منذ ذلك الحين، لم تتقاطع طرقها مع لوغان كثيراً كان مشغولاً للغاية بأعماله داخل القصر وخارجه، أما إليانور فكانت تؤدي واجبها بإخلاص بصفتها المعلمة الخاصة لأوليفيا.
وبذلك، بقي العقد حبيس في درج منضدتها إلى ما لا نهاية.
شيء تملكه، لكنه ليس ملكها حقاً يحتل مكاناً في الدرج، لكنه وجوده مثقل بالضيق والحرج.
في كل مرة كانت تفتح فيها الدرج، كان عليها أن تعيش شعور من سرق شيئاً لا يخصه.
“صاحب السعادة.”
غير أنها عقدت العزم اليوم على الحديث معه بجدية وإنهاء الأمر.
فقد وصل الفستان والحذاء الجديد، وكان اليوم مخصصاً للتجهيز المسبق وتجربة الرقص معاً.
وإن لم يكن اليوم، فلن تسنح لها فرصة أخرى قريباً — فهي مجرد موظفه نادراً ما تلتقي به.
“جئتِ؟”
رمقها لوغان بنظرة عابرة تحيةً لها، ثم عاد يُركّز على ارتداء قفازيه.
يداه الطويلتان المستقيمتان، وقد برزت مفاصل أصابعهما في دلالةٍ واضحة على رجولته، اختفتا بالكامل داخل القفاز الأملس
“يليق بكِ جيداً.”
قال لوغان وهو يتقدّم بخطوات واثقة نحوها بعد أن أتمّ استعداداته، متأملاً إليانور التي ارتدت الفستان الأبيض والحذاء الجديد.
“بفضلك ، صاحب السعادة.”
“لا شكر على واجب.”
أجاب لوغان باقتضاب، ثم قادها إلى منتصف القاعة.
اعتدلت إليانور في وقفتها عن قصد، متّبعة خطواته، بينما بدا هو متقنًا لهيئته المستقيمة وكأنها طبيعة متجذّرة فيه.
“لماذا لم ترتدي العقد؟”
جاء السؤال في اللحظة التي كانت تستعد فيها لاتخاذ وضعية الرقص.
كان لوغان قد لاحظ عنقها الخالي، الذي بدا فارغاً بشكل لافت.
“آه، في الواقع…”
تردّدت إليانور في الجواب، فارتسمت على وجه لوغان ملامح تدل على أنه فهم الأمر تقريباً، ثم نادى على إحدى الخادمات.
“أين وضعته؟”
” تركته في درج منضدتي.”
“اذهبي إلى منضدة الآنسة هدسون وأحضري العقد.”
أمر لوغان الخادمة بإحضار العقد الذي يخصّ إليانور وهكذا تأجلت تجربة الرقص إلى وقت لاحق.
أتت الخادمة على عجل وقدّمت العلبة التي وُضع فيها العقد إلى لوغان، ففتح الغطاء ببرود وأخرج العقد بيديه، ثم أعاد العلبة إلى الخادمة.
كانت إلينور تحدّق بذهول في الحركة المتناسقة لعضلاته الصلبة التي بدت واضحة حتى من خلف سترته، لكنها ما إن التفت نحوها حتى أسرعت بخفض بصرها، مدركةً أن ما فعلته دون وعي ربما كان ليزعجه لو انتبه إليه
إلا أن لوغان لم يفُته ذلك.
اقترب منها في صمت حتى وقف خلفها مباشرة.
وما إن استعادت وعيها حتى أدركت أن يده كانت تنخفض من فوق رأسها، ماضيةً ببطء نحو عنقها.
” صاحب السعادة…”
“اثبتي مكانك.”
نادت إلينور عليه في فزع، لكن لوغان أوقفها بأمرٍ حازمٍ مختصر “اثبتي مكانك.” فلم تملك إلا أن تبقى واقفة كما هي، كطفلة مطيعة لا تجرؤ على الحركة.
داعبت أنفاس لوغان الدافئة عنقها، فتطايرت بضع خصلات من شعرها بخفة.
كان يبدو كمن يحاول قدر الإمكان ألّا يلمسها، غير أن ملمس القفاز كلما لامس بشرتها الرقيقة عن غير قصد، اشتعلت حرارة خافتة في جسدها، وارتجفت وكأن قشعريرة نارٍ خفيفة سرت في جلدها.
