“سأحاسبك بخصم عشرين في المئة من راتبك هذا الشهر.”
في اللحظة التي كانت فيها سيندي ترفع شفتيها مبتسمة، متوقعةً أن تنزل عليها صاعقة من الغضب، جاءت كلمات لم تكن في الحسبان.
“لوغان! قلت إن علينا طردها ! كاد الناس خارج القصر يسمعون أن أوليفيا بلهاء!”
صرخت سيندي أخيرًا، وقد تخلت عن الحفاظ على مظهرها أو كرامتها.
“لقد عُثر على أوليفيا، والشائعات التي تقلقين بشأنها لم تنتشر.”
“…….”
“ثم إن أوليفيا — ابنتك — ليست بلهاء، فاسحبي كلامك.”
غير أن هذا الرد لم يطفئ نار لوغان بل زاد من برودة غضبه الحاد حين حدّق في سيندي بنظرته الجليدية، اشتعل وجهها احمرارًا، واشتدت أسنانها على بعضها بقهر حتى بدت عضلات فكّها ترتجف.
“كفى هي موظفة أنا من عيّنها، إذن أنا من سيطردها الآنسة هدسون، جهزي حقائبك وعودي إلى منزلك حالًا.”
قالت سيندي وهي تكتم غضبها بصعوبة لم يكن من السهل عليها تقبّل أن إليانور ، التي يفترض أن تُعاقَب، تُحاط بالحماية، بينما هي تتعرض للتوبيخ أمام الجميع والأسوأ من ذلك أن آشر والخدم كانوا جميعًا شهودًا على ما جرى، فتحطم ما تبقّى من كبريائها كورقة مهترئة.
“أمي.”
“…….”
“سيد دوقية كلافن هو أنا، لا أنتِ.”
كانت كلمات لوغان تلك بمثابة الخاتمة التي دقّ بها المسمار الأخير ارتجفت يد سيندي وهي تشد على طرف تنورتها، لا تقوى على كبح غضبها المتفجر وبعد أن رمقت إليانور بنظرة حانقة، وقفت وغادرت غرفة الاستقبال.
“الآنسة هدسون، ابقي مع أوليفيا وأنت، عد الآن.”
تحرك آشر وكأنه يريد قول شيء، لكنه اكتفى بتحريك شفتيه قليلًا ثم أومأ رأسه وانصرف صحيح أن لوغان يمتلك سلطة واسعة، لكنه لم يكن من أولئك الذين يسيئون استخدامها، ولذلك لم يعتقد آشر أن إليانور ستتأذى بغيابه.
“ستكونين بخير.”
وقبل أن يتجاوزها، لمس آشر ظهر يدها برفق، فخفضت إليانور رأسها لتخفي اضطرابها.
“أوليفيا.”
لوّح لوغان بيده للخدم كي يغادروا جميعًا غرفة الاستقبال، فلم يتبقَّ سوى أوليفيا، وإليانور، ولوغان.
“أنا آسفة…”
ما إن ناداها باسمها حتى فاضت عينا أوليفيا بالدموع واعتذرت فورًا.
“لقد كنتُ شاردة للحظة، يا صاحب السمو.”
“سأتحدث مع الآنسة هدسون لاحقًا أما أنتِ، يا أوليفيا، فقولي لي: ما الخطأ الذي ارتكبتِه؟”
حين حاولت إليانور التحدث دفاعًا عنها، قاطعها لوغان بنبرة حازمة عندها بدأت أوليفيا تتلعثم وهي تروي كيف رأت أمها في المقهى المكشوف، وكيف حذرَتها من أن يلاحظها أحد وعند نهاية الحديث، زفر لوغان بتنهيدة قصيرة
“لقد قلت لكِ مرارًا، أوليفيا، لا داعي لأن تختبئي.”
فأوليفيا كلافن هي ابنة بيت كلافن الدوق جزء منه بكل معنى الكلمة.
ومع أنه كرر ذلك غير مرة، إلا أن أوليفيا لم تفهم بعد أنه لا يوجد ما يبرر خوفها أو اختباءها.
“انظري، لأنك لم تسمعي كلامي واختبأتِ، كانت الآنسة هدسون هي من تلقت اللوم كله.”
اتسعت عينا أوليفيا وهي تنظر نحو إليانور، التي ابتسمت مطمئنةً لها، لكن أوليفيا التي تعرف أن أخاها لا يكذب كانت عيناها تمتلئان بالدموع.
“هل تنوين الاستمرار في الهرب والاختباء أيضًا؟”
“لا! لا، لن أفعل! أوليفيا لن تفعل ذلك!”
