إليانور ألغت كل الدروس المتعلقة بآداب المجتمع واللياقة كأنثى، بكل جرأة.
وكان لذلك ثلاثة أسباب: أولها أنّ سيندي لم تُبدِ أي اهتمام بتعليم أوليفيا، وبالتالي فهي لن تعرف أو تكترث، وثانيها أنّ أوليفيا لن تجد في ذلك أدنى متعة، أما السبب الأخير فهو… أنّها أرادت أن تُنمّي في أوليفيا ثقافة إنسانية، وأن تساعدها على اكتشاف ما يثير اهتمامها.
“ما هذا؟”
توجّه بصر أوليفيا إلى ما كانت إليانور تمسكه بيدها كان ورقًا وأقلام تلوين خشبية حصلت على إذن من سيندي لشرائها.
وعندما سألتها أوليفيا، وضعت إليانور الورق وأقلام التلوين فوق الطاولة الواسعة وجلست.
“إنه ورق وأقلام تلوين اجلسي.”
اقتربت أوليفيا بحذر، مثل قطة مترقبة، لكن على وجهها بدت ملامح الفضول جلست على الكرسي، ثم فتحت إليانور الصندوق وأظهرت لها ألوانًا متعددة وما إن رأت أوليفيا الأقلام الملوّنة حتى اهتزّ جسدها حماسًا وهي جالسة، غير قادرة على كتمان انفعالها.
“إنها كثيرة!”
انتقلت عينا أوليفيا بين إليانور وأقلام التلوين، تتأملها بانبهار كأنها تراها لأول مرة، رغم أنّها لم تكن شيئًا باهظ الثمن بحيث يتعذّر على بيت الدوق اقتناؤه.
“هل تستطيعين عدّ أقلام التلوين؟”
طرفَت أوليفيا بعينيها الزرقاوين اللتين تشبهان عيني أخيها، تلمعان كاللؤلؤ تحت الضوء، ثم خفت بريقهما وخيّم عليهما شيء من الخيبة.
“لا أعرف…”
كان صوتها حزينًا قليلًا، وفيه توتر أوليفيا في الثامنة من عمرها، لكنها متأخرة في تطورها مقارنة بأطفال سنها ولم يكن السبب أنّها تحمل إعاقة فحسب، بل بدا الأمر أقرب إلى أنّها لم تُتح لها فرصة التعلّم.
فقد كانت ترتعب إلى حدّ التبوّل على نفسها من صراخ أمها وكانت سيندي تؤنّبها لأنها لا تفهم التعليم، فيما كانت أوليفيا تتضاءل أمام تلك الأم، حتى يغمرها الرعب… وفي النهاية تُعاقَب بالضرب.
“إذن، هذا كم واحد؟”
“واحد.”
إليانور كانت تدرك هذا النوع من الحالات جيدًا، ولهذا لم ترتبك عندما رأت مستوىً أدنى من عمر أوليفيا.
“هذا يكفي اليوم سنرسم، ثم نتعلّم الأعداد شيئًا فشيئًا.”
رفعت أوليفيا بصرها نحوها بوجه متردد فقد اعتادت، من خلال خبرتها القصيرة، أن يتبع الأمرُ تعليمًا للأرقام، لا الرسم وكان من الطبيعي أن تميل برأسها حيرة أمام موقف غير مألوف.
لكن سرعان ما ابتهجت فالرسم على الورق كما تشاء، دون إلزام أو حفظ أرقام، بدا لها أفضل بكثير.
“انظري!”
انتزعت أوليفيا أقلام التلوين على عجل، وفرّغتها فوق الطاولة، وبدأت تخطّ على الورق هنا وهناك مرّة رسمت السماء، وأخرى الحديقة، ثم الأزهار، وأخيرًا قطة جاثمة بجانب الحائط.
“هذا القصر، أليس كذلك؟”
عندما سألتها إليانور ، أومأت أوليفيا برأسها وهي تبتسم ابتسامة عريضة.
“الألوان جميلة.”
كان الرسم أقرب إلى لوحة تجريدية منه إلى رسم للطبيعة الصامتة، وكان غامضًا على إليانور التي لا خبرة لها في الفن، غير أنّ تناغم الألوان فيه بدا جميلًا بحق
“البيت جميل.”
“نعم، الحديقة جميلة فعلًا.”
“أوليف تحب هذا.”
وأشارت أوليفيا بإصبعها إلى جزء من الرسم، حيث الوردة الحمراء.
“ولهذا كنتِ في الحديقة يومها؟”
هزّت أوليفيا رأسها موافقة فسيندي، التي كانت دومًا تبحث عن الاهتمام، لم تكترث لابنتها، والخدم في القصر لم يبدوا أي اهتمام بها أيضًا.
