بعد أن رقصت إليانور ولوغان رقصة واحدة بوصفهما شريكين، ابتعدا عن مركز القاعة.
فلم تكن حالتها الجسدية تسمح بتكرار الرقص مرارًا وبطبيعة الحال، أخبرت إليانور لوغان أن بوسعه أن يرقص مع سيّداتٍ أخريات، لكنه لم يُلقِ بالًا لقولها، واكتفى بالتحدّث بين حينٍ وآخر مع من يقتربون منه في شؤونٍ تتعلّق بالأعمال.
وبما أنهما ليسا شريكين حقيقيين، فقد بدا الالتصاق بقرب منه أمراً غير مريح، كما أنّ التدخل في أحاديثه التجارية كان أكثر إحراجاً.
فاكتفت بالوقوف عند الأطراف، تراقب تبدّل شركاء الرقص لحظةً بعد أخرى ومع مرور الوقت، أخذت بعض السيّدات غير المتزوّجات يتظاهرن بتبادل أطراف الحديث فيما كنّ يقتربن بخفّة من المكان الذي تقف فيه إليانور.
“مرحباً، آنسة هدسون.”
وما إن أدار لوغان ظهره لإليانور وبدأ حديثًا آخر، حتى اغتنمن الفرصة واقتربو منها بسرعة.
“نعم، مرحباً.”
“ لقد مرّ وقت طويل.”
اقتربت آنسة كانت تقف في المقدمة بابتسامة فاتنة بدت كأنها تعرف إليانور من قبل، وكانت تلك الابتسامة الصقيلة تحمل معنى خفياً.
غير أنّ إليانور لم تستطع أن تسألها إن كانتا قد التقيتا من قبل، فاكتفت بابتسامة صغيرة.
“لا تُخبريني أنّك لا تتذكرينني، أليس كذلك؟”
لم يكن من الجيد أن تُظهر قربها الواهي من المجتمع المخملي فالأمر لم يكن سيجلب الخزي لإليانور وحدها، بل للوغان أيضاً.
“أعتذر ليست لدي ذاكرة جيدة.”
وحين لمّحت بأنها لا تتذكر، تسللت تنهيدة صغيرة من الفتيات.
هزّت شارلوت رأسها كأن الخطأ خطؤها، وقد بدا على ملامحها شيء من الأسف المصطنع.
“أثناء حفلة الديبيوتانت بقيتِ وحدك طوال الوقت، لذا من الطبيعي ألا تتذكري.”
[ الديبيوتانت : حفل رسمي تُقدَّم فيه الفتاة الشابة من عائلة راقية إلى المجتمع لأول مرة، وتُعرّف فيه على الناس بصفتها أصبحت سيدة جاهزة لدخول الحياة الاجتماعية ]
توقفت إليانور فجأة فقد كانت كلمات شارلوت تتعلق بماضيها المخزي في ظهورها الأول في المجتمع.
“…لقد رأيتِني إذن في ذلك الحين.”
كانت تلك الفتاة التي بالكاد حصلت على فرصة للخروج في حفل ديبيوتانت حضرتْه الملكة بفضل معارف بعيدة، فقد بقيت كزهرةٍ على الجدار دون أن يطلب منها أحد رقصة واحدة آنسة بسيطة متواضعة المظهر، فقيرة الشأن، ابنةُ كونت هدسون المتواضع.
“نعم فقد كان الأمر لافتاً للانتباه، بطبيعة الحال.”
لم يخطر ببالها أن هناك مَن ما زال يتذكر عضّت إليانور شفتها المرتجفة دون أن تشعر.
“ولأنك لم تبدين مهتمة بالعالم الاجتماعي حتى في الديبيوتانت، لم أتوقع أن أراكِ هنا مجدداً.”
كان ذلك بمعنى: مع ذلك الخزي، كيف تجرئين على الظهور من جديد؟
رفعت إليانور طرف شفتيها بابتسامة متكلَّفة، وقد كانت نوايا شارلوت واضحة؛ فهي منزعجة من أن تظهر ابنةُ عائلةٍ متواضعة في مجتمع النبلاء بهذا الشكل
“سمعتُ أنّك كنتِ تمكثين في المقاطعة طوال الوقت، ويبدو أنك كوّنتِ علاقة ما مع دوق كلاڤن.”
