بما أنّ إليانور ذكية، فلا بدّ أنّها تستطيع إدراك ذلك، أليس كذلك؟
لا، لم تكن بتلك الدرجة من الذكاء فهي جاهلة تمامًا فيما يخصّ العلاقات بين الرجل والمرأة.
رفعت إليانور كفّها إلى وجهها، تخفي احمرار خدّيها وهي تتذكّر اعتراف آشر العذب كانت تعرف وضعها أكثر من أيّ أحد، وكان عليها أن ترفضه في الحال، لكنها لم تستطع أن تنبس بكلمة.
“أنا… أنا…”
“إيلي!”
هل لأنها رأت أوليفيا تكتشف أمرها وتقفز في الغرفة فرحًا؟ لا، بل لأنها شعرت بأنها، من غير وعي منها، ستنطق بالموافقة في تلك اللحظة.
“إن لم تقولي شيئًا، فسأعدّ ذلك موافقة منك.”
قال آشر ذلك بعدما لاحظ تردّدها بذكاء، وبينما كانت إليانور واقفةً كالبلهاء غير قادرة على الكلام، اتّخذ هو قراره على هواه.
” ارتاحي جيّدًا، يا آنستي.”
ثم همس بلطف وهو يطبع قبلة قصيرة على ظاهر يدها انفصلت أصابعه الطويلة المستقيمة عنها بتردّدٍ كما لو كانت تترك أثرًا خلفها، ثم استدار مبتسمًا.
أنتِ مجنونة، يا إليانور هدسون.”
أسرة فيتسمان، التي تتمتّع بسمعةٍ مرموقة تكاد تضاهي أسرة دوق كلاڤن ، تقترن بأسرة هدسون التي بدأت شهرتها تتلاشى حتى كادت تُمحى؟ أيّ عبث هذا؟
ربما كان صادقًا للحظة، وربما أراد حقًّا أن يكون معها، لكن إلى متى قد يدوم ذلك؟ ما مدى السخرية في أن يقف بيتان لا يجمعهما تكافؤ في المقام جنبًا إلى جنب؟
كانت إليانور تعرف تمامًا أنه لو باح آشر لأسرته بحقيقة المرأة التي يحبّها، لما سمع منهم كلمة طيّبة واحدة.
ومع ذلك، رغم أنّها كانت قادرة على تخيّل كل تلك المواقف في ذهنها كأنّها صور، إلا أنّ قلبها اهتزّ.
” تماسكي.”
كان السبب أنّ الرجل أمامها وسيمٌ وعطوف، وأنه لا تملك أبًا ينهال عليها بالكلمات القاسية، كما أنها تعيش حياة مريحة لا تحتاج فيها للقلق بشأن معيشته والآن، بعدما خفّت عنها هموم البقاء، أخذ قلبها يخفق بهذه السهولة من أجل أمرٍ تافه كهذا
لعنت إليانور ضعف صبرها واحتقرت هشاشتها، لكنها، رغم كل ذلك…
أغمضت عينيها بإحكام.
“أنا مجنونة…”
كان خفقان قلبها لا يزال عصيًّا على التوقّف.
***
“إيلي، أين كنتِ البارحة؟”
“هاه؟”
سألتها أوليفيا وهي تحدّق بالمعلمه التي بدت عليها علامات القلق.
“ذهبتُ لأشتري بعض الثياب.”
“ثياب؟ مع آشر؟”
ابتسمت إليانور ابتسامة محرجة وأومأت برأسها فأخرجت أوليفيا شفتيها بتذمّر، غير راضية عن الجواب.
“ولم تأخذيني معك؟”
في المرة السابقة كانتا قد ذهبتا معًا، لذا بدا أنها مستاءة لأنها تُركت هذه المرة.
“حتى لوغان لم يكن معنا!”
صرخت أوليفيا بصوتٍ غاضب، بينما لم تفعل إليانور سوى أن رمشت بعينيها بدهشة.
(ما علاقة لوجان بالأمر أصلًا؟ ولماذا يجب أن آخذه معي؟ لم ألتقِ بآشر عن قصدٍ منذ البداية… لا، ليس هذا ما أقصد…)
ثم هزّت إليانور رأسها بقوّة لتطرد تلك الأفكار الغريبة، وأمسكت بيد أوليفيا.
“هل فعلتُ شيئًا خاطئًا، يا أوليفيا؟”
“لماذا تلعبين فقط مع آشر؟! قلتِ إنك ستتزوّجين من لوغان، لكنك دائمًا مع آشر… مع آشر فقط…”
تجعّد وجه أوليفيا وكأنها على وشك البكاء حدّقت إليانور بذهول في عيني الطفلة الزرقاوين اللتين اغرورقتا بالدموع.
