“عودوا سالمين.”
بينما كان السكرتير جيفري يودّعهما، صعدت إليانور خلف لوغان إلى مقصورة الدرجة الأولى لأول مرة في حياتها.
كانت مقصورة الدرجة الأولى أفضل بما لا يُقاس من مقصوره الدرجة الثالثة التي اعتادت عليها إليانور فالمقاعد متباعدة ومريحة، والعطر الفاخر يعبق في الجو برائحة لطيفة، والأجواء هادئة ومريحة.
“اجلسي في الداخل.”
خلافاً لما اعتادت عليه من البحث بنفسها عن رقم المقعد، تولّت المضيفة هذه المرة التأكد من الأرقام وإرشادهما إلى مقعديهما حرّك لوغان جسده قليلاً جانباً حتى تتمكن إليانور من الجلوس في المقعد الداخلي.
جلست إليانور بحذر متجنبة ملامسة لوغان، وما إن جلست حتى فتح هو مجلة أسبوعية وبدأ بقراءتها، فمدّت يدها هي أيضاً إلى المجلة الموضوعة أمامها.
“سيكون من الأفضل أن ترتاحي.”
قال لوغان وهو يلاحظها كان يعلم جيداً أنها كانت منشغلة حتى الأمس بالتعامل مع أوليفيا، واعتبر أن الراحة الآن ضرورية لها، خاصة وأنهما سيمكثان ساعات طويلة في قاعة الحفل.
“ظننت أنه من الأفضل أن أتحقق من القضايا المتداولة في العاصمة.”
“لم يطلب مني فخامتك شيئاً محدداً، لكنني فكّرت أنه لا ينبغي أن أبدو ناقصة المعرفة أثناء التحدث مع الناس…”
لمّا لم يتحدث لوغان، رمشت إليانور بعصبية وقالت بخفوت
“هل تصرفتُ بإفراط؟…”
كان لوغان يدرك ما يدور في داخلها بسهولة — شعورها بالمسؤولية المفرطة، وإحساسها بالمديونية بسبب ثمن القلادة التي ترتديها.
“في الواقع، آنسة هدسون، ليس عليك أن تبذلي كل هذا الجهد.”
“آه، إذن…”
“لكن إن كنتِ ستصبحين شريكة مثالية لي، فذلك سيكون أمراً طيباً من جهتي افعلي ما يريحك.”
كان يعلم أن نهيها عن ذلك سيزيد من قلقها فقط، لذلك اختار أن يترك لها حرية التصرف وما إن قال كلماته حتى ابتسمت إليانور بخجل وفتحت المجلة من جديد.
كانت المقالات تتناول الاضطرابات السياسية في لوانغ: ولي العهد يدخل في عداء علني مع الحزب الجمهوري، والحزب يحاول سلب صلاحياته موضوع ممل بالنسبة لمعظم الناس، ومع ذلك قرأت إليانور كل المقالات بعناية حتى اللحظة التي سبقت نزولها من القطار.
***
ما إن وصلت إليانور إلى منزل دوق كلافن في العاصمة حتى بدّلت ثيابها ثمّ حين علّقت حول عنقها العقد الثقيل المرهق — الذي بدا كقطعة من أسلحه الحرب — تهيّأت نفسيّاً، كأنّها تستعدّ لخوض معركة
قالت إحداهنّ بدهشة
“يا إلهي، لقد حضر دوق كلافن هذه المرّة بصحبة شريكة!”
لذلك، عندما وصلت إلى قاعة زفاف الأميرة دافني، لم تنكمش تحت أنظار الناس، بل شعرت بحماسة متحدّية، كأنّها تقول في نفسها: ليأتوا إن شاؤوا.
“سمعنا أنّ هناك حديثاً عن زواج بينه وبين ابنة ماركيز بيرسيس، فظننا أنه سيحضر برفقتها.”
“لكن يبدو أنّنا نرى وجهًا لم نألفه من قبل، أليس كذلك؟”
“هل يُعقل أنّ دوق كلافن قد وقع في الحب؟”
كانت الهمسات تدور بين الحاضرين بنظرات ذات مغزى، فيما ظلّ لوغان، وسط تلك الجلبة، هادئاً كجزيرة معزولة.
“آنسة هدسون، سنذهب الآن لمقابلة الملك.”
كان يتحدّث ببرود، كما لو أنّه ذاهب لزيارة صديقٍ غداً، لا لمقابلة ملك وحين أومأت إليانور برأسها علامة استعدادها، قادها لوغان بخطواتٍ واثقة.
بانحناءةٍ خفيفة
“أحيّي ملك ليدن.”
فردّ الملك بانفعالٍ مبالغ فيه
“أوه، دوق كلافن!”
كان هو الملك الذي أعار قاعة القصر الملكي لإقامة زفاف شقيقته الأميرة.
