“أن يقوم الدوق بخطوته أولاً، لم أكن أتوقع ذلك.”
تمتم آشر متذمّرًا؛ فالأمر لم يَسِر كما اتفقا عليه — كان من المفترض أن يغادرا بعد تناول الغداء فقط — لكن لوغان، الذي وجد نفسه فجأة في موقفٍ يجعله يبدو كالرجل الوقح الذي سلب صديقه شريكته، لم يجرؤ على التطرّق إلى ذلك.
أما عرض لوغان على إليانور بأن ترافقه كشريكته، فقد جرى قبل وصول آشر بوقتٍ قصير فحسب.
“اشربي هذا إنه شاي مخلوط بالعسل، ستشعرين بتحسّن بعده.”
كان قد دعاها إلى مكتبته ليُعلِمها بطريقةٍ تُخفِّف من آثار صداعها، على الأقل بعد أن وضعها في موقفٍ مُحرِج وفي اللحظة التي رفعت فيها إليانور الكوبَ الذي أعدَّه لها مسبقًا بتردُّدٍ خفيف، لفتت أنظاره يدُها الرقيقة التي أمسكت بالكوب كأنّها ترفع ريشةً، والطريقةُ الهادئة التي ارتشفت بها الشاي بلا صوت، وجسدُها المستقيمُ، ووجهُها الأنيقُ الذي خفَضَتْ نظراتَه نصفَ المسافة.
عندها أدرك لوغان من جديدٍ أن إليانور لم تكن من عامّة الناس، بل من أسرةٍ نبيلةٍ كانت تُشاد بمكانتها يومًا ما — أسرةِ بارونٍ عريقة
“الآنسة هدسون.”
“نعم؟”
كانت الفتاة التي طلب من جيفري أن يُعدّ قائمةً بأمثالها تقف الآن أمامه مباشرةً فتاةٌ تنتمي إلى أسرةٍ متواضعةٍ لدرجة أنها تعمل مُعلِّمةً خصوصية، ومع ذلك، كانت تملك من الأناقة والرقيّ ما يجعلها شريكةً تليق بالوقوف إلى جانبه
“هل لديكِ أيّ ارتباطٍ بعد شهرٍ من الآن؟”
“لا، لا شيء على الإطلاق.”
ظنّت إليانور أن الأمر يتعلّق بـأوليفيا، لذلك سارعت إلى النفي، وكأنها كانت على استعدادٍ لتوفير وقتٍ حتى لو لم يكن لديها متّسع منه.
“إن أمكن، هل تودين الحضور إلى مناسبة معي كشريكتي؟”
رمشت إليانور بعينيها مندهشة من السؤال غير المتوقع.
“لقد تلقيتُ دعوة لحفل زفاف الأميرة دافني وحفل الاستقبال الذي يليه، وأحتاج إلى شريكة.”
“لكن هناك آنسات من بيوتٍ أرقى بكثير…”
قالت ذلك بخجلٍ حذر لم يكن السبب جهلها بالآداب أو خوفها من الموقف، بل لعدم فهمها لِمَ يطلب منها لوغان ذلك وهو قادر على إيجاد شريكةٍ أفضل بأضعاف.
وكان لوغان يدرك ذلك تمامًا، فاختار الصراحة بدل المجاملة.
“لا حاجة لي بآنساتٍ من بيوتٍ كبيرة فالملك يراقبني عن كثب.”
وأوضح لوغان أنه بحاجةٍ إلى شريكةٍ يطمئِن الملك حين يراها، لا إلى امرأةٍ تُثير قلقه أو شكوكه وبعد أن استمعت إليانور إلى تفسيره، وافقت بسهولة، إذ لم ترَ في كلماته أيّ ميلٍ عاطفيٍّ أو نيةٍ خفية، فقبلت دون تردد — أو هكذا ظنّ لوغان
“لكنني أكرر، أنا قدّمتُ العرض على أساس أن يحضر الكونت وزوجته.”
“أعلم من كان ليتوقّع أن أكون أنا الحاضر بدلًا من أخي الأكبر وزوجته أو والديّ؟”
تنهد آشر بخفة.
“مجرد سوء توقيت لا أكثر ثم إن التي رفضت مجددًا كانت إليانور نفسها.”
رفضت إليانور عرض آشر مرة أخرى بلطفٍ، لكن بحزمٍ لا يُستهان به كانت تشرح لأوليفيا أهمية الالتزام بالوعود، فلم تشأ أن تُظهر أمامها مثالًا سيئًا بنقض وعدها.
“أن ترفض لأجل أوليفيا في مثل هذا الموقف، هذا يشبهها فعلًا.”
رغم أن الرفض كان مؤلمًا بعض الشيء، إلا أن آشر ضحك بخفة وهو يستذكرها تساءل لوغان في نفسه لوهلة إن كان آشر قد فقد صوابه من شدة الصدمة.
