بينما كان لوغان يواصل حديثه وسط تدافع الناس إليه بلا توقف، توقف فجأة ونظر حوله كان هناك العديد من الأشخاص ينتظرون للتحدث معه، لكنه لم يرَ إليانور بينهم.
“أستأذن للحظة.”
في هذا الجمع، لم يكن هناك أحد يعرفه سوى آشر. اعترف لوغان بأنه قد أهمل شريكته إلينور، فاعتذر للذين كانوا يلتفون حوله قبل أن يبتعد عن المكان.
إلا أنه لم يرَ أثر إليانور في أي مكان داخل قاعة الحفل لم يكن من المنطقي أنها ذهبت إلى غرفة المكياج، إذ كانت معظم الأماكن هناك قد امتلأت بالفعل لم يكن يعرف عن إليانور الكثير، لكنه كان على يقين بأنها لن تكون وسط الحشود الصاخبة من الشابات.
“لوغان؟”
حين وصل أخيرًا إلى الممر، نادته الأميرة دافني، وقد احمرّت وجنتاها، ربما من شدة شربها.
“سررت بلقائك، يا أميرة دافني.”
“لا داعي للمجاملات المفاجئة.”
وبوضع وجهها المتجهم، وبخت دافني لوغان كان وجهها يذكّره بوقاحة تصرفه حين رفضها سابقًا.
“أكرر تهاني بالزواج.”
“شكرًا، هذا لطف منك.”
بدا أنها استاءت مرة أخرى فردّت الأميرة دافني بمزيج من السخرية والتهكم على تهانيه بالزواج
“وماذا عن الشابة التي حضرت معك؟ لماذا تتجول وحدك هنا وهناك؟”
“أبحث عنها.”
“حقًا، يبدو أنك غافل بلا حدود.”
قلبت دافني الأمر لصالحها بسخرية، فقد اعتاد لوغان على حضور التجمعات بمفرده إذا لم يكن بصحبة شريك رسمي، وكانت شريكاته في العادة من عائلات مرموقة لها صلات تجارية.
أما إليانور، التي رافقته اليوم، فكانت من عائلة متواضعة لا يعرفها معظم النبلاء في العاصمة، ما جعل الأمر يبدو كما لو أن لوغان يحاول تقديم شخص غريب عنهم، وهو ما أثار استياءها بالطبع.
“سيؤدي ذلك إلى الانفصال، أليس كذلك؟”
أراد لوغان أن يوضح أنه ليس على هذا النحو من العلاقة مع إليانور، لكنه صمت، فقد كان من الأفضل له أن يستمر سوء الفهم بين الأميرة دافني والملك دون تصحيح.
“تخيّل أن تُلفّ الشابة بالأقمشة الفاخرة والمجوهرات، وتدلّل وسط القاعة، ثم تتركك… سيكون منظر الدوق كلافن مضحكًا جدًا.”
“…….”
“يبدو أنني أتطلع لذلك.”
ضحكت دافني بسخرية، لكنها لاحظت فجأة أن وجه لوغان خالٍ من أي انفعال، حتى بدا بلا ملامح تقريبًا، فمالت برأسها بدهشة.
“هل أنت هادئ لأنك تعتقد أن هذا لن يحدث؟”
راقبت دافني بعناية عينيه الزرقاوين، محاولة فهم ما يختلج في قلبه.
“أم أنك غبي لدرجة أنك لا تعرف أنك معجب بها رغم هذا الوجه الخامل؟”
لم يرد لوغان، إذ رأى أن الأمر لا يستحق الإجابة.
“حقًا؟”
غطّت دافني فمها بيديها وانفجرت ضاحكة.
“لوغان، كان عليك أن ترى وجهك أثناء الرقص قبل قليل.”
كان صوتها عاليًا حتى كاد يملأ الممر الخالي من أي مارّ، وحملت ضحكتها النسيم من حولهم.
“كنت كالأحمق المغرم بحب أول، لا تستطيع إبعاد عينيك عن وجهها.”
“…….”
“ألم تكن جميلة؟ لم ترَ شيئًا آخر.”
همست دافني مبتسمة، ولوغان لم يستطع إنكار ذلك، فأغلق فمه مشدودًا.