وأضاف مبتسماً ابتسامةً فيها من التكلّف الكثير
“لقد مرّ وقتٌ طويل منذ آخر زيارة لك للعاصمة، أليس كذلك؟”
“وهذا دليلٌ على أنّ الأمور تسير بسلام، أليس كذلك؟”
كانت جملته ذات معنى مزدوج ارتجفت زاوية فم الملك الذي حاول إخفاء استيائه بابتسامةٍ مصطنعة.
“حسناً، ولكن الشابة التي ترافقك لم أتوقّعها على الإطلاق…”
“إنّها الآنسة إليانور هدسون من أسرة الفيكونت هدسون.”
“آه، أسرة هدسون… نعم، نعم…”
تمتم الملك بغير اكتراث، من الواضح أنّه لا يتذكّر تلك الأسرة المهمّشة التي اندثرت في أطراف البلاد.
بانحناءةٍ أنيقة
“إليانور هدسون من كِينت، تتشرّف بمقابلة جلالتك.”
عندها فقط، اتسعت عينا الملك كمن تذكّر شيئاً.
“آه، نعم، نعم، الآنسة هدسون أعرف أسرتك جيداً وكيف حال الفيكونت هدسون؟”
“إنّه بخير، يا مولاي.”
“هذا حسنٌ جداً، يسعدني سماع ذلك.”
أطلق الملك ضحكةً عالية، ولم يفت لوغان أن يلاحظ الرضا الذي اعتلى ملامحه؛ إذ بدا أنّ مكانة آل هدسون المتواضعة أرضت كبرياء الملك وخفّفت من انزعاجه من لوغان.
“أشكرك يا دوق كلافن على حضورك من أجل زفاف الأميرة دافني أتمنى أن تستمتع بالحفل أنت والآنسة هدسون حتى نهاية المأدبة.”
ثم ودّعهما بابتسامةٍ سريعةٍ لا تخلو من الجفاء.
قال لوغان بصوتٍ منخفض
“اجلسي هنا.”
أجلس إليانور في المقعد المخصّص لهما وبرغم أنّهما لم يتحرّكا بعد ذلك، لم يجرؤ أحدٌ على الاقتراب منهماركان الجميع يرمقانهما بنظراتٍ خفيّة، غير أنّه لا يليق في زفاف أحد أفراد العائلة الملكية أن يسرق ضيفان الأضواء من العروس والعريس.
جرت مراسم الزفاف في جوٍّ مهيبٍ تملؤه الجديّة والوقار، وهذا منح إليانور فسحةً من الراحة بعيداً عن أعين المتطفّلين وأسئلتهم اللجوجة.
“ما زلتِ جميلة كعادتكِ، يا إليانور.”
لكن ما إن انتقلا إلى قاعة الحفل وبدأ حفل الاستقبال، حتى تغيّر الجوّ تمامًا.
أصبح الجميع يتحيّنون الفرص للاقتراب من لوغان وإليانور، وفي خضمّ ذلك، تقدّم نحوهما أشر — الذي لم يوجّه إليها أثناء الزفاف سوى تحيةٍ عابرة من بعيد — وكأنه أتى هذه المرّة ليحميها من ازدحام الفضوليين.
“شكراً لك.”
“على الإطلاق متى وصلتِ إلى هنا؟”
تبادلا الحديث بودٍّ واضح، فيما كان لوغان يراقبهما بصمتٍ مطبق.
“يبدو أن صديقك لا يُرى في أي مكان.”
“هذا غير ممكن ، هل ألقيت التحية على الأميرة دافني؟”
فأجاب لوغان بهدوء
“ليس بعد، لكنني سأفعل.”
ومهما يكن، فقد أصبحت الأميرة متزوجة الآن، ولن تجرؤ بعد اليوم على مغازلته كما كانت تفعل من قبل، خاصةً وهو يصحب إليانور كشريكةٍ له.
“سمعت أن ليلي ذهبت لتهنئتها، فانفجرت الأميرة بالبكاء.”
صمت لوغان، فأضاف أشر ضاحكًا
“وقالت إنها تتمنى أن تُرفَض في الحب مرة واحدة، فقط لتعرف كيف يكون الشعور.”
كانت تلك لعنةً لا يُستهان بها وبينما عقد لوغان حاجبيه بخفة، ضحك أشر بصوتٍ مكتوم.
“كن مستعدًا نفسيًا قبل أن تذهب.”
“سأفعل.”
ثم التفت أشر إلى إليانور قائلاً بنبرةٍ ودّية
“إليانور، إذا خاطبتكِ الأميرة بنبرةٍ قاسية أو حاولت استفزازك، فقط ابتسمي وتجاهلي الأمر، فهي لم تتجاوز بعدُ ألم حبّها القديم.”
“سأفعل ذلك.”
أجابت إلينور بسرور فقد كانت تشعر بالأسى تجاه الأميرة دافني، التي كانت قد وقعت في حب لوغان من طرف واحد، لكنها قوبلت برفض قاسٍ، وانتهى بها الأمر إلى زواجٍ سياسي.
قال لوغان وهو يمدّ ذراعه
“لنذهبِ يا إليانور.”
