استقلت إليانور القطار وسارت به يومين كاملين حتى بلغت سَاذَرن
كان اليومان في عربة الدرجة الثالثة مرهقَين حقًّا، مليئين بروائح غير مستساغة وضوضاء خانقة.
نزلت إليانور من القطار وملامح التعب بادية على وجهها كانت محطة سَاذَرن مكتظة بالناس عن آخرها.
“تنحّوا! ابتعدوا!”
تفاجأت إلينور حين رأت صبيًّا يركض مسرعًا نحوها، فسارعت بالابتعاد جانبًا، لكن موظفًا في المحطة أمسكه من قفاه واقتاده جَرًّا
على ما يبدو كان يحاول التهرّب من دفع الأجرة إلا أن المندهشة الوحيدة كانت إليانور، أما الآخرون فما إن ألقوا نظرة سريعة حتى أعرضوا ببرود كأن شيئًا لم يكن.
التفتت إليانور بحذر تتفحّص وجوه المارة، ثم استدارت بهدوء واتّجهت بخطواتها نحو حيث يتدفق الجميع وكما توقّعت، برز أمامها مدخل محطة سَاذَرن
“…….”
وما إن خرجت من المحطة حتى انكشفت أمامها الشوارع الرئيسة للمدينة طرق عريضة مرصوفة بإتقان، مبانٍ من ثلاث طبقات، وفي طوابقها الأرضية تنتشر بسطات تعرض الفاكهة والمواد الغذائية، ومتاجر الزهور وما شابهها، مكوّنةً صورة لمدينة تعجّ بالحياة.
كان الحجم والازدهار يفوقان كينت بما لا يقاس.
استطاعت إليانور أن تكبح جماح نفسها عن إطلاق صيحة دهشة طفولية، لكن يدها انساقت لا شعوريًّا لتغطي فمها إعجابًا لم تستطع أن تمنع ذلك، فقد كان الأمر أقوى منها.
“الآنسة هدسون، أليس كذلك؟”
انتبهت إلى نفسها عندما ناداها صوت يعرف اسمها التفتت فزعة نحو مصدر الصوت.
“نعم، أنا عذرًا، من تكون حضرتك؟”
“أنا آش ماندرتون، سائق عربة دوق كْلافن.”
“آه، السيد ماندرتون، سررت بلقائك.”
ابتسم آش في وجه تحيتها.
كان مرتديًا سترة فوق صديري، تبدو عليه أناقة واحترام يجعلان مظهره أرفع من مجرد خادم.
“يمكنكِ أن تناديني بـآش ببساطة لقد أرسلَتني السيدة الدوقة لاستقبالك.”
“لم أظن أنهم سيتكلّفون عناء إرسال أحد بانتظاري.”
“سلّمي أمتعتك لي من فضلك.”
أخذ آش حقائبها وحملها ليضعها في المقعد الخلفي ولأن إليانور لم تكن على ألفة بوسائل النقل الحديثة كالعربات الآلية، فقد صعدت إليها بحذر، مستعينة بعون آش.
ومع حركة السيارة بدأ مشهد سَاذَرن يتراجع أمام ناظريها شعرت كأن عالمًا جديدًا ينفتح أمامها.
مضت السيارة مسافة ليست بالقصيرة قبل أن تدخل إلى المدخل المؤدي إلى قصر الدوق وعلى جانبي الطريق المرصوف بالأحجار صفٌّ طويل من أشجار الدلب، أوراقها الخضراء تلوّح كأنها ترحّب بالوافدة.
هبت الريح فتصادمت الأوراق وتمايلت، والضوء المتسلل بينها كان دافئًا ومريحًا.
“إنه… هائل فعلًا.”
هكذا تمتمت إلينور بعد أن كانت مستغرقة في التمتّع بجمال المشهد، حين وقعت عيناها على البوابة الضخمة التي تحيط بالمكان كأنها تحرسه.
كان الباب الحديدي المشغول على هيئة شعار آل كْلافن بحد ذاته رائعًا، لكن ما وراءه كان أروع بكثير: مبنى شاهق من ثلاث طبقات، ضخم كالجبل، مشيّد بأحجار منحوتة أضفت عليه مهابة طبيعية تراكمت مع مرور السنين.
“إنه قصر دوق كْلافِن.”
أجاب آش مبتسمًا على همسها.
بدأت السيارة تُبطئ شيئًا فشيئًا عند مدخل القصر.
فحص الحراس لوحة المركبة قبل أن يفتحوا البوابة.
“ومع ذلك، لا داعي للقلق فالدوق وأفراد أسرته جميعًا لطفاء المعشر.”
تابعت السيارة سيرها عبر طريق طويل آخر يصل البوابة بالمبنى الرئيس.
