كان الجو جميلاً.
كانت إلينور تستمتع بالضوء المتدفق عبر نافذة العربة وبالهدوء المترف، بينما تتأمل المشاهد المتغيّرة من حولها.
فمنذ أن غادرت قصر دوق كلافن، تلاشت الغابة المترامية بأشجار الدلب الخضراء، وحلّت محلها شوارع تصطف على جانبيها مبانٍ من الآجر والإسمنت
“وااو.”
أوليفيا، التي لم يسبق لها أن خرجت إلى أماكن كثيرة مثل والدتها، التصقت بالنافذة وأطلقت تنهيدة إعجاب.
تذكّرت إليانور نفسها حين أُخذت لأول مرة إلى المحطة وانبهرت بالمشهد، فمدّت يدها بحنو وجذبت أوليفيا إلى جانبها.
“سننزل ونراها أيضاً، لذا اجلسي بأمان الآن.”
رمشت أوليفيا بعينين بريئتين في حجر إليانور.
لم تفهم لمَ ينبغي تأجيل لحظة ممتعة، لكن بما أنّ إليانور قالت ذلك، بدا الأمر صائباً في نظرها.
“لم أكن أتوقّع أنّ المكان الذي تودّين زيارته هو الجامعة.”
عند سماع صوت آشر، رفعت إليانور بوعي نظرها عن أوليفيا.
“هل ترغبين في الالتحاق بالمدرسة؟”
“نعم، إن كان ذلك ممكناً.”
أجابت إليانور ببساطة.
“وفي أي مجال لديكِ اهتمام؟”
“في التربية.”
تربية؟
تمتم آشر وهو يكرر الكلمة، ثم أومأ ببطء.
عندها بدا أنّه فهم أخيراً سبب قدوم إليانور إلى ساذرن بلا خطبة ولا زواج، بحثاً عن عمل كمدرّسة خصوصية.
“هل تريدين أن تصبحي أستاذة جامعية؟”
“سيكون أمراً رائعاً إن تمكنت من ذلك.”
قالت إليانور بابتسامة رقيقة.
آشر لم يستطع إلا أن يتلصص على ابتسامتها، كصبي مراهق، رغم أنّه يدرك جيداً أنّها لم تُهد له.
جسدها النحيل، شعرها الأشقر المنسدل حتى خصرها، عيناها الرماديتان، وابتسامتها الشاحبة.
في الحقيقة، لم تكن سوى شابة عادية يمكن أن يراها المرء في أي مكان، ومع ذلك كانت تحمل جاذبية غامضة تأسر القلب.
ربما كان ذلك الإحساس الحزين المبطّن بقصة خفية، أو ذلك التحفّظ الحذر الذي يشبه قطة تنأى عن الاقتراب.
“لقد وصلنا.”
قطع السائق على آشر شروده في التحديق بإليانور بلا حرج.
فقد توقّف أمام بوابة جامعة ساذرن وألقى نظرة إلى آشر.
“آه، شكراً لتعبك.”
قال آشر وهو يفتح الباب.
“ما هذا المكان؟”
“هذه مدرسة ، جامعة.”
ما إن أمسكت إليانور بيد آشر ونزلت من العربة حتى سألت أوليفيا بصوت مفعم بالحماس.
فأجابت إلينور بهدوء، متجاوزة آشر، وهي تمسك بيد أوليفيا وتشرح لها عن الجامعة.
“نلتقي بعد ساعتين.”
نظر آشر بأسف إلى اليد التي لامستها يدها للحظة، ثم سلّم على السائق وتبع مسرعاً الفتاتين.
“المكان واسع جداً، أليس كذلك؟”
“نعم إنه أضخم مما تصورت.”
قالت إلينور وهي ترفع رأسها نحو البوابة الشاهقة التي يزيد ارتفاعها ثلاث مرات عن طولها.
كانت تبدو في تلك اللحظة شبيهة تماماً بأوليفيا، بعينين تلمعان انبهاراً كلما خرجت إلى مكان جديد
حين أدرك آشر ذلك ضحك بخفوت، فما كان من إليانور إلا أن استجمعت رباطة جأشها محاولة تمالك ملامحها.
لكن الأوان كان قد فات، فقد انكشفت.
أغمضت عينيها وفتحتهما بإحراج.
“لا بأس جامعة ساذرن هي الأضخم حتى في ليدن.”