أومأت إليانور بتحيةٍ خفيفة إلى آشر، ثم أمسكت بذراع لوغان بحذر، وبدأت تسير إلى جانبه.
في البداية، كان الأمر على ما يرام، لكن كلما اقتربا من الأميرة دافني، شعرت بشيءٍ من التوتر فقد كانت عينا الأميرة، التي بدّلت ثوبها إلى فستان حفل الاستقبال، متورمتين وحمراوين بما يكفي ليراهما أيّ أحدٍ بالعين المجرّدة وإضافةً إلى ذلك، كانت جميع الأنظار متجهة نحوهما.
“أهنئكما على الزواج، يا صاحبة السمو.”
فأجابته الأميرة دافني بعد لحظةٍ قصيرة بصوتٍ غير راضٍ
“……شكرًا لك، لوغان.”
كانت تحدّق فيه بعينيها المبللتين، وكأنها ما زالت غاضبة أو مجروحة.
“لقد جئتَ بصحبةِ آنسةٍ جميلة.”
“أعتذر عن التأخير في التعريف هذه الآنسة إليانور، ابنة الفيكونت هدسون، وشريكتي هذا المساء.”
“سررتُ بلقائكِ، إليانور.”
لكنّ تعامل الأميرة مع إليانور كان فاترًا على نحوٍ مدهش، إذ سلّمت عليها بهدوء، وطرحت عليها بعض الأسئلة اللطيفة كأنّ شيئًا لم يكن.
قالت الأميرة فجأة بابتسامةٍ تنطوي على مرارة
“يبدو أنّ تحت صدر دوق كلافن قلبًا بالفعل.”
“كلُّ إنسانٍ يمتلك قلبًا، يا صاحبة السمو.”
فعقدت الأميرة حاجبيها، وكأنها سمعت قولًا فظيعًا أما إليانور فلم تعرف كيف تتصرف، فاكتفت بابتسامةٍ محرجة على شفتيها.
“هل تدرك يا دوق، أنك لولا وسامتك وجسدك ذاك، لما كنت ذا فائدة تُذكر؟”
“يشرفني ذلك.”
“يا لسخافتك!”
بينما بدا زوجها، الدوق فيليس، في غاية الارتباك، وهو يربّت على ذراعها الرقيقة محاولًا تهدئتها.
ثم التفتت الأميرة نحو إليانور قائلة بنبرةٍ مباشرة
“هل رأيتِ؟ هذا هو نوع الرجال الذين تتعاملين معهم من أجل سلامتكِ النفسية يا آنسة إليانور، آمل ألا تفكّري في لقائه مجددًا.”
اتسعت عينا إليانور دهشة، وفتحت فمها دون أن تعلم ، عاجزة عن الرد.
“يبدو أن الموسيقى ستبدأ قريبًا.”
وبينما كانت إليانور تتلفّت بين لوغان والأميرة مترددةً في ما تقول، أشار الدوق فيليس لهما بابتسامةٍ لطيفة تدعوهما للانصراف وفي اللحظة التي استدارا فيها، بدأت الموسيقى تعزف بإيماءةٍ منه.
قاد لوغان إليانور بخفةٍ إلى حافة القاعة وعلى الرغم من كل شيء، كانت الأميرة دافني، تحت إرشاد زوجها، ترقص برشاقةٍ حالمةٍ كفراشةٍ تتمايل في الضوء.
“إنها راقصة ماهرة فعلًا.”
“وأنتِ أيضًا، يا آنسة هدسون، كنتِ بارعة.”
اتسعت عينا إلينور دهشةً لهذا الإطراء غير المتوقع.
“ذلك بفضل قيادتك ، يا صاحب السعادة.”
ومهما كانت نية كلماتها، فقد راقت له، إذ مالت عيناه قليلًا بلطفٍ خفي.
“آنسة هدسون، هل تأذنين لي برقصة الافتتاح؟”
“بكل سرور.”
انتهت رقصة العروسين، فمدّ لوغان يده إلى إليانور، واضعًا الأخرى خلف ظهره في هيئةٍ رسمية لم تتردد إليانور، بل وضعت يدها في يده.
وحين أوشكت الموسيقى على الانتهاء، كانت إليانور، التي ظلت متوترةً طوال الوقت، تبتسم خجلاً كفتاةٍ صغيرة وتحت ضوء الثريات المتلألئة، بدت وجنتاها المحمرّتان كحبتَي خوخٍ ناعمتين، مشرقتين بجمالٍ رقيقٍ يفوق بريق عقدها المتلألئ بالألوان الزاهية.
لكن جمال إليانور ذاك وخز قلب لوغان كشوكةٍ عالقة في الحلق كان شعورًا غريبًا… ومؤلمًا على نحوٍ لا يستطيع تفسيره.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
The Time When Love Intersects
تحتوي القصة على موضوعات حساسة أو مشاهد عنيفة قد لا تكون مناسبة للقراء الصغار جدا وبالتالي يتم حظرها لحمايتهم.
هل عمرك أكبر من 15 سنة
التعليقات لهذا الفصل " 20"