وعلى جانبيه تمتد حدائق منسّقة، تفيض بالحيوية والزينة، حتى إن طول الطريق لم يكن باعثًا على الملل.
كان العالم مختلفًا تمامًا.
صحيح أن المنزل الذي عاشت فيه إليانور من قبل كان كافيًا لها، لكنه لا يرقى حتى إلى ملحق صغير مقارنة بقصر آل كْلافِن.
وبينما شعرت بالحماس يملأ قلبها، لم تستطع أن تتخلص من شيء من الانكماش والرهبة.
***
“وصلتني رسالة من السيدة الكبيرة مفادها أنها خرجت برفقة الآنسة أوليفيا، لذا فعلى الآنسة هدسون أن تستريح براحتها.”
كان ذلك عندما نزلت إليانور لتوها من العربة.
تقدم جورج أونيل، كبير الخدم، نحوها وكأنه كان بانتظار الضيفة المرتقبة، ونقل إليها كلمات سيندي كلافن.
بالنسبة لإليانور، التي كانت قلقة من أن تقابل صاحبة العمل وهي على هذه الحال، كان ذلك خبراً ساراً.
فبفضل خروج سيندي مع أوليفيا، سنحت لها الفرصة لتنظف جسدها وتستعيد ترتيب هيئتها بعد يومين قضتهما في القطار، بدت خلالهما أشبه بمتشردة.
بل إن الغرفة التي مُنحت لها كانت تحتوي على حمّام، وهو أمر لم تحظَ به حتى في منزل عائلة هادسون لقد كانت مريحة لدرجة أن إليانور شعرت برفاهية لم تعهدها من قبل.
بالطبع، كل ذلك مرهون بألا يتم طردها لاحقًا.
“سيدتي إليانور، أحضرت لكِ الطعام.”
حدث ذلك بينما كانت تفكر في الطريقة المثلى لتعليم أوليفيا، ذات الثمانية أعوام دخلت الخادمة تحمل صينية كبيرة وُضع عليها طعام بسيط للعشاء.
“السيدة الكبيرة لم تعد بعد إلى المنزل.”
مهما كان وضع إليانور كمعلمة، فهي لا تزال ضيفة لم ترَ أصحاب الدار بعد.
فلم يكن ممكناً اصطحابها إلى قاعة الطعام، إذ لم يسبق أن دعاها أحد من أفراد العائلة بشكل رسمي، كما أنه لا يليق إطعامها مع الخدم لذا أمر كبير الخدم جورج بأن يُقدَّم لها الطعام في غرفتها.
“شكراً جزيلاً.”
أجابت إليانور، فابتسمت الخادمة ابتسامة خفيفة وخرجت على عجل.
رغم تغيّر الزمن، ظلّت مكانة المعلّمة من أصول نبيلة أشبه بجزيرة معزولة؛ فهي لا تنتمي تمامًا إلى الطبقة الأرستقراطية، ولا تُعامل كخادمة أيضًا.
فوظيفة المعلّمة كانت مناسبة غالبًا للنساء غير المتزوجات من العائلات النبيلة التي تدهورت أحوالها، واللاتي لا يرغبن في العمل كخادمات صراحة.
لكن المجتمع كان ينظر إليهن نظرة متناقضة: فهنّ يعملن مقابل أجر كالخدم، لكنهن يتصرفن بتكبّر وكأنهن لا يزلن من طبقة النبلاء، مما جعلهن فئة غريبة ومزعجة في نظر البعض.
ومع أن الأمر كان محبطًا أحياناً، إلا أن إليانور كانت مستعدة لتحمّله مقابل الخروج من منزل اللورد هادسون فمقاطعة كينت كانت صغيرة ومملة، والعيش مع تشارلز، الغارق في الشراب، كان مرهقًا ومملاً وقبل كل شيء…
“افعلي ما تشائين، إليانور.”
كانت هذه وصية والدتها الراحلة حتى وإن استخدمتها كذريعة، فقد أرادت الالتحاق بالجامعة أما تشارلز، فكان يؤمن بأن قدر النساء يتحدد من خلال زواجهن من رجال أثرياء.
غير أن إليانور، التي نشأت على رؤية حياته، لم تشاطره هذا الرأي.
لم تكن تريد أن تعتمد على ثروة رجل، بل أن تكسب المال بجهدها فقد سئمت من فكرة أن يتحكم رجل مجهول، مثل والدها، بحياتها ومصيرها.
“لذا عليّ أن أكسب المال الكثير منه إن أمكن.”
ومن هذه الناحية، كانت وظيفة التعليم في منزل دوق كلافن فرصة لا تعوّض فالعائلة لم تكن تبخل على من يعملون في خدمتها.