ابتلعت ريقها في توتر، ثم دوى صوت طَق خافت، حين أُغلق قفل العقد أخيراً على عنقها، فشعرت بثقل مفاجئ يهبط على مؤخرة عنقها.
“ألَم تكوني تنوين ارتداءه في يوم الحفل أيضاً؟”
“كنتُ أعتزم إخبارك اليوم، يا صاحب السعادة، ثم إعادته إليك.”
“أنا ممتنّة لك على الفستان، لكن… العقد، في الحقيقة…”
لم تكن تلك هي الطريقة التي خططت للتحدث بها، لكنها رأت أن هذه اللحظة هي الأنسب، فلوغان الآن متفرّغ بما يكفي لأن يصغي إليها.
“كلما فكّرت في الأمر، بدا لي العقد باهظ الثمن إلى حدٍ لا يليق بأن أقتنيه إنه أشبه بشيء لا ترتديه إلا دوقة.”
كان ذلك حقاً ما تشعر به — هدية فاخرة إلى درجةٍ تُثقل صدر خادمةٍ بسيطة مثلها، حتى وإن كان منحها إياها لغرضٍ يخدم خططه الخاصة.
“هل تظنين أنني أهديت الآنسة هدسون عقداً مبالغاً فيه بدافع التمرّد على والدتي؟”
لم تستطع إليانور إنكار ذلك، فاكتفت بخفض بصرها نحو الأرض في صمتٍ مرتبك.
“حتى لو كان الأمر كذلك، فهو شيء منحته لكِ بالفعل، ولا أنوي أن أسترده.”
صمتت إليانور.
“الجميع في هذا القصر شهد تلك اللحظة. فإن علموا أن العقد الذي قدمته لكِ مكوَّم في درج مكتبي أو أنه أُعيد إلى المتجر، فسيظنون أنني رجلٌ يتظاهر بالكرم بينما أنا في الحقيقة إنسانٌ حقير.”
عندها فقط أطلقت إليانور آهةً قصيرة، إذ أدركت الجانب الذي لم تفكر فيه من قبل.
“وجودكِ بحد ذاته قلّل من الوقت والتكاليف التي كنت سأقضيها في البحث عن آنسة تناسب الشروط التي أريدها، كما أنكِ ستحضرين الحفل كشريكة مثالية، تؤدين ما هو مطلوب منكِ، وتُعززين موقفي في الوقت ذاته لقد دفعت الثمن العادل مقابل ذلك.”
كان إنفاقًا لا يُحدث أي ضرر على مالية دوقية كلافن، وفي الوقت نفسه كانت إليانور ستقدم له العون بالنسبة له، كان الأمران على قدم المساواة تمامًا.
بدت كلماته باردة إلى حدٍّ ما، لكنها كانت كلمات لا يمكن الرد عليها.
“لكن إن كان ذلك يزعجكِ، ففكّري بالأمر هكذا يا آنسة هدسون.”
“بأي معنى…؟”
“في النهاية، إنها سلعة مستعملة، لم تعد تساوي ثمنها الأصلي.”
تجمّدت إليانور للحظة كان لوغان محقًّا فبما أنها لم تعد العقد في يوم تسليمه، فقد أصبح ملكًا لشخص آخر، وبالتالي لا يمكن للمتجر إلا أن يتعامل معه كسلعة مستعملة، سواء استُخدم أو لم يُستخدم.
وفيما كانت إليانور متصلبة وقد استوعبت تلك الحقيقة غير المتوقعة، ابتسم لوغان بخفة وتقدّم نحوها، ثم مدّ يده إليها بحركة رشيقة.
ورغم ضجيج أفكارها، وضعت يدها فوق يده.
انساب لحن الفالس برقة، وقادها لوغان في الحركة.
وضعت إليانور يدها الصغيرة على ذراعه القوية، واتّبعت قيادته متكئة عليه.
“أنتِ راقصة ماهرة.”
قال لوغان بابتسامة باهتة وهو يمدحها.
في كل خطوة تبتعد فيها وتقترب، وفي كل دوران بين ذراعيه، لم تتعثر إليانور مرة واحدة.
قالت هامسة، وهي قريبة جدًا منه
“اللورد أشر ساعدني كنت أخشى أن أُحرج نفسي.”
“آه.”
أصدر لوغان صوتًا خافتًا، وكأنه فهم ما تعنيه، وفي الوقت ذاته دارت إليانور برشاقة عدة مرات مبتعدة عن ذراعيه.
تدفقت أضواء الثريا فوقها كما في ذكرى بعيدة.