شعرت بالملل والوحدة، فخرجت إلى الحديقة، وتمنت أن ترى لوغان الذي كان يحتضنها دومًا بحنان.
ومن شدّة الحزن بكت.
لكنها حينها لمحت إليانور تتحرك وكأنها تبحث عن شيء عندها فقط تذكرت أمر سيندي بأن تبقى في غرفتها
“لقد خرجت خلسة… سأُعاقَب مجددًا.” فزاد خوفها وبكت أكثر.
“أفهَم.”
لحسن الحظ، بعدها التقت بلوغان، ولم تُعاقَب من قِبل سيندي فقد سبق لإليانور أن حمتها منها، والآن أيضًا كانت تتركها تفعل ما تحب.
وأدركت أوليفيا فجأة أنّ كل الأمور الجيدة بدأت منذ أن التقت إليانور.
هل يمكن أن تكون إليانور ملاكًا؟
“أوليف ليست طفلة سيئة.”
هكذا قال لوغان.
إن عاشت بطيبة، فستذهب لاحقًا إلى الجنة والملاك كائن من الجنة، وبما أنّها التقت إليانور ، فهذا يعني أنّها ليست طفلة سيئة أبدًا.
“صحيح أوليفيا ليست طفلة سيئة.”
وحين وافقتها إليانور ، أشرق وجه أوليفيا بابتسامة لم ترها منها من قبل، رغم أنّهما لم يمضِ على لقائهما سوى أيام قليلة وهذا دلّ على قلّة الأشخاص الذين يمكن أن تعتمد عليهم أوليفيا.
النبتة التي تنمو في أرض بلا سماد صالح، تخرج مشوّهة، ثم تذبل في النهاية و إليانور لم تشأ أن تكون شاهدة على مأساة كهذه مرة أخرى.
“سأخبر لوغان!”
صرخت أوليفيا فجأة، وهي تنهض من مكانها.
“أوليفيا، هذا لاحقًا…”
فهي لا تعلم حتى إن كان لوغان في القصر الآن أم لا.
لكن قبل أن تحاول إليانور إقناعها، اندفعت أوليفيا راكضة خارج الغرفة، فرفعت إليانور أطراف فستانها مسرعة خلفها.
“لوغان!”
ولحسن الحظ، أو لسوءه، صادفت أوليفيا لوغان في البهو عند نزولها السريع على الدرج، وهو كان قد عاد لتوّه إلى القصر فأسرع يلتقطها بذراعيه وهي ترتمي عليه.
“أليس وقت الدرس الآن؟”
سأل لوغان الخادم جورج وكانت إليانور ، التي لم تجرؤ بعد على النزول إلى أسفل الدرج، قد وقفت تتابع الموقف بشفاه مضغوطة ووجه متوتر.
“نعم، بحسب علمي هو وقت الدرس، غير أنّ…”
“إيلي قالت إنّ أوليفيا ليست سيئة!”
قاطعته أوليفيا بحماسة، فارتسمت على وجه جورج خطوط استياء خافتة.
“أنتِ لستِ سيئة أصلًا.”
لكن لوغان لم يوبّخها، بل قال لها بنبرة هادئة.
“ولهذا عليكِ أن تكوني مطيعة وتشاركي في الدروس.”
“أعتذر، يا صاحب السعادة.”
نزلت إليانور بقية الدرج وقدّمت اعتذارها فهي، في النهاية، المعلّمة الخصوصية، وكان من الخطأ أن تعجز عن ضبط الطفلة.
“أنا أعلم أنها ليست طفلة يمكن السيطرة عليها بسهولة، فلا تقلقي.”
طمأنها لوغان بهدوء أما أوليفيا، فكانت في غاية السعادة برؤية شقيقها، تَفرك وجهها بعنقه مثل قطة مدللة وهي تُصدر صوتًا خافتًا كالقَرقرة.
“سيحين وقت الغداء قريبًا، فما رأيك أن نتابع الدرس بعد تناول الطعام؟”
إذ في مثل هذه اللحظات، لم يكن ممكنًا انتزاع أوليفيا من بين ذراعيه مهما فُعل لذلك، بدلًا من محاولة إبعادها، اقترح لوغان أن تتناول إليانور الطعام معهم.
“سيكون شرفًا لي.”
“لا داعي لأن تلتزمي بالرسميات في كل مرة.”
قالها لوغان بنبرة عابرة وهو يتجاوز إليانور التي كانت قد انحنت احترامًا له، فتبعته بخطوات مترددة وحذرة.
“هل تشربين كأسًا يا آنسة هدسون؟”
سألها لوغان وهو يُشير بعينيه إلى كأس النبيذ الذي قُدّم له كمشروب قبل الطعام ورغم أنّ لديها درسًا آخر في فترة ما بعد الظهر، فإن كأسًا واحدًا لن يكون ذا أثر كبير.