هتفت أوليفيا بسرعة وهي تنفي ذلك.
“إذًا، لقد وعدتِ، وعليك الوفاء بوعدك.”
“نعم، لا، أعني… نعم!”
أجابت أوليفيا بحماس، فابتسم لوغن ابتسامة خفيفة ولوّح بالجرس يستدعي الخادمة.
“أوليفيا متسخة، فخذيها واستحميها ثم اجعليها تنام.”
“أمرٌ، يا صاحب السمو.”
لوّحت إليانور بيدها بابتسامة مطمئنة حتى لا تقلق الطفلة وهي تبتعد مع الخادمة وما إن غادرت أوليفيا حتى وجدت إليانور نفسها وحيدة في مواجهة وحشٍ بفم مفتوح.
“الخطأ خطئي، يا صاحب السمو.”
قالت بثبات وهي ترفع عينيها نحوه.
لم يجب لوغان بل رفع كمَّ قميصه، وأمسك الكأس الموضوعة على الطاولة بذراعه القوية كان السائل الكهرماني يتماوج داخل الكأس ويملأ الجو برائحة الكحول الحادة.
“تعترفين بخطئك، ومع ذلك تختبئين خلف رجل؟ هذا أمر لا يُعقل.”
قال ذلك وهو يرفع الكأس إلى فمه ويرتشفها، ثم تابع كلامه بدا كأنه خارج السياق
“لكن الخطأ الحقيقي يقع على سيندي كلافن التي أرعبت الطفلة، وعلى أوليفيا التي انقادت لها كدمية.”
لم تتوقع إليانور أن يقول هذا كانت تظن أنها ستتلقى مزيدًا من التوبيخ، لكنه لم يحمّلها المسؤولية كما ظنت.
“لو لم تجدي الطفلة، لكان الأمر مختلفًا لكنك وجدتها، وهذا يكفي كان لا بد من مواجهة هذا عاجلًا أم آجلًا.”
“لكن…”
“الآنسة هدسون، إن واصلتِ الاعتراض على قراري، فسأعتبر ذلك عدم ثقةٍ في حكمي.”
كان صوته حازمًا، يحمل في نبرته شيئًا من الاستياء فهو سيد هذه الدوقية، وصاحب الحق الكامل في اتخاذ القرارات المناسبة بشأنها، لذا كان طلبها منه التراجع عن قراره بمثابة إهانة ضمنية له.
“لا، أبدًا، لم أقصد ذلك.”
أنكرت إليانور بسرعة نافيةً أن تكون قد أرادت الاعتراض رفع لوغان الكأس إلى شفتيه مجددًا وارتشف منها شفاهه المبتلّة بالكحول القوي تلألأت تحت الضوء، فارتبكت إليانور وأدارت بصرها في عجلة، وكأنها قد رأت شيئًا لا ينبغي أن تراه.
“من خلال ما رأيته حتى الآن، أعتقد أن أوليفيا تحتاج إلى شخصٍ مثلك، الآنسة هدسون.”
كانت أوليفيا قد وعدت بأنها لن تختبئ بعد الآن، لكن لوغان لم يكن قادرًا على تصديق ذلك الوعد بسهولة فهو يعلم أنها إن صادفت سيندي في الخارج مرة أخرى، فستختبئ حتمًا، وسيتكرر الأمر مراتٍ عديدة فذلك الخوف العميق المنقوش في أعماقها لا يُمحى بهذه البساطة.
ومع ذلك، رأى لوغان أن المودة التي تُظهرها إليانور تجاه أوليفيا ربما تكون كفيلة بتغيير ذلك مع مرور الوقت لهذا السبب تحديدًا، اكتفى بعقوبة خفيفة تتمثل في خصم من راتبها، واعتبر المسألة منتهية.
“لذا عودي الآن واستريحي.”
“…….”
“أعلم أنكِ أُرهِقتِ كثيرًا في البحث عن أوليفيا.”
كانت ملامح التعب بادية على وجهها، وشَعرها المبعثر وملابسها غير المرتبة يشهدان على مدى ما بذلته من جهد وعلى الرغم من أنه لم يمضِ شهر كامل منذ التحاقها بالعمل، فإن لوغان أدرك مدى عمق المودة والمسؤولية التي تشعر بها إليانور تجاه أوليفيا.
“أنا…”
حاولت أن تتكلم، لكنها أطبقت شفتيها دون وعي فقد كانت ترى لوغان رجلًا باردًا قاسي الملامح، لكن حين تحدث وكأنه يدرك تمامًا ما مرت به من مشقة، غصّ صوتها بالعَبرة، ولم تستطع متابعة الكلام.
