غير أنّ المأساة كانت تخصّه وحده فمهما كان عالم لوغان قد انقلب دفعةً واحدة، فإنّ العالم من دونه بقي كلّه على حاله السابق.
“هل كانت ليلتك مريحة؟”
وكان لا بدّ أن يكون الأمر كذلك فهو لم يُرِد أن يُظهر أوّل خسارة مرّ بها.
“نعم، بفضل سموّك.”
أجابت إليانور بابتسامة نضرة، وكانت بسمتها مشرقة تأسر النظر يُقال إنّ المرأة إذا وقعت في حُبها ازدادت جمالًا، ولا يُعلم أهو ذلك السبب، أم أنّ مشاعره التي استيقظت متأخّرة جعلت إليانور تبدو في عينيه أجمل ممّا كانت عليه من قبل
“أعتذر عمّا حدث في قاعة الاحتفال لم أقصد أن تركك وحدك.”
“آه… لا بأس لقد ساعدني اللورد آشر كثيرًا.”
وما إن ذُكر اسم آشر حتى احمرّ وجنتا إلِيانور قليلًا لا شكّ أنّها تذكّرت اعترافه وقبلته التي نالتها في الليلة الماضية.
“… إذن فهذا حسن.”
كان طعم فمه مرًّا، غير أنّه إن أراد أن يدفن قلبه بصمت، فعليه أن يعتاد هذا الألم
***
“إيلي! “
ما إن فُتح باب العربة حتى انطلقت أوليفيا كالرصاصة نحو الخارج مع أنّ غياب إليانور لم يتجاوز يومًا ونصف يوم، كان شوقها بهذا القدر.
“أوليفيا، هل كنتِ بخير”
ولكن حين يأخذ المرء في الحسبان أنّ من تتّكل عليهم أوليفيا في هذا القصر هما إليانور ولوغان فقط، فإنّ ردّة فعلها كانت مفهومة وبخاصة أنّ لوغان لم يعد اليوم من العاصمة مع إليانور بحجّة انشغاله فمدّت إليانور يدها تربّت على ظهر أوليفيا التي تعانق خصرها بقوة.
“أوليف بقيت هادئة.”
“… حقًّا؟”
قصرٌ خلت فيه إليانور ولوغان، ولم يبقَ فيه سوى سيندي لم يكن أمام أوليفيا خيارٌ أفضل من أن تخفض رأسها وتبتعد عن أنظار أمّها وبرغم توقّعها لذلك، شعرت إليانور بالذنب لتركها وحدها.
“إذًا، هل نرسم معًا غدًا؟”
“نعم!”
تهلّل وجه أوليفيا فرحًا فمنذ بدأت إليانور بتعليمها، بدأت تهتمّ بالأرقام وتُحسن الحساب قليلًا، لكنّ الرسم وخلط الألوان كانا يثيران اهتمامها أكثر من أي شيء آخر.
“والجوّ أصبح أقلّ حرًّا هذه الأيام، فسنحظى بوقت جميل إذا رسمنا تحت ظلّ الشجرة.”
يبدو أنّ الاقتراح راق لها، إذ ابتسمت ابتسامة عريضة، وقد بدا سنّها اللبني المخلوع منظرًا مضحكًا قليلًا، لكنّها كانت لطيفة كما يليق بأطفال في مثل عمرها.
“واليوم؟”
“اليوم يوم راحة.”
أخذ السائق حقائب إليانور من العربة وناولها للخادم فحيّته بإيماءة امتنان، ثم أجابت أوليفيا بلطف.
“إذًا لن نفعل شيئًا؟”
“همم… نعم.”
“إذًا احكي لي عن الحفلة!”
صرخت أوليفيا بحماس وهي تقفز في مكانها بدا أنّها متشوّقة لمعرفة كيف كانت الحفلة التي لم تستطع حضورها.
“بعد أن أغتسل اذهبي إلى غرفتك يا أوليفيا، وسألحق بك بعد قليل.”
“حسنًا!”
هزّت أوليفيا رأسها مرارًا، ثم هرعت إلى داخل القصر ويبدو أنّها فكّرت أنّها إن أسرعت، فستُسارع إليانور أيضًا.
“آنسة هدسون.”
“نعم؟”
في اللحظة التي همّت فيها إليانور بالتحرّك مبتسمةً، ناداها السائق.
“هذه رسالة من اللورد آشر، طلب منّي إيصالها إليك.”