“أوليفيا، سموّ الدوق سيتزوج من امرأة أخرى.”
لكنها لم تستطع أن تترك خيال أوليفيا الطفولي يستمر فلو بلغ هذا الكلام أذن لوغان، فقد يُساء فهمه على أنه اعترافٌ من إليانور بمشاعر خفية.
“المعلّمة ليست حبيبة الدوق.”
“ليست كذلك؟”
“لا، ليست كذلك.”
“إذًا وماذا عن آشر؟”
سألت أوليفيا بصراحة تامة فتجمّد وجه إليانور من الحرج، وارتعشت نظراتها بتوتر.
“هل ستتزوجين آشر؟”
“… لا، ليس هذا أيضًا.”
أجابت إليانور بابتسامة متكلّفة كان في جوابها شيء من التردّد، لكن أوليفيا كانت صغيرة جدًا لتلاحظ ذلك.
“حسنًا، الآن حصلتِ على الإجابات التي أردتِها، أليس كذلك؟ فلنبدأ الدرس حقًا هذه المرة.”
قالت إليانور وهي تُخرج دفتر المفردات وبعض الأدوات، محاولةً إعادة الأجواء إلى الدرس أما اضطرابها الداخلي فكان شأنها وحدها وأوليفيا، التي لم تتقن بعد حتى أبسط تراكيب اللغة، كان عليها أن تدرس الكلمات وحروفها.
“هذه تُسمّى قلادة لأنها تُعلّق حول العنق، لذلك تتكوّن الكلمة من جزأين: عنق و تُعلَّق.”
“قلادة.”
كتبت إليانور الكلمة بوضوحٍ حرفًا حرفًا وأرتها لها.
“إنها جميلة.”
لكن تركيز أوليفيا القصير لم يكن على الكلمة، بل على القلادة الحقيقية أمامها كان من الظريف أنها تراها جميلة رغم بساطتها وسوء صنعها.
“أوليفيا، الجميل ليس مثل هذا الشيء…”
آه، الآن تذكّرت توقفت إليانور فجأة عن الكلام كانت تفكر في أن تصارح لوغان بأنها اشترت شيئًا باهظًا أكثر مما ينبغي، بعدما رأت أن آشر لن يتقبّل كلامها وسيكتفي بالقول إن الأمر لا بأس به ، ظنّت أن أخبرت لوغان بأنها تنوي إرجاعه، سيتفهّم الأمر ببساطة
“الشيء الجميل حقًا هو طفل مثل أوليفيا.”
ضحكت أوليفيا ضحكة عالية سعيدة، ويبدو أن سماعها هذا الإطراء أسعدها كثيرًا.
ابتسمت إليانور وهي تنظر إليها، لكنها في داخلها كانت قد اتخذت قرارًا حاسمًا بأن تذهب لرؤية لوغان فور انتهاء الدرس.
“يا إلهي…”
لكن ربما كان عليها أن تسرع أكثر.
توقّفت إليانور في منتصف الدرج وقد اتسعت عيناها، إذ رأت في الأسفل سيندي واقفةً مع شخصٍ ما.
وفي يد سيندي كانت القلادة الزمردية التي طلب آشر أن تُرسل إلى قصر دوق كلافن.
“من الذي أرسل هذه؟”
“اللورد آشر من أسرة فيتسمان…”
“ولمن؟”
سألت سيندي بعينين متلألئتين ربما ظنّت أن الهدية أُرسلت إليها، خاصةً وأن آشر كان دائم اللطف معها.
“لقد أُرسلت إلى الآنسة إليانور هدسون.”
“… من قلتِ؟”
لكن في اللحظة التالية مباشرة، انقسم وجه سيندي المبتسم كمرآةٍ تحطّمت عقدت حاجبيها قليلًا، وأمالت رأسها وهي تسأل من جديد
“اسم المستلِم هو الآنسة إليانور هدسون.”
أجاب موظف محلّ المجوهرات، الذي جاء ليسلّم البضاعة فوجد نفسه الآن موضع استجواب، وهو يتلفّت بعينين قَلِقتين
“ولِمَ يقدّم هذا إلى الآنسة إليانور هدسون؟”
“أنا… لست متأكدًا تمامًا…”
“ألا تظنّ أنّ هناك خطأ ما؟”
بدأت سيندي تضغط على الموظف بنبرةٍ حادّة، فارتبك الرجل وأخذ العرق البارد يتصبّب من جبينه عندها بالضبط، عاد لوغان من الخارج بعد انتهائه من أعماله.
