من المؤكد أنّه قال ذلك وهو على يقينٍ بأنّها تنتمي إلى عائلةٍ نبيلة تليق بأن تُؤخذ شريكةً له، إذ لو كانت إليانور مجرّد فتاةٍ من عامة الشعب، لما أمكن لشيءٍ كهذا أن يحدث أبدًا.
وبينما كان يُفكّر دون انقطاع في الطريقة التي يمكن أن يجعل بها اقتراحه يبدو طبيعيًّا، كانت الوجبة قد أوشكت على الانتهاء، وذلك بفضل أوليفيا التي أنهت طعامها بهدوءٍ شديد، وهي تراقب تصرّفات إليانور طوال الوقت
قال آشر فجأة، متظاهرًا بالعفوية
“الآن بعد أن ذكرتُ ذلك، سمعتُ أن الأميرة دافني ستتزوج قريبًا.”
هزّ لوغان رأسه بينما كان يشرب الماء.
“هل تلقيتم دعوة؟”
“تقول والدتي إنها وصلتها.”
أجاب آشر وهو يضع السكين جانبًا ويمسح شفتيه اللامعتين بمنديلٍ جاف.
“وهذه المرة طلبت مني أن أمثّل العائلة، لذا عليّ أن أجد شريكةً ترافقني، لكن لا أعلم من يمكن أن أطلب منها ذلك.”
“…….”
” لا أعرف أيّ امرأة مناسبة أيضًا…”
كانت كلماته موجّهة بوضوحٍ إلى إليانور، لكنه لم يتلقَّ منها أيّ ردّه فعلٍ أو اهتمامٍ يُذكر حين ذكر أن مقعد شريكته لا يزال شاغرًا.
“سيكون من الجميل لو كانت شريكتي شخصًا مثل إليانور.”
كان أقصى ما يستطيع آشر فعله في تلك اللحظة هو أن يحاول ألّا يتلعثم كالأبله.
“إلينور، هل لديكِ خططٌ بعد شهر من الآن؟”
رفعت إليانور رأسها بدهشة، وقد كانت تزيل الفتات عن فستان أوليفيا حينها.
“إن لم يكن لديكِ أيّ أمرٍ خاص، فهل تودّين مرافقتي كشريكه لي في الحفل؟”
أخيرًا قالها قبض آشر يديه المرتجفتين بتوتّرٍ على ركبتيه، وكانت قبضتاه المتصلّبتان من شدّة التوتّر تبدوان مضحكتين، ولحسن الحظ كانت مغطّاةً بمفرش المائدة.
رجاءً… لتقبلي.
تحرّكت تفاحة آدم في حلقه بعصبيةٍ واضحة.
“آه، أنا…”
لكن في اللحظة التالية، ابتسمت إليانور ابتسامةً محرجة، بدت عليها الحيرة ومن تلك اللحظة أدرك آشر أنها سترفض.
” أعتذر يا سير آشر.”
قالت وهي تنظر إليه بحذر، وكما توقّع، سقطت كلمات الرفض.
“لا بأس، ليس عليكِ الاعتذار يا إليانور.”
“…….”
“ربما لديكِ التزاماتٌ في ذلك اليوم، أو أيّ أمرٍ آخر، هذا مفهوم.”
أجبر آشر نفسه على الردّ بسرعةٍ ليُخفي إحراجه صحيح أنّه شعر بالخجل بعدما رُفض أمام الجميع، لكن في النهاية، ما المشكلة؟ يستطيع ببساطة ألّا يذهب إلى حفل الزواج أو إلى مأدبة الاستقبال.
“في الواقع، لقد طلب منّي فخامة اللورد بنفسه أن أرافقه كشريكةٍ له في الحفل، فوافقت.”
غير أنّ تلك الكلمات لم تكن متوقّعة، فبقي آشر يحدّق فيها مصعوقًا، ثم وجّه نظره إلى لوغان في محاولةٍ للفهم، بينما بدا على الأخير الارتباك النادر.
