كان الرجل الواقف أمامها دون شك هو دوق كلافن، الرجل الذي استأجرها وما إن استوعبت إليانور الموقف حتى سارعت بتحيته، إلا أن عينيّ لوغان الزرقاوين، المغمورتين بضوء المصابيح الكهرماني، كانتا تكتنفهما الحيرة تجاه شخص لا يعرفه.
“أنا إليانور هدسون، تم توظيفي كمعلمة للآنسة أوليفيا.”
“آه، الآنسة هدسون. لقاء غير متوقّع، لكن… سعيد بلقائك أنا لوغان كلافن.”
قال لوغان ذلك دون أن يبدي انزعاجًا من حالة شقيقته المزرية، بل ذهب يرتب شعرها ويقبّلها على جبينها برفق، مهدئًا من روعها.
“لقد أصبحتِ بخير الآن، لا تبكي يا أوليفيا.”
“لوغان… لوغااان…”
تمتمت أوليفيا، ما زالت تعانقه بذراعيها الصغيرتين وهي تئنّ.
قالت إليانور بتوتر، محاولة توضيح الموقف قبل أن يُساء الظن بها
“كنت أشعر ببعض الانزعاج فخرجت في نزهة، وسمعت صوتًا في الحديقة، فعثرت على الآنسة أوليفيا هناك.”
هزّ لوغان رأسه مطمئنًا
“أوليفيا تهرب أحيانًا من أنظار الخدم لا داعي للقلق، لم يسُء الظن بكِ.”
ثم مدّ يده ليمسح الشعر العالق خلف أذن أخته، الذي التصق بسبب العرق، ولم يكن من السهل ترتيبه رغم محاولاته الحانية.
“هل خرجت والدتي؟”
“نعم، لم تعد بعد.”
أجاب كبير الخدم جورج ، وقد أتى مسرعًا فور أن علم بوصول سيده أدركت إليانور بسرعة أن شيئًا ما في هذا الوضع لم يكن كما قيل لها سابقًا.
“وتركت أوليفيا وحدها في الغرفة؟”
“… نعم، يا سيدي.”
أجاب جورج بحذر، فانعقد جبين لوغان في انزعاج ظاهر.
“يعني أنك لم تلتقِ بهدسون حتى الآن.”
“قالت إنها ستقابلها بعد عودتها.”
“رائع جداً.”
تمتم لوغان بسخرية واضحة، ثم نظر إلى شقيقته، التي بدا أنها هدأت في حضنه وبدأت تغفو.
“اطلب من الخادمات أن يجهزن لها حمامًا.”
“أمرُك يا سيدي.”
أجاب جورج بانحناءة، ثم انسحب أما إليانور، فقد كانت تراقب الموقف بصمت، ثم حاولت أن تنسحب بهدوء.
“الآنسة هدسون.”
“نعم؟”
ناداها صوت لوغان العميق، فالتفتت إليه وقد اتسعت عيناها قليلاً من المفاجأة.
“أعتذر لكوننا لم نتحدث كما ينبغي منذ قدومك.”
“لا بأس، يا سيدي لستُ ممن ينتظرون معاملة خاصة.”
قالت ذلك بابتسامة مجاملة.
لكن رده جاء بعكس توقعها
“إن كنتِ ستقومين بتعليم أوليفيا، فأنتِ تستحقين التقدير.”
كان صوته حازمًا، كأنه ينهاها عن التقليل من قدر نفسها بدا جليًا أن لوغان يكنّ محبةً خاصة لشقيقته الصغرى، رغم الفارق الكبير في السن.
“اصعدي إلى السيارة من فضلكِ سأُوكل الخادمات بأمر أوليفيا ونتمكن من الحديث بهدوء.”
رغم أنها كانت تفضّل تجنّب البقاء وحدها في مكان مغلق مع ربّ عملها، إلا أنه لم يكن لها سبب وجيه لرفض طلبه.
صعدت إليانور خلفه بحذر، وضبطت ثوبها أثناء جلوسها، بينما كان هو لا يزال يُهدهد أوليفيا التي غفت وهي تضع رأسها على عنقه.
وإذا ما أخذ المرء في الاعتبار أنه جندي معتاد على النظام الصارم، وأن ملامحه توحي بالصرامة والحدة، فإن تصرّفه ذاك لم يكن مما يليق بتلك الصورة على الإطلاق.
بل كان متناقضًا حتى مع عبيرٍ نفّاذٍ يعبق منه ومع ذلك، فقد بدا تصرّفه في تهدئة الطفلة مألوفًا للغاية، كأنما دُرّب عليه مرارًا.
“من فضلك أخبِر الخادمات أن يقمن بتحميم أوليفيا وإدخالها إلى النوم فقد تهرب فجأة، لذا عليهن مراقبتها حتى تغفو.”
“حاضر، سيدي.”