آه رمشت إلينور بذهول لحظة، ثم أخذت الرسالة وظهرت على شفتيها ابتسامة خجولة.
ما زال من الصعب التصديق أنّ آشر أصبح الآن حبيبها حبيب… حبّ لا يزال ربط نفسها به بتلك الكلمة المُحرِجة أمرًا يصعب استيعابه.
“شكرًا لك.”
ابتسم السائق بدوره واستدار مبتعدًا راقبت إليانور مشيته حتى رأتَه يعود إلى العربة ليصفّها، ثم فتحت الرسالة بحرص.
“…إلى آنستي العزيزة، إليانور.
من مُحبّك، آشر.
قد تتساءلين ما الداعي للرسالة وقد كنّا معًا حتى ليلة الأمس لكنّني ما إن وضعت رأسي لأنام حتى شعرت بأنّ صدري سينفجر، وأفكاري لا تفارقك، فلم أستطع إلا أن أتناول القلم.
في الحقيقة، كان إقراري اليوم فعلًا طائشًا صحيح أنّي جهّزت العقد مسبقًا، لكنّني لم أكن أنوي الاعتراف لك اليوم تحديدًا لكنّك كنتِ في رقصة مع لوغان رائعة الجمال… ولم تكوني تعلمين أنّ أولئك الحمقى جميعًا يحدّقون بك كالمسحورين.
فاندفعتُ أعترف لك وأنا أعلم أنّك قد ترفضينني فلعلّ أحد أولئك الرجال يخطفك قبلي لذلك، حين لاحظتُ أنّك أكثر ليونة من ذي قبل، راهنت على تلك الفرصة كلّها.
لكنّك قبلتِ برجلٍ ناقص مثلي، وجعلتِني بذلك أسعد رجل في الدنيا.
آه يا إليانور… وأنا أكتب هذه السطور، تعود إليّ بهجةُ تلك اللحظة التي ارتميتِ فيها باكية بين ذراعيّ، ويرتجف قلبي من جديد كما ارتجف عند أوّل قبلة بيننا إنّها سعادة لا يمنحني إيّاها أحد سواك
أريد أن أكون بقربك الآن، وسأرغب في ذلك غدًا وما بعد الغد أيضًا وما يؤلمني أشدّ الألم أنّك خلف أسوار دوقية كلاڤن، فلا أستطيع رؤيتك حين يشتهي القلب لذلك، وحتى إن ضاق بي الدوق، فسأكثر من زياراتي كي أراك.
فاستقبليني، يا حبّي
من محبّك، آشر فيتسمَان.”
تجعّدت الرسالة قليلًا في يدها وهي ترتجف كان قلبها يخفق بجنون، وقد احمرّ خدّاها كزهرتي خوخ، من شدّة الحبّ الذي فاض به حبر الرسالة.
“كيف يكون على هذا القدر من السلاسة…؟”
لم تستطع سوى أن تلومه قليلًا لكونه رجلًا لا يعرف التردّد في التعبير عن الحبّ تمتمت بهذا وهي تطوي الرسالة بعناية.
“آنسة هدسون، لقد عدتِ؟”
ما إن خطت قدمها داخل القصر حتى بادرها كبير الخدم، جورج، بالتحية فاكتفت بإيماءة قصيرة جوابًا.
“يبدو أنّ أمرًا جميلًا حدث في الحفلة.”
“نعم؟ “
“بدت على وجهك مسحة حماسٍ غريب.”
كان جورج، كبير الخدم، في مثل سنّ تشارلز والد إليانور تقريبًا ثمّ إنّ طبيعة عمله كخادمٍ كبير تجعل حسّه مرهفًا تجاه أمور الآخرين.
“آه، لا لا شيء مميز.”
بادرت إليانور بالإنكار فورًا لكنّ نظرة عينيه قالت إنّه استوعب الأمر من أوّل وهلة ابتسم جورج ضاحكًا بخفّة، كمن يعلم الحقيقة ويتغافل عنها عمدًا.
“لابدّ أنّ عناء السفر أثقل كاهلكِ اذهبي وارتاحي.”
“… شكرًا لك.”
شعرت للحظة كطفلةٍ حاولت أن تكذب بكذبةٍ مكشوفة انحنت قليلًا ثم أسرعت تصعد الدرج سواء اكتشف جورج الحقيقة أم لم يكتشف، فقد كانت تريد أن تغتسل وتتهيّأ سريعًا فآشر قد يظهر في أيّ لحظة، ولا تريد أن يراها على هيئة غير مرتّبة، خاصة بعد أن أصبحا للتوّ عاشقين.
