب في هذا كله…”
تمتم، ثم ارتسمت ابتسامة على وجهه.
وإليانور من جهتها كانت تضحك بلا توقف، تزيد من حيرته.
لكنه وجد نفسه يضحك معها رغماً عنه والتقت عيناه بعينيها الرماديتين مباشرة.
“ابتسم فقط ستشعر بتحسن.”
قالت إليانور، فاستسلم آشر وضحك وقد وضع يديه على جبينه ضحكت إليانور بجانبه، وكان الجو خفيفاً كليلة صيف لطيفة.
“أشعر وكأني دنستُ براءتك.”
“إليانور، إن قلتِ هذا…”
بدأ آشر بالاعتراض، لكنه توقف ففي عينيها الرماديتين الفاترتين رأى انعكاس ألوانه الخاصة.
“أكاد أرغب في أن أعاقبك.”
عقاب؟ رمشت إليانور متعجبة.
“لأنك حطمتِ براءة الصبي آشر فيتسمان وحولته إلى رجل.”
“…….”
“فعليك أن تتحملي المسؤولية.”
هذه المرة، هي التي لم تجد ما تقوله مسؤولية؟ كأنها اعتدت عليه.
“لن أطلب منك أن تتحمليها طوال حياتك.”
غمز آشر بعين واحدة، وكان في ملامحه ما يكشف روح الطفل المشاكس، حتى خُيِّل إليها أنها تراه صغيراً يرهق مربيته بمشاكساته ولم تشك لحظة أنه كان حقاً كذلك.
“فقط يوم واحد غداً، لأنه عطلة.”
كان كلامه واضحاً: طلب موعد لكنها ترددت ولم تجب في الحال.
“يجب أن أعلّم أوليفيا أنا في النهاية معلمتها الخاصة…”
فالعالم الذي يعيشان فيه تحكمه قواعد.
قبل أربع سنوات، حين اعترف لها شاب من العامة بمشاعره وقدّم لها باقة زهور صنعها بيديه، داس والدها تشارلز عليها وسحقها أمامها.
كان رفضها حتمياً، ليس لأنها لم تبادله الشعور، بل لأن واقعها البائس فرض ذلك.
“كيف يتجرأ عاميّ على رفع عينيه؟”
كانت إليانور تعرف جيداً واقعها.
لم يكن وقتاً للهو بالحب، وحتى إن رغبت، فلن يسمح لها واقع آشر أو مكانته بذلك.
“أليس يوم الأحد عطلة؟”
لكن آشر قطع عليها طريق التراجع دون تردد.
“يوم واحد فقط.”
“…….”
“إن رفض لوغان، فسأثير الفوضى حتى أضمن لكِ الحرية.”
لم تستطع إليانور الرد، فعيناها المرتبكتان أفشتا حيرتها.
“فقط يوم واحد أقسم أني لن أطلب أكثر.”
انشدّت إلينور إلى عيني آشر اللتين لم تهربا من نظراتها، وكأن شيئًا لم يكن.
هبّت نسمة دافئة من الريح رفعت إليانور خصلات شعرها المتمايلة ومرّرتها خلف أذنها، وأصغت لصوت العالم من حولها.
كل شيء كان كما كان من قبل.
“إليانور.”
لم تكن قد وقعت في الحب لم يكن هناك خفقان صاخب في أذنيها كما يقولون، ولم تشعر بحرارة في وجنتيها، ولم يختفِ العالم ليبقى آشر وحده كما يحدث في القصص.
“ألن تُجيبي؟”
لكن إن كانت حتى هذه النسمة الفاترة تشعرها بهذا القدر من الراحة، وإن كان هذا الليل الصافي المتلألئ بالنجوم بهذا الجمال، فربما، كما قال، لا بأس بيومٍ واحد.
“… ليومٍ واحد فقط.”
فهي لم تكن سوى نزوة ليوم واحد لا غير.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
The Time When Love Intersects
تحتوي القصة على موضوعات حساسة أو مشاهد عنيفة قد لا تكون مناسبة للقراء الصغار جدا وبالتالي يتم حظرها لحمايتهم.
هل عمرك أكبر من 15 سنة
التعليقات لهذا الفصل " 8"