“وأحضِر الشاي لي وللآنسة هدسون.”
دخل لوغان إلى القصر وهو ينزع سترته ليعلّقها على ذراعه، وقال عبارته تلك ورغم أن موقعه يجعله قادر على إصدار الأوامر ، إلا أنه استعمل كلمة من فضلك بطبيعته، فكان بعيدًا كل البعد عن الصورة النمطية التي رسمتها إليانور عنه.
“آنسة هدسون، من هذه الجهة.”
قال لوغان وهو يفتح باب غرفة الاستقبال مشيرًا إليها بعينيه تبعته إليانور بخطوات مترددة مسرعة.
“أعتذر لتأخر الحديث.”
كانت تلك المرة الثانية التي يعتذر فيها.
لقد توقعت أن يفرض سلطته وسطوته بلا هوادة، لكن الأمر بدا على خلاف ما تخيّلت، حتى إنها شعرت بالحرج لظنها الأول.
أشار لوغان إلى المقعد لتجلس عليه جلس هو أولًا، ثم فكّ ربطة عنقه المشدودة، وحلّ أزرار أكمامه، وطوى كمّ قميصه مرتين إلى الأعلى.
ساد جوّ من الارتخاء، غير أن القماش المشدود على ذراعيه أظهر قوة واضحة، فيما كشفت الأكمام المرفوعة عن معصمين ويدين بارزتي العروق.
كان رجلاً لم يسبق لإليانور أن التقت بمثله قط شعرت بتوتر غريب يسري في أوصالها.
“أنا حقًّا بخير، سيدي.”
ابتلعت إليانور ريقها بصعوبة، وقد بدا مقعدها أشبه بمجلس أشواك عندها دخلت خادمة تحمل إبريق الشاي والفناجين.
“شكرًا لكِ.”
شكرت إليانور بهدوء، وتناولت فنجانها بحركة رقيقة بالكاد تُسمَع لحقها نظر لوغان بنظرة ذات مغزى.
“أظن أنكِ فوجئتِ بلقاء أوليفيا على غير توقّع.”
بدأ لوغان الحديث بنبرة هادئة.
وبما أن ظهور أوليفيا، التي قيل إنها خرجت مع سيندي، كان مفاجئًا فعلًا، لم تُنكر إليانور أنها ارتبكت.
“لا أعلم إن كنتِ جئتِ وأنتِ على دراية بالأمر أم لا، لكن حتى لو لم تكوني تعلمين، فستعلمين عاجلًا أو آجلًا، لذلك لن أخفيه عنك أوليفيا تختلف قليلًا عن سائر الناس.”
رمشت إلينور بدهشة أمام كلماته غير المتوقعة؛ فلم تكن تعرف عن أوليفيا سوى عمرها وجنسها وضعف جسدها، وكل ما علمته جاء من صديقتها القديمة ليلي، ابنة أسرة الكونت بيلود، التي ساعدتها في الحصول على هذه الوظيفة
“والدتي ترى في ذلك عارًا كبيرًا.”
في لَدَن كان وجود ذوي الإعاقة أمرًا مُعترَفًا به لكنه منبوذ في المجتمع، بل كان يُمحى من الحياة العامة محوًا.
أما في أسر النبلاء، التي تتفاخر بصفاء أنسابها، فكان الأمر أشد قسوة وما خفي خلف الجدران من مآسٍ لم يكن يَعلم به أحد: فكم من طفل تُرك ليموت جوعًا أو ضُرب حتى فارق الحياة.
“يبدو أنها تفكّر في تزويجها بأي شخص كان حين تبلغ سن الزواج، ثم ترسلها بعيدًا…….”
تنهد لوغان بصوت خافت.
“لا أرغب في مربية تُعلِّمني ما تُعنيه الإشارات بالمروحة في المجتمع الراقي.”
كانت سيندي كلافن زوجة والد لوغان.
أما دوق كلافن السابق، فقد توفي في حادث مأساوي وعلى الرغم من أن أوليفيا كانت أخت لوغان، إلا أنها في الحقيقة ابنة سيندي، وبالتالي لم تكن سوى أخت غير شقيقة.
“قيل لي إن أوليفيا تبدو غافلة في العادة، لكنها تُظهر تركيزًا شديدًا حين يتعلق الأمر بما تهتم به.”
أي إن العلاقة بينه وبين أوليفيا ليست قريبة لدرجة تستدعي منه هذا القدر من الاهتمام، خاصة وهو مشغول بأعماله.
“لقد أوكلت إلى والدتي مهمة اختيار المعلمة المنزلية، لذا لا أعرف الكثير عن الآنسة هدسون لكنني آمل أن تكون ممن لا يستهينون بأوليفيا، بل يسعون لمعرفة ما يشدّ اهتمامها ويقومون بتعليمها بناءً على ذلك.”