ويبدو أن دخولها القاعة بصحبة لوغان قد خدش كبرياءهن أكثر مما توقعت.
“لقد قال إنه بحاجة إليّ.”
لكن هل كان ذلك خطأها؟ قطعاً لا أجابت إليانور باقتضاب وهي ترى شارلوت تحاول استفزازها بمهارة في تلك اللحظة، بدت شارلوت مصدومة، وابتسمت ابتسامة خافتة.
“المعذرة.”
جاءها صوت مألوف من خلفها.
“إليانور هل يمكننا التحدث قليلاً؟”
كان آشر ذلك الرجل الجميل ذو العينين البنفسجيتين المتلألئتين تحت ضوء الثريا اغتنمت إليانور فرصة الخلاص من الدوائر التي تحيط بها، المتربصة بكل هفوة.
“نعم، لا بأس.”
“إذن من هذا الاتجاه.”
رافقها آشر بأريحية، فوضعت يدها على ذراعه، وسارا معاً بدا أنهما في طريقهما نحو النافذة الطويلة، لكن آشر اختار الرواق المحيط بالقاعة حرّكت نسائم ليلة الصيف الدافئة خصلات شعرها.
“يبدو أن جهة النافورة أكثر انتعاشاً هل نذهب إلى هناك؟”
“عمّ كنتَ ترغب في الحديث؟”
“في الحقيقة… لم يكن لديّ حديث محدد…”
ابتسم آشر ابتسامة فيها شيء من الحرج.
“فقط… بدا أنك غير مرتاحة حين كنتُ أراقبك.”
آه زفرت إليانور بصوت خافت، إذ أدركت أنه كان ينتبه إليها طوال الوقت لم تكن تتوقع ذلك، خصوصاً أنّ لوغان، الذي جاء بها شريكةً له، لم يبد أي اهتمام.
“شكراً لك.”
لم تنكر أنها كانت تمرّ بموقف مزعج.
“في الواقع لا أحضر مثل هذه المناسبات كثيراً، لذا قد أفهم شعورك.”
كان وضعهما مختلفاً تماماً، لكن آشر أراد أن يطمئنها بأن الأمر ليس بسبب تواضع خلفيتها.
“أشعر بالارتباك فعلاً كثير من الوجوه لا أعرفها…”
ولم ترفض لطفه ولم تكن ترغب بذلك أساساً لم تكن غبية لتدافع عن كبريائها أمام شخص يعرف كل شيء عنها.
“اجلسي هنا.”
نزع آشر سترته ووضعها على حافة النافورة جلست إليانور بعد أن انحنت تشكره.
“لكن… ليس هذا السبب الوحيد الذي جعلني أُخرجك من هناك.”
“أن تُخرجَني؟”
ضحكت إليانور بخفة، فقد كان هو من أنقذها، لا من اختطفها.
“لم أرد إبقاءك في مكان يظن فيه الجميع أنك شريكة لوغان.”
“…”
“لقد أحزنني قليلاً أنني لستُ شريكك الليلة، ولا صاحب الرقصة الأولى.”
لم تعِد إليانور لآشر أي وعد وحين قال إنه سيكون بقربها ويراقبها، لم تستطع الإجابة ومع ذلك كان يغار من لوغان بشكل طبيعي، ولم تستطع أن تَلومه فهي تتذكر وجهه العابس يوم رفضت طلبه بأن يكون شريكها.
“لستُ ألومكِ، حقاً.”
“…أعلم.”
أجابته بصوت مخنوق قليلاً فلو كان ينوي العتاب، لما كان لطيفاً إلى هذا الحد.
“كنتُ أريد فقط أن أبقى بقربك بقدر الممكن… وأن أنتظر اللحظة التي تأتي فيها إليّ لكن… اتضح أن ذلك أصعب مما توقعت، يا إليانور.”