“أعتذر، لكنني سأطلب منك أن تتنازل هذه المرة الملك بحاجة إلى سببٍ يجعله يهدأ قليلًا ويجد ما يسخر به مني.”
لكن حتى لو كان آشر قد فقد عقله، كان لدى لوغان سببٌ وجيه ليصرّ هو أيضًا، خاصة وأن إليانور تمسّكت بوعدها معه.
“أفضل لو لم تصف إليانور بأنها شخصٌ يمكن للملك أن يسخر منه.”
حذّره آشر بنظرةٍ حادّة.
“لم أقل ذلك، لكنني أعتذر إن بدا الأمر كذلك ، وأعتذر أيضًا لأنني سبقتك إليها.”
قدّم لوغان اعتذاره بسهولة، مدركًا أن من العبث استفزاز رجلٍ واقعٍ في الحب.
“أنا أفهم جيدًا لماذا تحتاج إلى الآنسة هدسون، فلا داعي لأن تشرح أكثر، يا صاحب السمو الدوق.”
تقبّل آشر اعتذاره بسلاسة فمهما كان واقعًا في الحب، لم يفقد تمامًا بصيرته.
“لكن بالمقابل، ستساعدها أنت في التحضير لحضور الحفل.”
رفع آشر عينيه نحو لوغان بتعابيرٍ غير مصدّقة بينما كان يسترخي على المقعد الوثيرة.
“أظنّ أن ذلك كافٍ كدليلٍ على حسن النية.”
كان ذلك كرمًا غير متوقع من رجلٍ أعلن مسبقًا أنه لن يتدخل بينه وبين إليانور وما إن استوعب آشر الأمر حتى اعتدل فجأة في مقعده.
“أتقول ذلك حقًا؟”
“بالطبع على أية حال، الآنسة هدسون ستحتاج إلى فستانٍ ومجوهراتٍ مناسبة، وليس لدي وقتٌ لمرافقتها في ذلك.”
كان ذلك لُطفًا تجاه آشر، وفي الوقت ذاته مصلحةً شخصية للوغان نفسه وكما توقع، بدا آشر في غاية السعادة.
“أتظن أن إليانور ستتفاجأ؟”
قال ذلك، بينما كان وجهه مفعمًا بالسعاده حتى بلغت ابتسامته أذنيه.
“ربما، لكن وجودي أنا هناك سيكون مدعاةً لدهشةٍ أكبر.”
تخيّل لوغان نفسه مع إليانور وهما يزوران متجر المصمِّمة لتفصيل فستانها على الأرجح، حين تصل إليانور إلى المتجر سترتسم على وجهها دهشةٌ خفيفة، سيتسع فمها قليلًا وتطرف بعينيها مرارًا قبل أن تستوعب الموقف وبعد أن تدرك ما يجري، ستتوتر وتقول إن هذا ليس ضروريًّا لكنها — بما أنّها فتاةٌ ذكيّة — ستتمالك نفسها سريعًا، وتفكر بأن عليها التصرّف بما يليق بشريكةِ دوقٍ في مناسبةٍ كهذه، لتدخل المتجر بخطواتٍ حذرةٍ تنمّ عن رقيٍّ وأناقة
“سأتكفّل بجميع التكاليف، فلتختَر ما تشاء دون قلق.”
في كل تلك اللحظات، كان لوغان يعلم أن إليانور ستتوتر وتحاول استقراء نواياه من نظراته لكنه ظنّ أن وجود آشر إلى جانبها سيخفف من ذلك التوتر وبما أنه كان يستخدمها وسيلةً لطمأنة الملك، لم يرغب بأن يثقل عليها بأكثر مما يستدعيه الظهور أمام الجميع في الحفل.
فقط… أراد أن يكون لطيفًا مع تلك المرأة التي بدأت أخيرًا تُنزل حذرها، كقطةٍ تخلّت عن توترها شيئًا فشيئًا.
***
كان صباح يوم أحد، وكانت المتاجر المغلقة أكثر من تلك التي فتحت أبوابها وبعد أن عادت إليانور من الكنيسة وعزمت على أن تنال قسطاً من الراحة، تلقت اتصالاً من لوغان، فوجدت نفسها تقف أمام محطة القطار.
“إليانور!”
لكن الذي ظهر أمامها لم يكن لوغان، بل آشر.
كان آشر، بجسده الطويل المتناسق كجسد لوغان، يرتدي بزة رسمية أنيقة، وقد وضع قبعة ضغطها قليلاً على رأسه، فبدت عليه هيئة شاب نبيل أنيق ومهذب
“اللورد أشر؟”
“هل انتظرتِ طويلاً؟”
“قال دوق كلاڤن إنه سيرسل أحد خدمه، فكيف…”
“اليوم أنا من سيتولى خدمتك يا إليانور.”