“ممتع أتمنى أن تتلقى الرفض من حب أول مرة على الأقل، أيها الدوق كلاڤن.”
بعد أن ربّتت الأميرة دافني بخفة على صدر لوغان، غادرت مكانها مبتسمة وفيما بقي لوغان ثابتًا في مكانه كأنه تمثال، تمكن الأمير فيليس بمهارة من العثور على الأميرة دافني واقتيادها إلى الداخل.
“…….”
استعاد لوغان وعيه بعد حين لم يكن في ناظرته سوى حقيقة واحدة: إليانور بدت جميلة في تلك اللحظة، لكن من الطبيعي أن يشعر الإنسان بانجذاب مؤقت لشابة مزينة بشكل رائع لم يكن أمرًا استثنائيًا، ولا يمكن وصفه بالحب.
“لا تدع هراء الآخرين يسيطر عليك، لوغان كلافن .”
أطلق لوغان تنهيدة صغيرة واستأنف السير.
قالت إنها تتمنى أن أرفض مرة واحدة على الأقل
تلك المرأة الملعونة كان الشرّ الكامن في كلمات الأميرة دافني يلتصق بخطواته كالعلكة، مما زاد من سوء مزاجه.
في تلك اللحظة، دوّى خرير الماء مصحوبًا بأصوات أشخاصٍ قريبين كان المكان في الأصل مناسبًا للعشّاق الساعين إلى الخلوة، غير أنّ لوغان، وقد انساق وراء كلام الأميرة دافني، لم يفكّر في الأمر مطلقًا.
“لم أرد تركك في مكانٍ يظنّ فيه الجميع أنّ إليانور هي شريكة لوغان.”
«…….»
“وضايقني قليلًا أنّي لم أكن شريكتك اليوم… ولا رقصتك الاولى معي.”
وما إن تجاوز بضع شجيرات في الحديقة حتى رأى أشر وإليانور جالسَين قرب النافورة كانت إليانور جالسة على سترة أشر، فيما كان أشر يسكب غَيْرته دون تكلّف، على نحوٍ بدا مختلفًا عمّا اعتاد لوغان رؤيته منهما لطالما كان أشر يعبّر لإليانور بتحفّظ، وكانت إليانور تتظاهر بالقبول على مضض لا أكثر.
فمتى أصبحا على هذه الدرجة من القرب؟
“كنتُ أريد أن أبقى قريبًا فحسب، أراقب بهدوء، وأنتظر اللحظة التي تأتين فيها إليّ لكن… الأمر أصعب مما ظننت، يا إليانور.”
قال أشر بخجل، مرطّبًا شفتيه قبل أن يتكلّم بحذر كان لوغان يدرك ما سيقوله أشر بعد ذلك، ورغم علمه بأنّ الموقف لا يليق بالتطفّل وأن عليه الانسحاب، لم تطاوعه قدماه.
“إن قبلتِ بي… فسأتدبّر كل شيء أستطيع ذلك.”
كان آشر ، وهو يتحدّث بنبرة واثقة تصل إلى حدّ التفكير في الزواج، يؤكّد أنّه قادر على تجاوز معارضة عائلته إن وُجدت بدا رجلاً جذّابًا بكل ما في الكلمة من معنى.
“أنا صادق أعدكِ بذلك.”
وانجرفت إليانور نحوه بلا حيلة.
“لِمَ… لِمَ تفعل كل هذا من أجلي؟”
سألت وهي تشهق بضعف، وكأنها تختبر آخر ما تبقّى من صدقه نظر إليها آشر مبتسمًا، كأن دموعها في نظره شيء جميل.
“لأنني أحبك.”
«…….»
“أنا أحبكِ، يا إلينور.”
وبكل صدقٍ باحَ له بحقيقة قلبه النقي.
كانت عينا إليانور الرماديتان، اللتان ابتلّتهما الدموع، تتلألآن فرحًا تحت نور القمر لم يستطع لوغان أن يشيح بصره عن تلك العينين اللتين ازداد بريقهما عند سماع اعتراف رجلٍ آخر لها كان ذلك خارج إرادته تمامًا.