لكن من الواضح أن لوغان كان يُكنّ لأخته غير الشقيقة قدرًا من المودة وكأنها أخته الحقيقية.
“إن لم تكوني واثقة من قدرتك على تعليم أوليفيا، فبإمكانك المغادرة الآن لن نلومك، فالمشكلة تقع علينا لأننا لم نوضح الأمر مسبقًا أعدكِ بأنكِ لن تتعرضي لأي ضرر.”
كان ذلك اختبارًا أراد لوغان من خلال حديثه أن يرى ردة فعل إليانور على وضع أوليفيا، وأن يتخلص منها إن لم تكن على قدر توقعاته.
فرغم أن سيندي كلافن كانت من وظفتها، إلا أن سيد المنزل الحقيقي كان لوغان كلافن.
“لكن فقط تذكري أن آذان عائلة كلافن موجودة في كل مكان.”
استند لوغان بمرفقه على ذراع المقعد، وابتسم ابتسامة خفيفة.
لكن القشعريرة التي سرت على جلدها لم تكن بسبب الابتسامة، بل بسبب تلك النظرة الهادئة الباردة في عينيه التي لم تكن تبتسم إطلاقًا لم يقل المزيد، لكن إليانور استطاعت أن تخمّن ما الذي كان ينوي قوله.
“لا أرغب بسماع أن شائعات خبيثة عن أوليفيا تخطت جدران قصر كلافن.”
كان تهديدًا واضحًا، حادًا كالسكين: إن جعلتِ من أخته مادة للسخرية أو نشرتِ سرّها خارج الجدران، فلن تمرّ الأمور بسلام.
حينما قابلت إليانور لوغان للمرة الأولى، شعرت بتلك الهيبة التي تحيط به، فخفق قلبها بشدة.
رغم أنها لم تكن تنوي التحدث عن أوليفيا بسوء، إلا أن الخوف تملّكها.
“أنا لا أعتقد أن الآنسة أوليفيا لديها مشكلة على الإطلاق.”
لكن لم يكن من المناسب أن تُظهر خوفها جلست إليانور باستقامة وتحدثت بثقة كانت لديها أسبابها الخاصة التي تُحتم عليها البقاء والعمل في قصر كلافن.
ثم إن وجود إعاقة لدى أوليفيا – إن وُجدت – لا يشكّل سببًا كافيًا لعدم تعليمها بل على العكس، هذا ما زاد من رغبتها في تعليمها، لأن اسم أوليفيا أعاد إلى ذاكرتها أختها الراحلة قبل سنوات.
“ولا أظن أن أوليفيا تختلف عن غيرها وإن لم ترَاني معلمةً مناسبة وأردتَ طردي، فلن أُفشي شيئًا عن أوليفيا أو أتحدث عنها بسوء.”
نظر لوغان إلى إليانور مائلًا برأسه قليلاً، كما لو كان يحاول سبر نواياها كانت إلينور تشعر كأنها أرنب صغير موضوع أمام أسد ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض، بينما كانت تترقب كلماته بفارغ الصبر.
“يبدو أن والدتي – دون أن تقصد – قد وجدت معلمة جيدة لأوليفيا أرجو أن تعتني بها جيدًا.”
تم الأمر كتمت إليانور تنهيدة ارتياح داخل حلقها.
“ما دمت قد وثقتَ بي، فسأبذل قصارى جهدي.”
قالت إليانور بصوت هادئ، يُظهر عزمها وإصرارها.
“بإمكانكِ الانصراف.”
قالها لوغان وهو يومئ برأسه إشارة إلى انتهاء الحديث فحيّته إليانور باحترام، ثم انسحبت بهدوء.
“هاه…”
ما إن أغلقت الباب خلفها، حتى خرجت تنهيدة ارتياح من صدرها لكن قلبها لا يزال يخفق بسرعة.
كان لوغان رجلاً مهذبًا، لم يُظهر أي وقاحة أو سلوك عدواني تجاه النساء.
لكن إليانور فهمت تمامًا أنه لا يثق بها بعد، وأن عليها أن تُثبت جدارتها عبر أفعالها، لا بكلماتها.
كان مثل تشارلز، لكنه لا يلجأ للسكر وتحطيم الأشياء أو الصراخ بل يُحسن توجيه التحذيرات بأناقة.
ولهذا، فهو أكثر رعبًا.
هكذا فكرت إليانور، وهي تُلقي نظرة على غرفة الاستقبال قبل أن تصعد الدرج هاربة كأنما تطاردها الأشباح.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
The Time When Love Intersects
تحتوي القصة على موضوعات حساسة أو مشاهد عنيفة قد لا تكون مناسبة للقراء الصغار جدا وبالتالي يتم حظرها لحمايتهم.
هل عمرك أكبر من 15 سنة
التعليقات لهذا الفصل " 3"