أوليفيا، التي ستقوم إليانور بتعليمها، لم تتجاوز الثامنة من عمرها، وما زال أمامها ثماني سنوات حتى تبلغ، ما يعني أن إليانور قد تحصل على دخل جيد طوال تلك السنوات، ما دامت لم تُطرد.
“لا تدعي العواطف تسيطر عليكِ، إليانور.”
تمتمت بهذه الكلمات لنفسها، وبدأت بتناول طعامها قد لا يكون الطعام فاخراً كما يأكله أفراد العائلة، لكنه كان بلا شك أفضل بمراحل من الخبز الجاف والقاسي الذي اعتادت عليه في منزل هادسون.
وربما لهذا السبب أفرطت في الأكل قليلاً شعرت بثقل في معدتها، فقررت أن تخرج في نزهة قصيرة لتخفيف الشعور لم تتلقَ إذناً بالتجول، لكنها رأت أن التنزه قليلاً في الحديقة لن يكون سبباً لتوبيخها.
“الجو جميل.”
كان ذلك مساء صيفي، وإن كان في بدايته صيف مدينة ليدن لم يكن رطباً، لذا كانت الأجواء لطيفة ومنعشة.
سارت إليانور بهدوء على الطريق المرصوف حيث تنتشر المصابيح هنا وهناك ومع كل نفس كانت تستنشقه، كانت تشعر بصفاء في صدرها.
“هيك!”
في تلك اللحظة، سمعت صوت بكاء صغير، فتوقفت ظنته أول الأمر صوت حيوان، لكن تتابع البكاء كشف أنه صوت طفلة نظرت حولها بحذر، ثم سارت باتجاه مصدر الصوت.
كان من الغريب وجود طفلة وحيدة تبكي في حديقة القصر اقتربت بحذر.
“هل هناك أحد؟”
سألت إليانور، وفجأة سُمع صوت أوراق تُداس، ثم توقف البكاء مدت يدها تبعد الأغصان المتدلية لتكشف ما وراء الشجيرات، فرأت ظلاً صغيراً يتحرك بسرعة وفوضى.
“آه!”
خرجت الطفلة فجأة من بين الشجيرات فاصطدمت بجسد إليانور ورغم أن إليانور بالكاد ترنحت، فإن الطفلة سقطت أرضاً.
انفجرت باكية بصوت عالٍ وكان صوت بكائها عالياً إلى درجة أن إليانور لم تلاحظ صوت فتح بوابة حديدية أو اقتراب سيارة من الحديقة.
“هل أنتِ بخير؟”
أسرعت إليانور تواسي الطفلة، ترفعها عن الأرض وتُنظف فستانها المتسخ كان شعرها مبعثراً، ووجهها مبللاً بالدموع، لكن فستانها كان فاخراً جداً.
“لم أكن أنوي إيذاءك سمعت بكاءك فقط وأردت أن أطمئن.”
قالت ذلك وهي تحاول تهدئتها، إلا أن الطفلة كانت لا تزال تنتحب في تلك اللحظة، سُمع صوت رجولي منخفض:
“أوليفيا؟”
توقفت السيارة عند منتصف الطريق المؤدي إلى القصر، ونزل منها رجل أنيق يرتدي بذلة رسمية نظرت إليانور إليه وقد غمرتها المفاجأة.
ومع أن ضوء السيارة أربك بصرها للحظة، إلا أنها استطاعت أن ترى ملامحه بوضوح: رجل طويل يفوق معظم الرجال طولاً، ذو بنية قوية وأطراف طويلة، تنبعث منه هيبة تجعل بدلته تبدو كأنها زيّ عسكري.
“لوغان!”
صرخت الطفلة باسمه وارتمت في أحضانه لم يظهر عليه الارتباك، بل حملها بسهولة، رغم أن وزنها لم يكن ضئيلاً، وبدأ يربت على ظهرها مهدئاً إياها.
وقفت إليانور في مكانها مصدومة وهي تحاول استيعاب ما حدث.
الطفلة التي كانت تبكي وتتصرف كأنها تائهة تدعى أوليفيا، وهي ليست من الخدم والرجل الذي حملها بلطف، ذو الشعر البني والعينين الزرقاوين، اسمه لوغان.
“أمام دوق كلافن، أنحني.”
لم يبقَ مجال للشك الاحتمال الوحيد هو أنه…
هو دوق كلافن ذاته.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
The Time When Love Intersects
تحتوي القصة على موضوعات حساسة أو مشاهد عنيفة قد لا تكون مناسبة للقراء الصغار جدا وبالتالي يتم حظرها لحمايتهم.
هل عمرك أكبر من 15 سنة
التعليقات لهذا الفصل " 2"