خفضت رأسها، ولفّت أصابعها حول حافة تنورتها المشدودة على فخذيها
بياض ظهر يدها كان يشي بالجهد الذي تبذله في كتمان مشاعرها كانت تُظهر ثباتًا أمام الطفلة التي روعها الخوف، لكنها في طريق العودة بعد أن وجدت أوليفيا، كادت تنهار من شدة الارتياح وتبكي بحرقة.
لقد أرادت أن تعترف لأحدٍ كم كانت خائفة من ألا تعثر عليها، لكنها لم تستطع، لأنها كانت تدرك أن مثل هذا الاعتراف سيكون كأنها تُهين نفسها.
“لقد بذلتِ جهدًا كبيرًا.”
لكن أمام شخصٍ يقدّرها على هذا النحو…
كانت كلماته منخفضة النبرة، لكنها دافئة بطريقةٍ غير معتادة منه، فانهارت إليانور أخيرًا وبكت.
لم تصدر عنها سوى دموعٍ هادئة بلا صوت، تتساقط على الأرض قطرة بعد أخرى، كاشفةً حجم ما عانته في صمت.
حوّل لوغان نظره إلى الحديقة التي غمرها ضوء القمر بصمت.
وبينما كانت إليانور تمسح دموعها شيئًا فشيئًا، ساد بينهما سكون مريح لم يُشعرها بالحرج لم يطردها لوغان ، ولم يحاول مواساتها بكلماتٍ فارغة، وكان ذلك في حد ذاته أصدق شكلٍ من أشكال المواساة يمكن أن يقدمه رجلٌ مثله.
“أشكرك على تفهّمك ، يا صاحب السمو.”
“…….”
“لن أسمح بتكرار مثل هذا الأمر مجددًا.”
قالت وهي تبتسم بعينين حمراوين من البكاء، ثم انحنت احترامًا لم يقل لوغان شيئًا، واكتفى بإيماءة خفيفة برأسه.
غادرت إليانور غرفة الاستقبال وهي تشعر بخفةٍ غريبة في صدرها كانت تدرك أنها لو نالت التوبيخ أو حتى الطرد كما قالت سيندي، لما كان بإمكانها الاعتراض، لكنها شعرت بامتنانٍ عميق لأن لوغان قدّرها وتعامل معها بلطفٍ لم تتوقعه.
“قال صاحب السمو إنكِ إن شربتِ كأسًا من هذا الشراب القوي، فستنامين بعمق.”
كانت تلك الرسالة وحدها كافية لتشعرها بالدفء، غير أن ما وجدته في غرفتها فاق ذلك اللطف فحين عادت بعد أن اغتسلت من العرق الذي التصق بها أثناء البحث عن أوليفيا، وجدت على الطاولة كأسًا زجاجية شفافة، يملؤها سائل كهرماني اللون — الشراب ذاته الذي كان يشربه لوغان قبل قليل.
لم تكن تجيد شرب الكحول، لكنها لم تشأ أن ترد لُطفه بالرفض فتناولت الكأس بعزم، ورفعتها إلى شفتيها، ثم أفرغت محتواها دفعة واحدة دون أن تضيف إليها حتى مكعبًا من الثلج كان الشراب لاذعًا، يلهب حلقها نزولًا حتى معدتها، كأنه يوبخها على اندفاعها الأحمق.
سرعان ما شعرت بدوارٍ خفيف، فرفعت يديها لتغطي فمها، تتنفس بعمق لتهدئ حرارة جسدها، ثم ترنحت نحو السرير استقبلها ملمس الأغطية الناعم كأنها تستلقي فوق الغيوم.
“لقد بذلتِ جهدًا كبيرًا.”
كانت كلماته تلك آخر ما خطر ببالها، وهي تستسلم للنوم كان قراره صائبًا بالفعل ومع تصاعد دفء الشراب في جسدها وارتخاء عضلاتها، ترددت في ذهنها صور صوته الهادئ ونظرته التي تَغافلت عن دموعها احترامًا لها.
رجلٌ يشبه الجدار الذي لا يتزحزح، مهما عصفت به الرياح.
لم يعد يخيفها بعد الآن.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
The Time When Love Intersects
تحتوي القصة على موضوعات حساسة أو مشاهد عنيفة قد لا تكون مناسبة للقراء الصغار جدا وبالتالي يتم حظرها لحمايتهم.
هل عمرك أكبر من 15 سنة
التعليقات لهذا الفصل " 12"