“كنتُ أظنّ أنّ الكونت وزوجته سيحضران معًا، ولهذا طلبت مساعدة الآنسة هدسون فحسب.”
تحدّث لوغان بنبرةٍ توحي وكأنه يبرّر نفسه، ليُبيّن أنّه لم يكن ينوي سلب شريكته.
وكان آشر يعلم جيدًا أنّ لوغان لم يفعل ذلك عن قصد، فالعلاقة بينهما لم تصل بعد إلى درجة القرب التي تسمح حتى بمناداته باسمه لا بدّ أنّ هناك سببًا جعله يحتاج إلى إليناور تحديدًا.
“لا داعي لأن تشغلي بالكِ بي، آنسه هدسون افعلي ما ترينه مريحًا لكِ.”
ومع ذلك، لم يستطع آشر أن يمنع نفسه من التعلّق بأملٍ خافتٍ بعد تلك الكلمات.
وحين التقت نظراته بعيني إليانور البنفسجيتين المتألّقتين بضوءٍ من رجاءٍ غامض، تردّدت قليلًا، ثم فتحت شفتيها لتتكلّم.
***
“إيلي، هل ستذهبين إلى الحفلة؟”
استعادت إليانور وعيها على صوت أوليفيا بعدما كانت غارقة في ذكريات الغداء.
“نعم، بعد شهر.”
“وشهر يعني كم ليلة؟”
“ثلاث مرات من عشر ليالٍ.”
جمعت إليانور ثلاثين خرزة في مجموعات من عشر خرزات، وأرتها لأوليفيا.
“ثلاث مجموعات من عشر!”
كان ذلك أسلوباً يسهل فهمه بمجرد النظر وكما هو متوقّع، فهمت أوليفيا على الفور وأومأت برأسها.
“لكن… ما هي الحفلة؟”
“هي مناسبة يُدعى إليها الكثير من الناس في القصر بضع مرات في السنة، يأكلون طعاماً لذيذاً ويتبادلون الأحاديث، شيء من هذا القبيل.”
أجابت إليانور ببساطة على سؤال أوليفيا، لكن ما زالت تبدو وكأنها لم تفهم تماماً.
“وماذا يفعلون هناك؟”
كادت إليانور أن تسألها إن كانت قد حضرت حفلة من قبل، لكنها أغلقت فمها فقد خطر ببالها أنّ سيندي، التي كانت توبّخ الطفلة بشدة، لم تكن لتسمح أبداً بخروج أوليفيا إلى مكانٍ فيه غرباء.
“ذلك اليوم سيكون يوم زفاف الأميرة دافني، الأميرة الوحيدة لمملكة ليدن.”
“زفاف؟ مثل أمي وأبي؟”
أومأت إلينور برأسها كان وجه أوليفيا مشرقاً بالابتسامة، وكأنها فهمت أنّ الزفاف من أسعد المناسبات.
“الفستان الأبيض جميل جداً!”
صفّقت أوليفيا بيديها بسعادة، ثم أسرعت تقفز من على السرير، وبدأت تفتّش داخل أدراجها حتى أخرجت شيئاً أرادت أن تريه لإليانور.
“انظري إلى هذا.”
كانت صورة لسيندي ترتدي فستاناً أبيض يُبرز خصرها النحيل، وإلى جانبها رجل يرتدي بدلة رسمية من ثلاث قطع وبما أنّها قالت إنه زوجها، فلا بدّ أنه دوق كلافِن السابق حدّقت إليانور مطولاً في وجهه داخل الصورة.
كان من المفترض أن يكون في سنّ متقدمة باعتباره زواجاً ثانياً بعد وفاة زوجته الأولى، لكن ملامحه الجافة والقاسية فقط كانت البارزة، ولم يبدُ أن هناك فرقاً كبيراً في العمر بينه وبينها الشيء الوحيد الذي بقي في ذهنها أنه يشبه لوغان تماماً.
