حين تمكنت إليانور من فتح فمها بالكاد ووجهها شاحب، تقدم أشر خطوة إلى الأمام ليحجب إلينور عن نظر سيندي.
وفي الوقت نفسه، عبست سيندي قليلاً ولم تستطع إخفاء غيظها
“خرجتُ في نزهة مع أوليفيا بإذن من لوغان، لكن بسبب تقصيري فقدتُ الطفلة.”
“تقصيركِ؟”
قالت سيندي بنبرة ساخرة.
“أحضرت معلمة خاصة، ثم تقولين إنكِ أضعتِ الطفلة بسبب تقصيرك؟ هذا أمرٌ مثير للسخرية.”
ولأن المكان كان يعج بالناس، لم يكن من اللائق أن تصرخ أو تنفجر غضبًا لذلك، رغم أن نبرتها بدت للوهلة الأولى لطيفة، إلا أنها كانت لاذعة إلى أقصى حد.
“اليوم هو يوم عطلة إليانور، لذلك……”
“يبدو أنكِ أصبحت مقربة منها بما يكفي لتناديها باسمها مجردًا، أليس كذلك؟”
“……”
“ومع ذلك، لا ينبغي لكِ أن تختبئي خلف رجل لتبرري خطأك، أليس كذلك يا إليانور هدسون؟”
بردت تعابير وجه سيندي فجأة.
“قبل أن تتسرب أخبار حالة أوليفيا إلى خارج جدران قصر دوقية كلافن، تعالي إليّ.”
بعد وفاة زوجها، ورث لوغان لقب الدوق، فأصبحت سيندي دوقة سابقة.
ولكن بما أن لوغان لم يتزوج بعد، فقد استمرت هي في التصرف كسيدة القصر ولذلك، لم يكن قليلًا من يسعون للزواج من لوغان طمعًا بالمكانة.
ومن ثم، فإن وجود أوليفيا التي لم تظهر أي علامات على النمو أو التطور كان عارًا بحد ذاته ولهذا، كانت تبذل جهدها لإخفاء حقيقة أنها أنجبت طفلة ناقصة.
أما اليوم، فخطأ بسيط من معلمة خاصة كاد أن يفضح تلك الحقيقة أمام الجميع، وهو ما لم تستطع تحمله أبدًا.
“في الحال!”
أمرَت سيندي بجفاف شديد ورغم أنها لم ترفع صوتها، إلا أن إليانور ظلت تهز رأسها مرارًا قبل أن تركض مبتعدة.
أما آشر، فقد بدا وكأن لديه شيئًا يريد قوله، فظل يلتفت إلى سيندي عدة مرات، لكنه في النهاية لحق بإليانور.
“أوليفيا!”
ذهبت إليانور تنادي اسم أوليفيا بينما تتنقل بين الناس بحثًا عنها وكان آشر يفعل الشيء نفسه.
لم يكن من السهل أبدًا العثور على طفلة لم تبلغ حتى نصف حجم البالغين وسط هذا الحشد من الناس بل إن الظلال نفسها كانت تخفيها.
“ماذا أفعل؟ لقد غفلتُ عنها للحظة……”
“لا تقلقي، إليانور كانت في مكانها قبل لحظات، لذا لا يمكن أن تكون قد ذهبت بعيدًا.”
حاول آشر تهدئة إليانور التي كان وجهها قد شحب من الخوف، لكنها كانت تهمس لنفسها أنها فقدت التركيز من شدة الحماس لخروجها بعد فترة طويلة، وكانت على وشك الانفجار بالبكاء.
“أنا أيضًا أتحمل جزءًا من المسؤولية، إذ لم ألاحظ اختفاء أوليفيا.”
فقدان الطفلة لم يكن خطأ إليانور وحدها، إذ إن آشر أيضًا لم ينتبه.
“لنركز الآن على العثور على الطفلة أولاً.”
هزّت إليانور رأسها بحزم وغيّرت اتجاهها لم يكن بوسعها مواجهة لوغان إذا فشلت في العثور على أوليفيا لا بأس بالبكاء، لكن بعد أن تجد الطفلة.
“أوليفيا!”
كانت إليانور تلهث من القلق والتوتر وهي تمسح بنظرها المكان كان الوقت ظهيرة، والشمس في كبد السماء، والعرق يسيل من ظهرها وعندها، توقفت نظراتها عند زقاق مظلل خلف بناية مائلة.
