بعد أن أنهت أوليفيا استحمامها، دخلت غرفة النوم بوجه مريح بدا أكثر صفاءً على الرغم من بقاء آثار الاحمرار حول عينيها.
كانت إليانور قد جلست على الكرسي بانتظارها، لكنها ما إن رأتها حتى نهضت من مكانها.
قالت إليانور
“سأتولى الأمر، يمكنك الانصراف.”
ثم تسلّمت بطبيعية من الخادمة المنشفة التي كانت تلفّ شعر أوليفيا.
أما الخادمة، فبدت سعيدة بالتخلص من العمل المرهق، وغادرت دون اعتراض يُذكر.
“مرحباً، أوليفيا.”
ألقت أوليفيا نظرة خاطفة عبر المرآة على وجه إليانور، الذي تراه لأول مرة كانت تظن أن أحداً لا ينتبه إليها، لكن عينيها الزرقاوين المشابهتين لعيني لوغان لم تكفّا عن التحرك والتحديق بها.
قالت إليانور بابتسامة هادئة
“اعتباراً من اليوم سأكون معلمتك.”
“…….”
“اسمي إليانور هدسون يمكنك مناداتي إليانور ببساطة.”
بدأت إليانور تمسح شعر أوليفيا بعناية.
وكلما امتصت المنشفة مزيداً من الماء وازدادت ثِقلاً، أخذت شفتا أوليفيا تتحركان بخفة، كأنها تريد أن تقول شيئاً لكن الخوف كان يمنعها.
لم تتعجلها إليانور، بل انتظرت بصبر.
وحين أوشكت خصلات الشعر على الجفاف، لم تكن أوليفيا قد نطقت بعد عيناها اللتان تحدقان في إليانور لم تخلُيا من لمحة شكّ.
قالت إليانور برفق
“لابد أن أوليفيا متعبة اليوم، فهل نكتفي بالتحية بدلاً من الدرس؟”
أومأت أوليفيا إيماءة صغيرة.
“سأعرّفك بنفسي مجدداً اسمي إليانور هدسون، ومن اليوم، بل من الغد، سأكون معك في دروسك.”
قدمت إليانور نفسها مرة أخرى بهدوء.
“……إيلي؟”
“نعم، يمكنك مناداتي بهذا الاسم أيضاً فهل تُعرّفينني بنفسك يا أوليفيا؟”
عند سماع صوتها اللطيف، فتحت أوليفيا فمها ببطء وقالت بتردد
“أو… أوليفيا كلافن…….”
“وكم عمركِ؟”
“ثم… ثماني سنوات.”
كان واضحاً أنها غير معتادة على الحديث، إذ كانت تتردد وتتعثر مع كل كلمة تقولها.
واعتقدت إليانور أنه ربما لا تملك حصيلة كبيرة من الكلمات نظرت إليها بعينين مثقلتين بالحزن، فهي تعلم أن أوليفيا نشأت في ظلّ إهمال مبطّن.
“اليوم سأكتفي بمراقبة كيف تقضين وقتك وغداً سنفعل شيئاً تحبينه ما الذي ترغبين في فعله؟”
رفرفت عينا أوليفيا الزرقاوين كأن الدموع تغمرهما رغم أنها لم تبكِ.
“ألستِ ترغبين في شيء؟”
“……لا أعرف.”
تمتمت أوليفيا بوجه يوشك أن يبكي.
لقد اعتادت أن تسمع فقط ما يُمنع عنها، حتى أصبحت تجهل ما قد تريده ، وما فائدة أن تكبر في بيت جميل إن كان حالها لا يختلف عن طائر محبوس في قفص؟ سيندي لم تفكر يوماً في السماح لأوليفيا بالخروج من خلف الجدار، أو حتى من وراء باب غرفتها.
صحيح أن لوغان بدا وكأنه يحنو على أوليفيا، لكنه مهما حاول، لم يكن بوسعه البقاء معها طوال الوقت بل وحتى في شؤون البيت، وخصوصاً تلك المتعلقة بابنة سيندي، لم يكن في وسعه التدخل مثلها.
قالت إليانور بابتسامة مطمئنة
“غداً سنبحث معاً عن الشيء الذي ترغبين في فعله.”
حدّقت فيها أوليفيا بعينين ضيقتين مليئتين بالشك.
وفي تلك اللحظة خطرت ببال إليانور صورة لوغان؛ فملامح أوليفيا وهي تختبرها وتقرأ مكنونها تشبه تماماً ملامحه عندما كان ينظر إليها بالطريقة ذاتها.
“كذب.”
“بل حقيقة.”
كم هو مؤلم أن طفلة في الثامنة لا تعرف سوى الشك والاتهام.
لابد أنها لم تسمع إلا الأكاذيب طوال حياتها حتى غدت هذه الكلمات أول ما ينطق به لسانها لم تملك إليانور سوى أن تطلق ضحكة قصيرة من فرط الدهشة.