“أقبله شاكرة.”
لم ترفض إليانور في الحقيقة، كانت تجد صعوبة في الجلوس أمام مخدومها بكامل وعيها، وشعرت أنّ النبيذ سيخفّف من توترها، لكن لوغان لم يكن يعلم ذلك.
“أعطيني أنا أيضًا.”
قالت أوليفيا بحماسة.
“لا يجوز للأطفال.”
رفض لوغان طلبها بحزم، وفي تلك اللحظة جاءت الخادمة تحمل الحساء ومعه كأس نبيذ وُضع أمام إليانور.
فارتشفت منه قبل أن تمسّ الطعام، محاولة أن تهدئ أعصابها.
“أيمكنني تبديل مكاني، من فضلك؟”
سألت وهي ترى أوليفيا تلتهم طعامها بعجلة من على الجانب الآخر من الطاولة وبعد أن أذن لها لوغان، جلست إلى جوار الطفلة.
“أوليفيا، هكذا يجب أن تمسكي بالملعقة.”
“لكنني أرتاح أكثر بهذه الطريقة!”
“لكن انظري كم أسقطتِ منها.”
قالت إليانور مشيرة إلى بقع الحساء المتناثرة على الطاولة والأرض عندها تقطب وجه أوليفيا في امتعاض ودفعت شفتها السفلى إلى الأمام.
“أنا لم أقل إنك أخطأت.”
بادرت إليانور إلى طمأنتها سريعًا.
“لكن حين تسقط منك الملعقة هكذا، سيضطر الآخرون إلى التنظيف، كما أنّ ملابسك ستتسخ ويجب غسلها من جديد.”
“… نعم.”
“ولو لم تُسقطي الطعام، لما كان كل هذا العناء.”
كانت سيندي، في مثل هذه المواقف، لا تفعل سوى إهانة ابنتها، فتصفها بـ”المتسولة القذرة” وتوبّخها.
حتى إن أطاعت، لم تكن تُكافأ بكلمة ثناء، بل تُعاقَب على أي تقصير آخر وكان رفض أوليفيا اتباع آداب المائدة نابعًا من رفضها لتلك المعاملة.
“لكن أوليفيا طيبة، أليس كذلك؟ لهذا فأنتِ لا ترغبين بأن تسببي المتاعب للآخرين.”
قالت إليانور بصوت هادئ وهي تمسك بيد الطفلة، وتعيد لها الملعقة بطريقة صحيحة.
“هل السقوط خطأ سيئ؟”
“الخطأ ليس سيئًا لكن أن تعرفي الصواب ثم تتعمدي مخالفته، فهذا هو السيئ.”
ومع أنّ أوليفيا لا تكف عن طرح الأسئلة، وتبدو عاجزة عن إدراك البديهيات، فإن إليانور واصلت تعليمها بصبر وسكينة.
أما لوغان فظل يراقبها عن كثب لاحظ أنّ خديها قد احمرّا قليلًا، ربما لأنها لا تجيد الشراب.
“لكن أوليفيا لم تتعمّد!”
“أعلم ذلك ولن تفعليها عمدًا فيما بعد، صحيح؟”
هزّت أوليفيا رأسها بسرعة إلى الأعلى والأسفل لو كانت سيندي حاضرة لرأت ذلك قلة تهذيب وعَبست استنكارًا.
“وحين تحاولين الأكل بسرعة، يسهل أن ينسكب الطعام فلنجرّب ببطء قليلًا.”
رفعت أوليفيا الملعقة ونظرت إلى الحساء بتصميم واضح، لكنها أمسكت بها بارتعاش، كأنها تخشى أن تسقط ولو قطرة واحدة.
أخذت إليانور تراقبها، ثم ابتسمت بصمت.
هذه الطفلة التي ترفضها أمها وتريد التخلّص منها، بدت في عيني إليانور غاية في الجمال والبراءة.
أمّا لوغان، فبقي يمعن النظر في هذا المشهد.
“امرأة غريبة حقًا…”
وكأنها شعرت بنظراته، رفعت إليانور رأسها، فالتقت عيناهما.
وبدت عليها الحيرة، وارتجفت عيناها الرماديتان مضطربتين، ثم ما لبثت أن ابتسمت بخجل ووجنتاها مورّدتان.
كانت أشعة الشمس القوية المتدفقة من النوافذ الكبيرة تسطع على شعرها، فتلألأت هالتها بضوء ذهبي بديع.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
The Time When Love Intersects
تحتوي القصة على موضوعات حساسة أو مشاهد عنيفة قد لا تكون مناسبة للقراء الصغار جدا وبالتالي يتم حظرها لحمايتهم.
هل عمرك أكبر من 15 سنة
التعليقات