لو كان الأمر مجرد مزاح، لما اختبأت هناك لكن إن كانت تبحث عن مكان للاختباء، فهذا هو المكان المناسب لم تتردد إليانور ودخلت الزقاق على الفور.
“يا إلهي……”
وهناك، وكأنها معجزة، وجدت أوليفيا كانت الطفلة جالسة على الأرض، ملابسها متسخة، تبكي بهدوء ضمت إليانور يديها معًا ورفعت دعاء صامتًا لله شكرًا.
“أوليفيا، لماذا أنتِ هنا؟”
“إي، إيلي……”
قالت أوليفيا بخوف، وكأنها تخشى العقاب، وانكمشت على نفسها.
اقتربت إليانور بحذر، وجثت على ركبة واحدة لتقابل عيني الطفلة.
“كانت… كانت أمي هناك.”
“……”
ك”قالت لي ألا أخرج……”
يبدو أن أوليفيا رأت والدتها قبل أن تلاحظها إليانور وآشرروتذكرت كيف كانت والدتها دائمًا تصرخ عليها، فهربت إلى هذا الزقاق المجهول.
“ابقِ في غرفتك لا تظهري أمامي لا أريد أن أسمع صوتك الغبي!”
كانت هذه العبارات كل ما سمعته أوليفيا من والدتها فقد كانت مجرد رؤيتها كفيلة بإغضاب سيندي.
لهذا، عندما رأت والدتها، لم تفكر إلا في الهروب إلى مكان مظلم وخفي لا تصل إليه نظرات الآخرين.
“لكن، لكن لا أعرف أنا خائفة.”
غير أن المكان الغريب كان مخيفًا بالطبع طريق مجهول، وأزقة مظلمة في وضح النهار، ولا أحد يساعدها وهكذا انفجرت أوليفيا بالبكاء.
“لا بأس، أنا هنا الآن.”
همست إليانور وهي تعانق الطفلة بلطف شعرت بالراحة لأنها وجدتها، لأنها لم تفقدها للأبد كما فقدت شقيقتها سابقًا.
قبّلت رأس أوليفيا المبلل بالعرق مرارًا، وضمتها بقوة.
“كل شيء على ما يرام الآن هيا نعود.”
وبينما كانت إليانور تواسيها، بدأت أوليفيا تهدأ شيئًا فشيئًا.
مسحت إليانور دموعها بكمّها، وساعدتها على الوقوف، ثم نظّفت طرف فستانها الموحل قدر الإمكان.
“إليانور! أوليفيا!”
ما إن خرجتا من الزقاق، حتى سمعا صوت آشر يركض نحوهما من بعيد وهو ينادي عليهما.
ورغم أن أصابع إليانور ما زالت باردة من التوتر، وكان قلبها يرتجف، إلا أن رؤيته بعثت الطمأنينة في قلبها شعرت وكأنها تستطيع الجلوس مكانها والاستسلام
كان ذلك أشبه بصوت انهيار الجدار الذي بنته بصعوبة، حجراً فوق حجر، لتحمي به نفسها
***
كان الهواء في طريق العودة باردًا.
لم يتمكن آشر وإليانور من قول أي شيء بسبب ملامحهما المتعبة، ونتيجة لذلك، أدركت أوليفيا خطأها ولم تفعل شيئًا سوى تحريك عينيها بقلق.
في الحقيقة، أن يفقد أحدهم طفلًا أثناء غفلة ثم يعثر عليه لاحقًا لم يكن أمرًا نادرًا، لكن المشكلة الكبرى كانت في أن سيندي، الأم، هي من اكتشفت الأمر.
وسيندي لم تكن لتتغاضى عن أمر كهذا أبدًا، إذ كادت عورتها أن تُفضح دون أي ساتر يحميها.
“انزلي، أوليفيا.”
لم يكن من الصواب القول إنها لم تكن خائفة، لكن بما أن الخطأ كان خطأها، وجب عليها تحمُّل عواقبه.
فور توقف العربة في ساحة قصر دوقية كلافن وفتح بابها، نزلت إليانور وساعدت أوليفيا على النزول.
أما المظلة التي خرجت بها في الأصل، فقد فُقدت منذ زمن، مما جعل يديها حرتين بما يكفي لمساعدة أوليفيا.
“شكرًا لك، ومعذرة على اليوم، يا سيد آشر عد إلى منزلك سالمًا.”
لكن آشر لم يكتفِ بإلقاء التحية، بل نزل من العربة أيضًا نظرت إليه إليانور بدهشة، فابتسم لها بابتسامة متعبة.
التعليقات لهذا الفصل " 11"