***
قال آشر وهو يقذف بتفاحة لامعة عدة مرات في الهواء
“لم تكن هناك مشكلة خاصة في الميناء فالمناوشات بين البلدين أمر معتاد دائماً.”
أما لوغان، فكان متكئاً بإهمال على النافذة الواسعة، ممسكاً بسيجار بين أصابعه بعدما أزاحه عن شفتيه، ونفث الدخان ببطء.
“حركة نقل المعدات العسكرية ازدادت لا يبدو أنه أمر يمكن التغاضي عنه.”
ازدياد حركة نقل المعدات في وقت لم تُسجَّل فيه أي استفزازات، بل على العكس، كانت الأجواء أكثر هدوءاً من المعتاد، كان أمراً يثير الريبة أمران كهذا لا يمكن أن يجتمعا.
قال آشر باستخفاف
“لقد أوصيت بمراقبتها باستمرار، وسيبقون على ذلك.”
ثم مدّ نحو لوغان التفاحة الحمراء.
“ما الذي تفعله؟”
“إنها تفاحة الاعتذار، لعودتي خالي الوفاض.”
ابتسم لوغان ابتسامة خفيفة لتلك المزحة المرحة، ثم أعاد السيجار إلى شفتيه، وأخذ التفاحة من يد آشر.
قال باقتضاب
“أقبلها.”
“عليك أن تشكرني أيضاً.”
رد آشر بسخرية على هذا القبول السهل لكنه سرعان ما مال برأسه قليلاً، وبدا على وجهه شيء من التردد.
تمتم
“لا… ربما هو أمر يستحق الشكر حقاً.”
بدت ملامحه شاردة كالأبله فرفع لوغان حاجباً وهو يراقبه يقول كلاماً مبعثراً.
“في طريقي صعوداً من دوڤ، مررت بكينت وأخذت قسطاً من الراحة هناك.”
هل يشكرني لأنه سمحت له بالراحة؟ تساءل لوغان في نفسه، غير عابئٍ بما سيتبع من كلام.
“على أية حال، الأمر هكذا.”
وكما توقع، لم يكن سوى هراء كان يضحك وحده كمن مسّه الجنون، لا يختلف عن الأبله في شيء.
قال آشر وهو يغير الموضوع فجأة
“بالمناسبة، لماذا عيّنت معلمة خاصة لأوليف؟ ألم يكن من المفترض أن ترسلها إلى مدرسة عامة؟”
أجاب لوغان ببرود
“سيندي كلافن اعترضت بشدة.”
لم يفهم سبب هذا الانتقال المفاجئ في الحديث، لكنه لم يجد داعياً لإخفاء الأمر عن آشر الذي يعرف التفاصيل مسبقاً.
“ثم إن أوليفيا لم تكن مستعدة بعد.”
ورغم أن أحداً قد لا يجرؤ على مضايقة فرد من أسرة دوق كلافن، إلا أنه لا أحد يعلم ما قد يحدث بعيداً عن الأعين.
بالنسبة للوغـان، كانت أوليفيا مجرد أخت صغيرة عادية، لكن بالنسبة للآخرين لم يكن الأمر كذلك سيندي استغلت هذه الحجة لإقناعه.
وفي الحقيقة، إذا فكّر في أن سيندي لا ترغب إلا في التخلص من أوليفيا، فمن المستبعد أن يكون اعتراضها بدافع القلق عليها أو الخوف من تعرضها للأذى.
“امرأة مزعجة.”
تمتم لوغان وهو يعتدل من اتكائه على النافذة، ثم سحب نفساً أخيراً من سيجاره وألقاه في المطفأة.
سأله آشر
“إذاً، هل تخلّيت تماماً عن فكرة إرسالها إلى المدرسة؟”
“سأرى لاحقاً إن تمكّنت أوليفيا خلال بضع سنوات من الالتحاق بالمدرسة، فسأدفع لمعلمتها أجر ثماني سنوات دفعة واحدة، ثم أنهي العقد.”
لم يخبر إليانور بذلك، لكنه كان عرضاً مغرياً للغاية فهي ستحصل على كامل المبلغ، حتى لو لم تُكمل السنوات كلها.
ثم نظر لوغان إلى آشر فجأة باستغراب وسأله
“لكن كيف عرفتَ بوجود معلمتها الخاصة؟”
فلوغان لم يذكر له من قبل شيئاً عن إليانور.
ابتسم آشر وقال ضاحكاً
“أوليف أقامت ضجة صغيرة قبل قليل وجدتها وقد غطّت رأس إليانور بملاءة بيضاء مثل الشبح.”
“……إليانور؟”
“التقيت بها في القطار المتجه إلى ساذرن.”
أجاب آشر وهو يضحك بخفه.
لكن ابتسامته انطفأت فجأة حين لمح وجه لوغان الصارم ينظر إليه بلا تعبير، فارتبك قليلاً.