وفي الوقت نفسه شعر كأن قلبه يهوي إلى القاع تلك اللحظة التي تتلاقى فيها العيون فلا يعود المرء قادرًا على صرف نظره، حين يغدو كل ما حوله بلا صوت ولا صورة، ولا يبقى في الوجود سوى ذاك الشخص.
الحب.
‘عادةً ما يسمّون هذا حبًّا، يا لوغان.’
في الحقيقة، كانت بوادِر هذا الحب قد ظهرت مرارًا، لكنه لم ينتبه إليها.
منذ أول يوم تناولا فيه الطعام معًا، حين كانت أشعة الشمس تتساقط وحدها فوق رأس إليانور وفي اللحظة التي التقاها فيها وهي تتنزه في الحديقة، فوجد فيها لونًا ألين من الشمس، وأقل بريقًا من الذهب، لكنه كان مشرقًا على نحو آسر وحين وضع القلادة حول عنقها، فلامست أطرافُ أصابعه بشرتها، فاشتعلت فيها نارٌ لاذعة.
وعندما أبصر ابتسامتها وهي ترقص معه بانسجام، أحسّ كأن عالَمه يتحطم كان ذلك الإحساس حادًّا، جارحًا، لا يُنسى.
“أنا… أنا…”
“كل شيء على ما يرام.”
كان آشر يراقب إليانور وهي تعجز عن إخراج أي كلمة من بين دموعها، فطيّب خاطرها بلطف وفي النهاية، ارتمت إليانور تعانقه وتبكي كطفلة بكاءٌ لا يشبه بكاء امرأةٍ تلقت اعترافًا بالحب، بل بكاءٌ ملؤه الأسى ومع ذلك، بدا آشر وكأنه يجد كل ذلك محبوبًا لا يُحتمل، فضمها إليه، يمسح على ظهرها، ويبتسم.
وتمكّن من فهم تلك الابتسامة التي بدت بلا سبب المرأة العزيزة التي بين ذراعيه، والتي غدت أخيرًا له، كانت أغلى ما يملك.
أصبح آشر وإليانور في تلك اللحظة عاشقين جميلين وُلِدا للتو لكن لوغان، بشكل مأساوي، أدرك في اللحظة نفسها أنه هو أيضًا يحبّ إليانور.
“…….”
من عساه يلوم؟ كان كل ذلك ذنبه فكم من مرة دلّته اللحظات أن هذا هو الحب، لكنه لم يفهم كان غافلًا، وكان ذلك خطأه.
ومع ذلك، لو كان يعلم أنه سيفهم متأخرًا إلى هذا الحد، لكان الجهل أرحم فالحب الذي يدركه بعد فوات الأوان إنما هو حبٌّ لامرأةٍ أصبحت بعيدة، لا يمكنه أن يمسّها أبدًا.
‘ممتع أتمنى أن تُرفَض يومًا من أوّل حبّ في حياتك، يا دوق كلاڤن.’
لكن الساحرة التي التقاها اليوم أيقظت قلبه وحماقته معًا كما أرادت هي تمامًا: وقع لوغان في الحب، وحين أدرك ذلك، جاءه الرفض كاملًا وفوريًّا.
وقد تحققت أمنيتها، فهل تراها الآن سعيدة؟ تمتم لوغان ساخرًا من نفسه.
“إليانور، انظري إلي.”
رفع لوغان رأسه بعدما كان يحدّق في العشب الأخضر كان آشر يمسح وجه إليانور المبلّل بالدموع برقة، ثم طبع قبلات صغيرة متكررة على ملامحها وأخيرًا طبع قبلة على شفتيها تماسّ جسداهما من غير أي فجوة، ينقلان لبعضهما بوضوح كل ما يحملانه من محبة لم يكن هناك أي مكان يتّسع لتدخّل لوغان.
ولكي يتجاهل ألمًا يخز قلبه، رفع لوغان بصره إلى السماء كان الليل مرصّعًا بالنجوم، جماله يزيد المشهد مأساوية هبّت نسمة دافئة، لكن ما اهتزّ لم يكن شعر إليانور، ولا طرف ثوب آشر، ولا اندفاع الأميرة دافني… لم يكن أيًا من ذلك.
لقد كان قلب لوغان—ذلك القلب الذي أدرك الحب في اللحظة نفسها التي فقد فيها من يحب.
التعليقات لهذا الفصل " 22"