هل سيشيخ صاحب السمو الدوق على هذا النحو أيضاً؟ لمست إليانور الصورة بأطراف أصابعها بحذر.
“أمي تبدو مثل الأميرة، أليس كذلك؟”
في تلك اللحظة، قالت أوليفيا بعينين متلألئتين وهي تفتحر بجمال أمها لم تُجبها إليانور بكلمات، بل اكتفت بابتسامة لطيفة تؤكد بها موافقتها في ملامح سيندي آنذاك، حين كانت تدخل بيت زوجها الجديد الأكبر منها سنّاً وهي متوترة من الزواج، لم يكن هناك أيّ أثر لحدة الطبع التي اشتهرت بها لاحقاً
“أوليفيا تريد الذهاب إلى الحفلة أيضاً.”
ربما لهذا السبب كانت أوليفيا تحتفظ بتلك الصورة بعناية شعرت إليانور بحزنٍ خفيف وهي تربّت على كتف الصغيرة.
“لكن هذه المرة سيكون الأمر صعباً، فالحضور يكون فقط لمن تُرسل إليهم الدعوات.”
على الفور، بدا الأسى واضحاً على وجه أوليفيا فمسحت إليانور على ظهرها الصغير برفق.
“لكن، ما رأيك أن نقيم حفلة عيد ميلاد لأوليفيا قريباً؟”
“حفلة عيد ميلاد أوليف؟”
رفعت أوليفيا رأسها فجأة، وقد زال عنها الحزن الذي سببته فكرة عدم دعوتها ابتسمت إليانور وأومأت.
“سأتحدث إلى صاحب السمو، ونقيم حفلة عيد ميلاد لأوليفيا وندعو فقط الأشخاص الذين تريد أوليفيا دعوتهم.”
أعجبت الفكرة أوليفيا كثيراً، فضحكت بفرح وارتمت في حضن إليانور.
“أوليف تحب إيلي أكثر من أي أحد!”
“إذن، ستفعلين ما تقوله المعلمة، أليس كذلك؟”
هزّت أوليفيا رأسها بحماس شديد إلى الأعلى والأسفل قرّرت إليانور ألا تُفوّت تلك الفرصة.
“إذن اتفقنا لا تفتحي الباب وتغادرين منتصف الدرس كما فعلتِ من قبل، ولا تختفي فجأة في الطريق، حسناً؟”
وحين شرحت لها الموقف بالتفصيل، انخفض حماس أوليفيا قليلاً، وأخذت تدير عينيها في حيرة.
“لكن… أمي قالت…”
“صاحب السمو قال إن أوليفيا ليست مضطرة للاختباء، ألن تلتزمي بكلامه؟”
“لا! أوليف ستفي بوعدها!”
أجابت أوليفيا بسرعة وهي تهز رأسها بقوة تذكّرت كيف كان لوغان صارماً ومخيفاً معها في الليلة الماضية، فشعرت بالخوف كان لوغان بالنسبة لأوليفيا دائماً بمثابة الأخ الكبير الذي يمنحها الأمان، لكن وجهه الجامد والبارد تلك الليلة أرعبها.
“أنتٰ تعرفين الآن أن الاختفاء المفاجئ تصرف غير جيد، أليس كذلك؟ وإن كنت تعرفين ذلك، فهل يجوز أن تفعليه أم لا؟”
“لا يجوز…”
أجابت أوليفيا على مضض، لكن ملامحها أظهرت رغبة في الاعتراض.
“لكن، لكن…”
كانت أوليفيا قد أمسكت بطرف كمّ بلوزة إليانور دون أن تعلم.
في يديها المرتجفتين انعكست مشاعر القلق والخوف بوضوح وإليانور كانت تعرف تلك المشاعر جيداً، فقد كانت ترى فيها ظلّ شقيقها الصغير حين كان ينكمش خوفاً بعد أن يوبّخه والدهما بشدّة.