“…….”
“لم ألتحق بها شخصياً، لكن هذا ما يُقال.”
حاول آشر أن يخفف عنها الحرج بالتأكيد أنّه لم يدرس فيها أيضاً.
“فلندخل إذن صحيح أنّها عطلة، لكن المكتبة ستكون مفتوحة.”
أشار آشر أمامه ومضى بخطواته أما إليانور، فأمسكت بيد أوليفيا وتبعته ببطء.
كما قال، كان الطلاب قلائل بسبب العطلة، لكن ذلك جعل جمال الحرم الجامعي أكثر بروزاً: الطرق النظيفة، المروج الخضراء، الأشجار العتيقة التي صمدت مع السنين، ورائحة الورق والحبر التي تثير حواس المرء.
“عليكِ أن تلتزمي الصمت داخل المكتبة، مفهوم؟”
همست إليانور أمام الباب.
فأومأت أوليفيا برأسها مراراً بحماسة، رغم أنها لا تفهم حقاً.
“……وااو.”
ما إن فُتح الباب ودخلوا المكتبة الفسيحة، حتى انطلقت هتاف إعجاب من أوليفيا، ثم سارعت إلى تغطية فمها بكفيها.
في قصر كلافن مكتبة صغيرة، لكنها لا تقارن بهذا الحجم.
قبّة شاهقة، جدران محاطة برفوف مكتظة بالكتب، أمينة مكتبة تتسلق السلّم لترتب المجلدات، ورائحة الورق العتيق الدافئة.
خفق قلب إليانور بشدّة.
أدركت في قرارة نفسها أنّ يوماً ما سيأتي، وستجول هذا المكان بصفتها طالبة.
“سأجلس هناك مع أوليفيا.”
بجوار النوافذ، وُضعت بعض الطاولات متباعدة لاحظ آشر بريق عينيها، فأخذ أوليفيا وسار بها نحو طاولة.
بذلك أتيح لإليانور التجول بحرية داخل المكتبة دون أن يزعجها أحد.
مضت بين رفوف مقسّمة بحسب التخصصات، حتى توقفت مترددة وسحبت كتاباً سميكاً في التربية.
“……آه!”
في اللحظة نفسها، انسحبت من الجهة المقابلة بضعة كتب سميكة، فظهر وجه آشر من خلال الفراغ تراجعت إليانور خطوة بدهشة انهمرت أشعة الضوء من خلفه، حتى بدت لامعة كخصلات شعره الذهبي.
حين التقت عيناها بعينيه مباشرة، رمشت مندهشة وقد فقدت النطق كان السكون يلف المكان، غير أن قلبها يخفق كمن يعلن وجوده بكل قوة دماؤها جرت بسرعة حتى وخزت أطراف أصابعها.
“كنت أنوي الانتظار بهدوء، لكن أوليفيا أرادت أن نمزح قليلاً.”
قال آشر بوجه ماكر.
“رجل في مثل سنك يشارك طفلة في مزحة؟”
ضحكت أوليفيا بخفة وقد ظهرت فجأة كالشبح الصغير في قصر كلافن واضح أنهما اتفقا مسبقاً.
وضعت إلينور يدها على صدرها لتهدئة الفزع، وأطلقت ضحكة مرتبكة، ثم أعادت الكتاب إلى مكانه حاجبة وجه آشر عن ناظريها.
لقد كان خروجها اليوم لمجرد رؤية شكل جامعة ساذرن، لا من أجل القراءة.
تذكّرت إلينور ذلك فجأة وهي تبتعد عن الرف متجهة إلى الخارج.
تبعها آشر وأوليفيا بخطوات سريعة وهما ينزلان من المنحدر خلفها
“إلينور، هل أنتِ غاضبة؟”
“إيلي، غضبتِ؟”
رمقتهما بنظرة جانبية وهما يتوجسان بدا وكأن أذنين غير مرئيتين لحيوان ترفرفان فوق رأسيهما حينها خطرت لإليانور فكرة لممازحة آشر لم يكن عدلاً أن تكون وحدها من تفزع.
“ماذا لو كنتُ قد صرخت هناك؟ أوليفيا قد يُعذر لها ذلك، لكنك أنتَ تعلم أنه لا يليق بك.”
“آسف…….”
قالها آشر بجدية، وقد حسب أنّها غاضبة فعلاً، فارتسمت على وجهه ملامح قلقة أما إليانور فأدارت وجهها عنه دون جواب.