وفوق ذلك، كان لديها شعورٌ قويّ بأنّ آشر سيظهر حقًا عمّا قريب فقد بدت الرسالة وكأنّها إعلان نوايا.
“آه…”
لكن بعد أن أنهت حمّامها، وجدت إليانور نفسها أمام مشكلة مفاجئة حين فتحت خزانة ملابسها، لم تجد فيها سوى فساتين باللون الأخضر الداكن، أو الأسود الكئيب، أو الأزرق النيلي.
وأفضل ما في الخزانة كان بلوزة بيضاء وتنّورة زرقاء داكنة وعلى الرغم من أنّ حياتها كانت دائمًا بسيطة قائمة على الضرورات، إلا أنّ الخجل تسلّل إليها حدّ أنّها لم تستطع تصديق أنّ آشر أحبّها حقًا رغم كلّ ذلك.
“لا مفرّ.”
تنفّست إليانور تنهيدة طويلة وأخرجت البلوزة البيضاء والتنّورة الزرقاء الداكنة لكنّه كان الرجل الذي وقع في حبّها وهي أبعد ما تكون عن التزيّن فليس معقولًا أن يتذمّر الآن من بساطة مظهرها.
“لا تتزوجي يا إليانور إلّا من رجلٍ يحبّك حقًّا.”
“ماذا تقولين، يا أمّاه؟”
تذكرت فجأة نصيحة أمّها، التي كانت آنذاك طريحة الفراش لم تكن إليانور تملك نية زواج، ولا مالًا، فابتسمت آنذاك بسخرية مريرة والآن، وهي تصلح ملابسها أمام المرآة، شعرت أنّ شيئًا ما ينقصها.
فتناولت مشبك الشعر القديم المزيّن بجوهرة باهتة، وثبّته قرب أذنها اليمنى. ولو قليلًا… أرادت أن تبدو أكثر بهاء.
“إليانور.”
صوت ناعم كالكريم تزامن مع طَرقٍ خفيف على الباب لم تتوقّع وصوله بهذه السرعة سارعت تفتح الباب بدهشة.
“كيف وصلتَ بهذه السرعة؟”
“لم أذهب إلى المنزل أصلًا أردت أن أراك قبل أن أعود.”
أجاب آشر ضاحكًا بخفّة ولحظتُها، ابتسمت هي أيضًا دون أن تشعر.
“استأذنت من لوغان.”
“حسنًا إذن.”
اقترب آشر منها ودفع جبينه إلى جبينها بحنان، كأنّه يعبّر عن مودةٍ صامتة شعرت إليانور بدفء جبينه يلامس جبينها المرتفع قليلًا، فانفرجت شفتاها بابتسامة راضية.
“ابحثي عن رجلٍ يقول لك إنّه يحبّك أيًّا كان شكلك أمّا الأمير الذي يمتطي جوادًا أبيض… فمكانه الحكايات، لا الواقع.”
تذكّرت صورة والدها، وتذكّرت كيف كانت تجادل أمّها ساخرّةً بأنّ رجالًا كهؤلاء لا وجود لهم.
“وعدتُ أوليفيا أن أحكي لها عن الحفلة.”
{اطلبي منها أن تمنحني دقائق أظنّها ستتفهّم.”
ثمّ اقترب منها آشر وقبّلها قبلة قصيرة، كمن لا يريد الافتراق.
“ماذا تفعل؟ نحن في بيتٍ ليس بيتك.
همست إلينور وهي تدفعه قليلاً، وملامحها تتجمّع في عبوس خفيف.
“إليانور… هل أنتِ غاضبة؟”
انحنى قليلًا ليرى وجهها بوضوح، محاولًا قراءة تعابيرها وضعت إليانور كفيها على صدره، وكتمت ضحكتها التي أفلتت رغم إرادتها.
“لو لم تكوني جميلة هكذا…”
تمتم آشر بيأس لطيف، ثمّ حكّ خدّه بخدّها، وعانقها بخفة وكان جسده دافئًا حين التصق بها.
قبل يومين فقط، لم تكن إليانور لتصدّق ذلك أبدًا لم تكن لتصدّق أنّ رجلاً ما قد يحبّها، أيًّا كان حالها أمّا الآن… فالطريف أنّها بدأت تظنّ أنّها وجدت ذلك الرجل بالفعل.
التعليقات لهذا الفصل " 23"