نظر إليها آشر مدهوشاً، عيناه تتسعان وكأنه لا يصدق ما سمعه وتحت وقع تلك النظرات، أحست وكأنها هي المذنبة التي تجسست على جسده.
“كيف… كيف تقولين مثل هذا الكلام…”
غطى آشر وجهه بكفيه مرة أخرى وفركه في حرج.
“فُف…”
غلب الضحك إليانور فغطت فمها بيدها.
ضحكة رنانة انطلقت منها، فامتد صداها عبر سماء ليلة الصيف المظلمة.
ورغم أنها رأت آشر يحدق بها بوجه مذهول، لم تستطع كبح ضحكتها.
“انظر إلى حالنا الآن يبدو وكأنني أنا من تطفلت على جسدك، لا العكس.”
تحركت شفتا آشر المرتبكتان دون أن يخرج منهما كلام.
بدا حتى هو مقتنعاً بذلك.
كان منظره وسيمًا لكنه ساذج، مما زاد من طرافه الموقف.
وهي تنظر إليه، تذكرت إليانور ذلك اليوم قبل أربع سنوات حين أقامت حفلة بلوغها ورسمياً دخلت المجتمع الراقي.
الحذاء الذي ورثته عن أمها لم يكن مناسباً لقدميها، فجرح كعبها تماماً، أما الفستان المستعار فقد كان قديماً بليداً.
ومع ذلك حاولت جاهدة أن ترضي والدها تشارلز.
لكن ما كسبته في النهاية لم يكن سوى لقبٍ مخزٍ: “زهرة الحائط.”
“يا له من تشبيه غريب.”
تنهد آشر في دهشة من غرابة الموقف.
“آه، حقاً…”
أغمض عينيه وتنفس بضعف وإن كانت إليانور ترى أن الأمر لا بأس فيه، فما سبب شعوره بالحرج؟
“وكأنني أنا وحدي الغريب في هذا كله…”
تمتم، ثم ارتسمت ابتسامة على وجهه.
وإليانور من جهتها كانت تضحك بلا توقف، تزيد من حيرته.
لكنه وجد نفسه يضحك معها رغماً عنه والتقت عيناه بعينيها الرماديتين مباشرة.
“ابتسم فقط ستشعر بتحسن.”
قالت إليانور، فاستسلم آشر وضحك وقد وضع يديه على جبينه ضحكت إليانور بجانبه، وكان الجو خفيفاً كليلة صيف لطيفة.
“أشعر وكأني دنستُ براءتك.”
“إليانور، إن قلتِ هذا…”
بدأ آشر بالاعتراض، لكنه توقف ففي عينيها الرماديتين الفاترتين رأى انعكاس ألوانه الخاصة.
“أكاد أرغب في أن أعاقبك.”
عقاب؟ رمشت إليانور متعجبة.
“لأنك حطمتِ براءة الصبي آشر فيتسمان وحولته إلى رجل.”
“…….”
“فعليك أن تتحملي المسؤولية.”
هذه المرة، هي التي لم تجد ما تقوله مسؤولية؟ كأنها اعتدت عليه.
“لن أطلب منك أن تتحمليها طوال حياتك.”
غمز آشر بعين واحدة، وكان في ملامحه ما يكشف روح الطفل المشاكس، حتى خُيِّل إليها أنها تراه صغيراً يرهق مربيته بمشاكساته ولم تشك لحظة أنه كان حقاً كذلك.
“فقط يوم واحد غداً، لأنه عطلة.”
كان كلامه واضحاً: طلب موعد لكنها ترددت ولم تجب في الحال.
“يجب أن أعلّم أوليفيا أنا في النهاية معلمتها الخاصة…”
فالعالم الذي يعيشان فيه تحكمه قواعد.
قبل أربع سنوات، حين اعترف لها شاب من العامة بمشاعره وقدّم لها باقة زهور صنعها بيديه، داس والدها تشارلز عليها وسحقها أمامها.
كان رفضها حتمياً، ليس لأنها لم تبادله الشعور، بل لأن واقعها البائس فرض ذلك.
“كيف يتجرأ عاميّ على رفع عينيه؟”
كانت إليانور تعرف جيداً واقعها.
لم يكن وقتاً للهو بالحب، وحتى إن رغبت، فلن يسمح لها واقع آشر أو مكانته بذلك.
“أليس يوم الأحد عطلة؟”
لكن آشر قطع عليها طريق التراجع دون تردد.
“يوم واحد فقط.”
“…….”
“إن رفض لوغان، فسأثير الفوضى حتى أضمن لكِ الحرية.”
لم تستطع إليانور الرد، فعيناها المرتبكتان أفشتا حيرتها.
“فقط يوم واحد أقسم أني لن أطلب أكثر.”
انشدّت إلينور إلى عيني آشر اللتين لم تهربا من نظراتها، وكأن شيئًا لم يكن.
هبّت نسمة دافئة من الريح رفعت إليانور خصلات شعرها المتمايلة ومرّرتها خلف أذنها، وأصغت لصوت العالم من حولها.
كل شيء كان كما كان من قبل.
“إليانور.”
لم تكن قد وقعت في الحب لم يكن هناك خفقان صاخب في أذنيها كما يقولون، ولم تشعر بحرارة في وجنتيها، ولم يختفِ العالم ليبقى آشر وحده كما يحدث في القصص.
“ألن تُجيبي؟”
لكن إن كانت حتى هذه النسمة الفاترة تشعرها بهذا القدر من الراحة، وإن كان هذا الليل الصافي المتلألئ بالنجوم بهذا الجمال، فربما، كما قال، لا بأس بيومٍ واحد.
التعليقات لهذا الفصل " 8"