“كنت أنوي دعوتكما لتناول الطعام مكافأة على هذه الجولة.”
“…….”
“إن كنتَ نادماً حقاً، فعليك أن تدفع ثمن طعامي.”
قالت وهي تدير رأسها قليلاً نحوه.
“بالطبع سأتكفل بذلك!”
أجاب فوراً، وكأنها فرصته الوحيدة لنيل مسامحتها.
لكنه ما لبث أن أعاد التفكير في كلماتها التي بدت وكأنها مزحة، فأمال رأسه بتردد وعندما تلاقت نظراتهما، لم تستطع إليانور أن تتمالك نفسها، فقهقهت ضاحكة بخفة بدا على آشر ملامح الخيبة، فقد شعر وكأنه سقط إلى الجحيم لمجرد قلقه من أن تُغضبها كلماته ولو للحظة.
“حين يدعو الرجل الفتاة إلى موعد، فمن الطبيعي أن يكون الدفع عليه.”
قال آشر ذلك مبتسمًا وكأن الأمر بديهي، ثم أضاف رأيه بصيغة تدل على ثقته.
وعندما هددته إليانور مازحة بأنها ستتوقع منه الكثير، أجابها آشر بأنه لا بأس في أن تتوقع، ثم حمل أوليفيا، التي كانت تتشبث بطرف سترته، فجأة إلى الأعلى.
فزعت أوليفيا واتسعت عيناها دهشة، لكنها سرعان ما طوقت عنقه بذراعيها.
“أنت بارع في الكلام.”
“أسمع هذا كثيراً.”
تابع آشر سيره بخفة وهو يحمل أوليفيا، محافظًا على تناغم خطواته مع إليانور.
النظرات المتبادلة بينهما كانت تحمل شيئًا يصعب وصفه.
أما أوليفيا، التي كانت تظن أن الاثنين في شجار، فمالت برأسها حيرةً، عاجزة عن فهم التغيّر الغريب في الأجواء بينهما.
***
بعد أن أنهوا وجبتهم الدسمة في المطعم، جلسوا في مقهى خارجي بالقرب من محطة ساذرن.
بينما كان آشِر وإلِيانور يتفحصان قوائم الطعام في أيديهم، كانت أوليفيا تلهث بنظرها حول المكان بقلق.
فقد كانت هذه المرة الأولى التي ترى فيها مكانًا مزدحمًا بهذا الشكل، وكل شيء كان مخيفًا ومثيرًا في الوقت ذاته.
“فنجان قهوة واحد و…”
“وأنا أيضًا فنجان قهوة من فضلك.”
قدمت إلِيانور قائمة الطعام مرة أخرى للنادل بعد أن أنهت الطلب، وكانت بذلك قد تركت يد أوليفيا مؤقتًا.
“أوليفيا، هل تريدين أن أشتري لك بعض الكراميل؟”
دار آشِر بجسده نحو أوليفيا وهو يمرر يده على ذقنه المشذب بعناية، لكنه فوجئ بأن المقعد الذي كانت تجلس عليه أوليفيا فارغ تمامًا.
“…أوليفيا؟”
نهضت إلِيانور مذعورة من مكانها مناديةً اسم أوليفيا في المقهى الخارجي المزدحم بالناس، لم يكن هناك أثر لأوليفيا في أي مكان.
“أوليفيا!”
“آشِر؟ إلِيانور؟”
في اللحظة التي نادت فيها أوليفيا باسمها، ظهرت سيندي، التي كانت دائمًا متألقة بأزيائها البراقة، واكتشفت آشِر وإلِيانور وابتعدت نحوهما.
“كنت أظن أنكما على موعد فقط، لكن من الغريب أن تبحثا عن أوليفيا هنا هل لي أن أعرف لماذا تبحثان عنها في هذا المكان؟”
ثم طرحت سؤالًا على إلِيانور لم تستطع فتح فمها للإجابة عليه كان صوتها مزيجًا من الفضول والغضب تجاه ما كانت تتوقعه بالفعل.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
The Time When Love Intersects
تحتوي القصة على موضوعات حساسة أو مشاهد عنيفة قد لا تكون مناسبة للقراء الصغار جدا وبالتالي يتم حظرها لحمايتهم.
هل عمرك أكبر من 15 سنة
التعليقات