كان الدانتيل الدقيق والكشكشة المتدلية من فستانها تتراقص مع حركتها، بينما تتلألأ الألماسات الصغيرة المشذبة بدقة إلى جانب الزمرد الأزرق بألوان متعددة.
كان من الطبيعي أن تتجه الأنظار كلها إلى إليانور وهي ترتدي ذلك العقد.
أما لوغان، فكان يراقبها في كل لحظة تتمايل فيها وسط الأضواء.
صحيح أن من الطبيعي أن يتابع شريكته أثناء الرقص، إلا أن نظره الثابت عليها لم يكن بدافع ذلك فقط.
فما إن سُلب بصره عنها، حتى اجتاحه شعور غريب برغبة لا تُقاوم في أن يظل محدّقًا بها.
كان فعلًا غريزيًا صرفًا.
وكلما واصل النظر إليها، أدرك أنه لا يستطيع أن يصرف بصره عنها.
“…….”
لا بدّ أن تتقابل نظراتهما في النهاية.
وعندما حدث ذلك، أدرك أنه كان ينتظر تلك اللحظة دون وعي منه.
التقت عيناه بعيني إليانور، وكانت تبتسم له برقة، كإيماءة لائقة بشريكة في الرقصة.
لم يكن العالم ينهار أو يهتز، لكن عالمه هو بدا وكأنه يتفكك.
توقف لوغان عن التنفس دون أن يعلم ،وقد اجتاحه إحساس مدمّر وصادم في شدّته.
في اللحظة نفسها، أحسّ بحرارة خافتة تسري في كتفه الذي لامسته، وفي أطراف أصابعه التي تشابكت مع أصابعها، كما لو أن تماسًا غير مرئي جمع بينهما، وإن كان دقيقًا إلى درجة أن إليانور لم تلاحظ شيئًا.
“يبدو أننا لا نحتاج إلى مزيد من التدريب.”
ما إن انتهت الموسيقى حتى تراجع لوغان خطوة إلى الوراء، بحركة طبيعية لا تُشعرها بالرفض.
“هل تعتقد أن هذا كافٍ؟”
“كافٍ تمامًا.”
أجابها لوغان، فتنفّست إليانور بعمق محاولة تهدئة أنفاسها.
“هل هناك شيء آخر عليّ الاستعداد له؟”
فمع أنها أتقنت الرقص، أرادت أن تعرف إن كان هناك ما يلزمها لتكون شريكته المثالية في الحفل.
لم يُبدِ لوغان أي نية لإثقال كاهلها بالمزيد، لكنها، وقد قبلت العقد أخيرًا، كانت عازمة على أن تبذل قصارى جهدها.
“لا شيء.”
“لكن…”
“إن استجدّ أمر، سأبلّغكِ عبر الخدم.”
قاطعها لوغان بنبرة باردة.
“آه، نعم فهمت.”
بدت تصرفاته طبيعية إلى حدٍّ لم يثر في نفسها الريبة.
“نلتقي في اليوم المحدد.”
قالها، لكن إحساسه لم يكن طبيعيًا كما بدا.
كان سمعه مثقلاً كأن أذنيه قد انسدّتا، ورؤيته مضطربة، وجسده محمومًا كما لو أصيب بالحمّى اجتاحه شعور طاغٍ بالرغبة في الهرب من تلك الحالة المزعجة.
تأكد من أن إليانور أومأت برأسها، ثم استدار وغادر أولًا.
وما إن خرج من القاعة وعاد إلى غرفته، حتى عاد كل شيء إلى هدوئه المعتاد خلع القفازات عن يديه، وفتح النافذة.
فتح لوغان النافذة، فاندفع هواء ليلةٍ صيفيةٍ حارٍّة، يحمل معه رطوبةً لزجة لامست بشرته تسلّل صوت الحشرات من الخارج، هادئًا ومألوفًا، يملأ السكون من حوله.
عندها فقط بدأ صدره يهبط ببطء، وعاد نبضه إلى وتيرته الطبيعية.
نعم، لقد عاد إلى العالم الذي يعرفه العالم الهادئ، المألوف، الذي يخلو من الاضطراب الذي أثارته تلك الرقصة
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
The Time When Love Intersects
تحتوي القصة على موضوعات حساسة أو مشاهد عنيفة قد لا تكون مناسبة للقراء الصغار جدا وبالتالي يتم حظرها لحمايتهم.
هل عمرك أكبر من 15 سنة
التعليقات لهذا الفصل " 19"