“ما الذي يحدث هنا؟”
“هذا الرجل جاء لتسليم القلادة، ويقول إن اللورد آشر قد أرسلها هديةً إلى المعلّمة أليس هذا كلامًا لا يُصدَّق؟”
ثم ناولت الموظف علبة القلادة بطريقةٍ فظة، وكأنها تطلب منه أن يعيدها فورًا، لكنها توقفت حين رفعت بصرها ورأت إليانور واقفةً عند الدرج ارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة، وارتجفت إليانور تلقائيًا.
“حقًا؟ هل تلقّت إليانور تلك الهدية من اللورد آشر بنفسها؟”
سألت سيندي بصوتٍ واثق، وكأنها على يقين بأنّ ذلك مستحيل.
“مستحيل طبعًا، أليس كذلك؟ امرأة لا تربطها به أي علاقة، تغويه لتحصل على هدية كهذه؟”
“……”
“معلمة أوليفيا لا يمكن أن تكون بهذا السوء في سلوكها، واللورد آشر ليس رجلًا طائشًا إلى هذا الحد أليس كذلك، يا إليانور؟”
كان صوت سيندي باردًا كالجليد وقفت إليانور في مكانها مترددة، لا تدري ما تقول لم يكن همّها الإهانة التي لحقتها بقدر ما كانت تخشى ردّة فعل لوغان .
“ربما كان آشر هو من اشترى القلادة، لكنني أنا من دفع ثمنها.”
التفتت سيندي نحوه بارتباك، وعلامات الصدمة على وجهها.
“أهديتَ القلادة إلى المعلّمة؟ ولِمَ ذلك؟”
“لقد طلبتُ من الآنسة هدسون أن ترافقني كشريكتي في حفل زفاف الأميرة دافني وحفل الاستقبال بعدها.”
“لوغان!”
صرخت سيندي بصوتٍ حادٍ متوتر
“هل تنوي أن تلطّخ سمعة أسرة دوق كلافن؟! قلتُ لك بوضوح إنني سأتواصل مع السيده كلير من أسرة ماركيز بيرسيس!”
“ذلك كان قراركِ أنتِ يا أمي، أمّا أنا فلي رأيٌ مختلف.”
ثم أخد العلبة من يد الموظف الذي كان ما يزال واقفًا مذهولًا، ممسكًا بها على راحة يده.
“أنا واثق أن الآنسة هدسون ستؤدي دور الشريكة في الحفل على أكمل وجه، بسلوكٍ لائق لا تشوبه شائبة.”
قالها بصوتٍ هادئ بينما يدافع عن إليانور التي كانت تُهان أمام الجميع، وفتح العلبة أمام الحاضرين اتسعت عيون الخدم المراقبين للمشهد بدهشةٍ ظاهرة.
“إنها قطعة جيدة الصنع.”
ألقى لوغان نظرة قصيرة على القلادة قبل أن يشيح ببصره عنها كان يعرف قيمتها جيدًا، ورغم ذلك أنهى تقييمه بعبارةٍ مقتضبة كهذه.
“ولأنها قبلت طلبي بصدرٍ رحب، فهي تستحق هذه الهدية.”
اقتربت خادمة تقف بجانبه بخفّةٍ لتأخذ العلبة وتقدّمها إلى إليانور مدت الأخيرة يدها بتردّد لتأخذها، لكنّ سيندي ضحكت ضحكة قصيرة ساخرة لا تخلو من الغيظ.
“هاه!”
“……”
“أتراني أُهان هكذا فقط لأنني زوجة أبيه؟ يا لي من امرأةٍ بائسة!”
لم تستطع سيندي تحمّل شعورها بالإهانة، فحدّقت في لوغان بنظراتٍ غاضبة قبل أن تستدير وتغادر إلى غرفتها.
أما لوغان ، فلم يُبدِ أدنى اكتراث، واكتفى بأن ألقى نظرة قصيرة على ظهرها وهي تبتعد، ثم استدار بلا مبالاة.
نظرت إليانور إلى الاتجاه الذي غادر فيه لوغان ثم إلى علبة القلادة التي تحملها بين يديها، قبل أن تنسحب بهدوء إلى غرفتها.
كان واضحًا أنّ لوغان في مزاجٍ سيّئ، وليس من الحكمة أن تثير غضبه الآن بالحديث عن إعادة القلادة التي كانت سبب الخلاف كله.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
The Time When Love Intersects
تحتوي القصة على موضوعات حساسة أو مشاهد عنيفة قد لا تكون مناسبة للقراء الصغار جدا وبالتالي يتم حظرها لحمايتهم.
هل عمرك أكبر من 15 سنة
التعليقات لهذا الفصل " 18"