[ يتكلمون عن اخوها او اختها بصيغه المجهول فما هو محدد هل هو ذكر أم انثى ، فأنا بخليه صيغه مذكر إلى يتم تحديد جنسه ]
“هل ما زلتِ تخافين من أمك؟”
سألتها إليانور وهي تحدّق في عينيها الزرقاوين اللتين بدأت الدموع تتجمّع فيهما أومأت أوليفيا برأسها وهي تُخرج شفتها السفلى في حزن.
كانت أوليفيا، الابنة النبيلة لعائلة دوق كلاڤن، قد لاقت من سيندي أسوأ معاملة ممكنة كانت سيندي كلّما رأت وجه أوليفيا تأمرها بالاختفاء، وإن نادت عليها الصغيرة بصوتٍ مسموع، أمرت الخادمة أن تسحبها بعيداً فوراً.
بل إنها لم تتردّد يوماً في ضربها بيدها.
وبالنظر إلى أنّ جسد أوليفيا لا يتجاوز عمره ثماني سنوات، وعقلها أقلّ نضجاً من ذلك حتى، فليس غريباً أن تكون مرتعبة منها.
“إذن فلنفعل هذا، يا أوليفيا.”
قالت إليانور وهي تجثو قليلاً لتكون بعين مستوى نظرها.
“إذا رغبتِ في الذهاب إلى مكان ما، أخبريني أولاً.”
كان من السهل على إليانور أن تقرر ما إذا كان يُسمح لأوليفيا بالخروج أو ترك مكانها.
” لكن إن لم يكن هناك ما يدعو إلى الهرب، ومع ذلك طلبت منكِ أمكِ أن تهربي…”
“…ثم ماذا؟”
سألت أوليفيا بعينين لامعتين يغمرهما فضول خافت.
“عندها ستتشاجر المعلمة مع أمك نيابةً عنك.”
حتى لو حاولت سيندي مدّ يدها على أوليفيا، كانت إليانور واثقة بأنها ستقف في وجهها.
على الأقل، لو نشب خلاف بينهما بسبب الطفلة، فلن يسمح لوغان بأن يقف متفرجاً.
كانت إليانور تملك الآن من اليقين ما يكفي لتثق بذلك.
“هل تستطيعين حقاً أن تتشاجري مع أمي؟”
سألت أوليفيا وهي تميل رأسها جانباً كأنها سمعت شيئاً غريباً.
صحيح أنها لم تكن تفهم أمور الكبار، لكنها كانت تدرك جيداً تسلسل المكانة داخل القصر.
“…بالطبع أستطيع.”
أجابت إليانور بعد لحظة تردد خفيفة.
عندها ضيّقت أوليفيا عينيها تنظر إليها بريبة، ثم صفّقت فجأة وقد بدت عليها علامات الاكتشاف الكبير.
“إذن لوغان هو الأمير!”
رمشت إليانور بصمت، متحيّرة من كلامها الذي لا تفهم معناه.
“مثل أمي وأبي! لوغان وإليانور سيذهبان معاً إلى الحفلة!”
لو سمع لوغان ذلك لكاد يُغشى عليه حاولت إليانور أن تنكر بسرعة، لكنها لم تتمكّن من إسكات أوليفيا التي صرخت بفرح غامر
“إليانور هي الأميرة، ولوغان هو الأمير!”
ألقت أوليفيا بنفسها على السرير، ودفنت وجهها في الوسادة الناعمة وهي ترفس بقدميها الصغيرتين بحماس، حتى تناثر الغبار في الهواء.
تنهدت إليانور بهدوء لم تجد أي وسيلة تشرح بها لطفلة صغيرة أن خيالها حول زواجها من لوغان ليس سوى وهم طفولي لا سبيل إلى تصحيحه.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
The Time When Love Intersects
تحتوي القصة على موضوعات حساسة أو مشاهد عنيفة قد لا تكون مناسبة للقراء الصغار جدا وبالتالي يتم حظرها لحمايتهم.
هل عمرك أكبر من 15 سنة
التعليقات لهذا الفصل " 15"