بعد أن تنفّس بعمق عدة مرات وبدأ يتحدث، انساب الضوء الأحمر على أطراف وجهه
“حين أسير في الطريق، أو أتناول شيئاً لذيذاً… في كل لحظة أرى فيها شيئاً جميلاً، تكونين أول من يخطر ببالي.”
ولم يكن واضحاً إن كان الاحمرار على وجهه بسبب الخجل أم بسبب الضوء.
“وتعلمتُ أنّ هذه المشاعر… هي الحب.”
لم تكن تصرفاته المربكة، ولا غيرته، ولا محاولاته لكسب ودّها… مزعجة لها ولم تستطع إخراج كلمات حادة لرفضه.
“ألا يمكنكِ أن تمنحيني نفسك بعد؟”
والحقيقة أنها كانت راغبة.
“تجاهلي كل ظروفك… وانظري إليّ أنا فقط.”
لكن حين تفكر بظروفها… لم تستطع أن تقول شيئاً وحين تحركت شفتاها بتردد، بادر آشر ووضع يده على فمها.
“إن قبلتِ بي فقط… سأتولى حل كل شيء أستطيع ذلك.”
كان حديثاً يلمّح إلى الزواج حدّقت إليانور فيه بعدم تصديق.
“أنا صادق أعدك.”
جثا على ركبته، وأخرج من جيبه علبةً بيد ترتجف كان العقد ذاته الذي أخذه من متجر المجوهرات قبل أيام قائلاً إنه طلبه مسبقاً رفعت إليانور يدها إلى فمها، مخافة أن يفلت منها صوت يدل على دهشتها.
“أهذا… لي؟”
أومأ آشر مبتسماً كان العقد من اللؤلؤ الطبيعي وبالطبع، دفع ثمناً كبيراً لأجله، لكنه لم يكن بثقل العقد الذي اشتراه لوغان.
“ظننتُ أنّ شيئاً كهذا لن يكون عبئاً عليكِ.”
وقد اشتراه بهذا المقصد امتلأت عينا إليانور بالدموع فقد بدا كأنه يعرف تماماً شعورها بالدونية وهشاشة ثقتها بنفسها.
“لِمَ… لِمَ تفعل كل هذا لأجلي؟”
سألت بصوت مرتجف مد يده يمسح دموعها بلطف.
“لأنني أحبك.”
“…”
“أنا أحبك يا إليانور.”
أجهشت بالبكاء كان كالموجة التي اقتحمت فجأة الشاطئ فهدمت القلعة الرملية التي بنتها طيلة حياتها وها هو يوشك أن يقتحم ما بداخلها وينتزع إليانور نفسها بكل ما في قلبه من صدقٍ وبلا أي قناع.
“أنا… أنا…”
“لا بأس بكل شيء.”
حين بدأت إليانور تتلمّس كلماتها ببصرٍ غائمٍ من الدموع، ابتسم آشر كأن الأمر لا يعنيه كثيرًا نهض واقترب ليُلصق جبينه بجبينها في هدوء كأن يقول لها، دون حاجةٍ إلى كلمات: إن تدنّي تقديرها لذاتها، ومشاعرها التي لم ترد الاعتراف بها نحوه، وقلقها بشأن المستقبل… كلّها أشياء يفهمها، وكلّها أمور يمكنه أن يتولّى حلّها. كل شيء سيصبح على ما يرام فلتثق به، ولتحتمِ به.
وفي النهاية، اندفعت تبكي وهي تعانق عنقه فضحك آشر ضحكة صغيرة، وضمّها إلى صدره، يربّت على ظهرها.
رنّت الحشرات الصغيرة، وتموّج ماء النافورة، وسمع صوت العشب يتطأطأ تحت الأقدام وبدت لها تلك الأصوات كأنها تقول إنّ الحب قد جاء، هادئاً كالسلام والآن… مهما حدث بعد ذلك، لم يعد يهم فقد كان غزواً رقيقاً جعلها في النهاية تسلّم قلبها إليه.
التعليقات لهذا الفصل " 21"