أن يقول ذلك وهو مرتدٍ تلك الهيئة المتكلفة بدا مضحكاً، فابتسمت إليانور ابتسامة صغيرة مندهشة أشر كان دائماً هكذا على الرغم من أنه من عائلة إيرل فيتسمان المرموقة، وكان خادماً مخلصاً لأسرة دوق كلاڤن منذ زمن طويل، إلا أنه لم يكن متكبراً قط ولهذا كان وجوده إلى جانبها يمنحها شعوراً بالراحة.
“طبعاً، لو سمعت والدتي بهذا الأمر لفقدت وعيها من شدة الصدمة.”
ثم مدّ آشر يده نحوها بابتسامة رقيقة كانت يده الكبيرة مغطاة بقفاز أبيض ناعم.
“لكنها ليست هنا أمامنا الآن، أليس كذلك؟”
ومع ذلك، كان في هذا الرجل ما يحرّك شيئاً غريباً في داخلها لم يكن شعوراً مريحاً فحسب، بل كان يدفعها بخفة إلى الانسياق نحوه، كأنه يهمس لها: “لن يدوم هذا طويلاً… مجرد لحظة عابرة، فما الضرر إن جريتِ مع الريح قليلاً؟”
“ليس لدي ما أقدمه لك.”
“……”
“لا مكافأة، ولا مقابل.”
قالت ذلك وهي تضم يديها فوق صدرها، مترددة في أن تمدّها نحوه.
نعم، هي تعترف لقد هبّ آشر في حياتها مثل نسمة ربيعية دافئة، هزّت قلبها بسهولة لم يحدث بينهما شيء مميز أو عميق، ومع ذلك اضطربت مشاعرها نحوه منحته اسمها منذ لقائهما الأول، وكان ذلك وحده دليلاً كافياً.
لكن هذا هو الحدّ لم تكن إليانور تلك الفتاة الساذجة التي تنقاد وراء اندفاعات عابرة فقدت شقيقها الصغير، وشهدت وفاة والدتها، وغادرت والدها بعد مشاق كثيرة حاولت أن تؤمن بأنها لم تعد تلك الفتاة الساذجة التي كانتها من قبل
“الخادم الحقيقي ربما يطلب المال، لكنني لست خادماً حقيقياً.”
ثم أمسك بيدها المترددة بلطف، فتح أصابعها واحداً تلو الآخر، حتى احتوى يدها في قبضته أحست بحرارة أنامله تخترق القفاز، تمر على راحتها، وتحيط بأصابعها النحيلة.
“يكفيني أن تمسكي بيدي.”
رفع قبعته قليلاً بابتسامة مشرقة، فتدفقت أشعة الصيف بين شعره الذهبي اللامع كحبّات الرمل على الشاطئ.
“هل نذهب، يا أميرتي؟”
كان الوقت بين مطلع الصيف وذروته، الزمن الذي يعبر فيه الفتى الوسيم إلى طور الشباب، حيث تمتزج الملامح اللطيفة بالوسامة الناضجة في آنٍ واحد لم يكن هناك وصف أدق من ذلك لهذا الرجل الفاتن أمامها.
لم تستطع إليانور أن تسحب يدها منه، ولا أن تنطق بكلمة رفض تبعته في صمت.
وكانت تمتلك عذراً مقبولاً على الأقل فهي لم تفعل ذلك بدافع الاندفاع كما في المرة السابقة، بل لأن لوغان هو من أرسل أشر، ليعمل معها نيابةً عنه.
قالت لتخفي اضطرابها
“لو سمعت الأميرة الحقيقية هذا اللقب، لأوسعتك ضرباً.”
فأجابها ضاحكاً
“لا بأس، فالناس يشتمون الملك نفسه في غيابه.”
ثم أضاف وهو يبتسم بثقة
“وفوق ذلك، إليانور، أنتِ أجمل بكثير من الأميرة دافني.”
يا له من رجل… ما أجرأه وما أكثر حديثه المعسول.
“خطاك سريعة يا لورد.”
“عذراً.”
حين قالتها بنبرة خفيفة متبرمة، خفّف أشر من سرعته فوراً، فتابعا السير بخطوات متناسقة، وأيديهما لا تزال متشابكة بدا المنظر كما لو كانا عاشقين.
عاشقان…
ترددت الكلمة في ذهن إليانور وهي تحدق في واجهة زجاجية تعكس صورتهما معاًرومع ذلك، لم تشأ أن تفلت يده خفضت عينيها بهدوء.
فقط لأنها أرادت ذلك، لا أكثر.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
The Time When Love Intersects
تحتوي القصة على موضوعات حساسة أو مشاهد عنيفة قد لا تكون مناسبة للقراء الصغار جدا وبالتالي يتم حظرها لحمايتهم.
هل عمرك أكبر من 15 سنة
التعليقات لهذا الفصل " 16"