قال له لوغان بنبرة تحذيرية
“تذكر ما كنت أقوله لك دائماً.”
كان يقصد أنه لا يُسمح بلمس أي من خدم القصر فأسرة فيتسمان ليست من البيوت التي يمكن أن يتورط معها أحد ولوغان لم يرد لأي من خدم القصر أن يتعرض لأذى بسببه، حتى لو كان الفاعل صديقه المقرب آشر.
حاول آشر التهرب قائلاً
“لكنها ليست خادمة.”
فأجابه لوغان بنبرة خطيرة وهو يميل برأسه
“هل تحاول المزاح معي الآن؟”
أسرع آشر يبرر بوجه متحسر
“إنها أيضاً من أسرة بارون.”
بالطبع، كان الأمر كذلك كانت إليانور في وضع مختلف قليلًا عن الخدم العاديين من عامة الشعب لا يمكن تجاهل حقيقة أن ما تبقى من مكانتها هو مجرد اسمٍ ومظهر، إلا أن عائلة هدسون كانت عائلة بارونية نالت لقبها مباشرة من الملك.
ومع ذلك، لم يكن آشر فيتسمان يبدو خيارًا جيدًا لإليانور، التي جاءت إلى بلادٍ غريبة لكسب لقمة العيش.
لو كانت مخطوبة، لما انتهى بها المطاف إلى هذا المكان، ومن غير المرجح أن تكون إليانور، التي عاشت حياتها كلها تحت أعين والدها، قد تأثرت بأفكار الحب الحر كانت احتمالية ذلك تقترب من الصفر.
“إن لم تكن تملك الثقة لتصمد في وجه العالم كله، فلا تفكر حتى بإثارة الأمر.”
لو كانت إليانور على علاقة بأحد الآن، فمن المؤكد أن الغاية ستكون الزواج لكن آشر، الذي بالكاد تعرّف إليها، لم يكن من النوع الذي يملك مشاعر عميقة إلى ذلك الحد وحتى لو شعر بذلك، لم يكن من المتوقع أن تستقبل عائلة فيتسمان إليانور بالأحضان.
“يا هذا، دوق كلافن، هل أنت أحد أفراد عائلة إليانور هدسون الخفية، مثلًا؟”
“يمكن القول إنني مجرد رب عمل ملزم بحماية موظفيّه.”
رد لوغان بحزم.
لو كانت المسألة مجرد لقاء عابر، لكان الأمر مختلفًا، لكن إليانور جاءت إلى القصر كمعلمة خاصة لأوليفيا، وهو وضع سيستمر لعدة سنوات على الأقل، مما يضعها تحت ظل لوغان ومسؤوليته.
“لكن من غير المعقول أن يتدخل رب العمل في علاقات موظفيه العاطفية.”
احتج آشر كما لو أن الأمر لا يُصدق.
“هل رأيتني يومًا أعبث مع خدم القصر؟ إلى هذا الحد…”
“حسنًا.”
يبدو أن آشر لا ينوي الاستسلام بسهولة ومنذ البداية، لم تكن المسألة تتعلق بإرادة لوغان أو آشر، بل كانت الأهم هي مشاعر إليانور.
تنهد لوغان بعمق وفتح فمه قائلاً
“إذا قالت الآنسة هدسون إنها لا تريد، فستنصرف دون أي اعتراض.”
“أنا لست نذلًا يلاحق فتاة قالت له لا ، ولن أتصرف بوقاحة.”
أجاب آشر بهدوء
“أنا لست من أولئك الحمقى الذين يلاحقون امرأة قالت لا ولن أتصرف بشكل فظ أو وقح.”
ثم أضاف آشر بعد لحظة مازحاً بنبرة تمرد
“ولكن بصراحة، حتى لو كنت قد اعترضت حتى النهاية، لما كنت لأهتم.”
ثم همس وهو يبتسم
“لقد شعرت بالقدر بمجرد أن التقت أعيننا.”
ارتسم العبوس على جبين لوغان، فيما همس آشر كانت عينا آشر البنفسجيتان دافئتين، لكن هناك حرارة غريبة تختزن فيهما.
حينها فقط أدرك لوغان أن آشر، الذي كان في ذاكرته يبدو كصبي بريء حتى بعد تخرجه من الأكاديمية العسكرية، قد أصبح الآن رجلاً مكتمل البنية، مختلفاً عن الصورة التي عرفها عنه.
كانت تلك لحظة صيفية، تحمل ألوان الشباب وروح نضجٍ متأرجحة بين الطفولة والرشد.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
The Time When Love Intersects
تحتوي القصة على موضوعات حساسة أو مشاهد عنيفة قد لا تكون مناسبة للقراء الصغار جدا وبالتالي يتم حظرها لحمايتهم.
هل عمرك أكبر من 15 سنة
التعليقات لهذا الفصل " 5"