1
“هل عدتِ مجددًا؟”
قالت إيسلا، صاحبة محل الزهور، وهي تبتسم عندما رأت إلينور كانت إليانور تزور محل الزهور مرة واحدة في الأسبوع دون انقطاع لشراء الزهور، لذا كانت زبونة عزيزة على قلب إيسلا.
“هل أقدم لك زهور الزعفران البيضاء كالمعتاد؟”
سألت إيسلا وهي تمسح يديها المبللتين في مئزرها.
“لا، اليوم أريد شراء زهور مختلفة.”
عندما أجابت إليانور، اتسعت عينا إيسلا بدهشة.
لم تكن تتوقع مثل هذا الرد ففي مثل هذا الوقت من العام، كانت إلينور تطلب دومًا زهور الزعفران البيضاء وعندما تسألها إيسلا عن المكان الذي تضع فيه الزهور، كانت تجيب بأنها تزين بها جانب سريرها في غرفة النوم.
“ما الذي جعلك تغيرين رأيك؟”
سألتها إيسلا بدهشة، فابتسمت إليانور ابتسامة خفيفة.
“لقد حان وقت التغيير.”
كان ردها غامضًا، ما جعل إيسلا تميل برأسها بتعجب، لكنها سرعان ما ارتدت ابتسامتها المعتادة اعتقدت أن ذوقها قد تغيّر وحسب، وبما أنها لا تزال تنوي الشراء، فالأمر جيد من وجهة نظرها.
“ما الزهور التي تودينها إذًا اليوم؟”
“نرجس، من فضلك.”
فأجابت إيسلا بحماس: “حسنًا!”، ثم أسرعت إلى الداخل.
وبينما كانت إليانور تنتظر عند المدخل، قامت إيسلا بلف باقة أنيقة من زهور النرجس باستخدام ورق التغليف.
“هل ستعودين مباشرة إلى القصر؟”
“أظن أن عليّ ذلك يبدو أن المطر على وشك الهطول.”
“لقد شعرت بذلك من ألم ركبتي منذ الصباح.”
قالت إيسلا ممازحة وهي تشكو من ألم ركبتيها استلمت إلينور باقة الزهور من يدها، ثم دفعت ثمنها.
“لكن، أين خادمتك التي ترافقك دائمًا؟ ألم تأتِ بمفردك اليوم؟ سيغضب الدوق كثيرًا إن علم بذلك.”
كان دوق كلافن، لوغان كلافن، معروفًا بحمايته الزائدة لإليانور، ولم يكن ذلك بالأمر الجديد على الأقل، كل من يعيش بالقرب من قصر كلافن كان يعلم ذلك.
بدأ كل شيء عندما أعلن الدوق، متحديًا معارضة عائلته، نيّته الزواج من إليانور هدسون، النبيلة المفلسة، وجعلها السيدة إليانور كلافن فأول ما فعله هو إعلان خطوبته منها، ثم أحاطها بأشخاص يثق بهم من كل الجهات، حتى لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها بسوء.
حتى أن زوجة أبيه، السيدة سيندي كلافن، تعرضت للتوبيخ الشديد من قِبله عندما أساءت معاملة إليانور، وأصبح ذلك الحادث حديث الناس في الجوار لفترة طويلة.
“إنه ليس من هذا النوع من الرجال.”
قالت إليانور بابتسامة صافية.
كادت إيسلا أن ترد عليها قائلة إن إليانور وحدها من تعتقد ذلك، لكنها امتنعت عن ذلك فهي خافت إن كان الدوق لا يريد لإليانور أن تتغير عن حالها الحالية، فقد يؤدي أي تعليق إلى عواقب لا تُحمد عقباها.
“سأغادر الآن، إيسلا.”
عندما التقت بها للمرة الأولى، كانت إلينور تبدو عادية الملامح وغير لافتة للنظر، لكن كلما رآها المرء أكثر، ازداد سحرها وضوحًا.
بشرتها بيضاء وشفافة، وعيناها الرماديتان وشعرها الأشقر الطويل كانا يضفيان عليها هالة من النقاء.
وكانت شفتاها، اللتان تتلونان بلون أحمر طبيعي، تكملان هذه الصورة الجميلة، لا سيما بعد أن انضمت ثروات عائلة كلافن إلى هذه الجاذبية، فأصبحت جمالًا متكاملًا.
حتى إن بعض النساء بدأن بتقليدها مؤخرًا، معتقدات أنهن بذلك سيحظين بحب الرجال كما لو في حلم وبالطبع، من دون ملامحها وتلك الهالة من الجاذبية، لم يكن ذلك ممكنًا، لكن يبدو أن هناك من يصدق ذلك.
“عودي إلى القصر بسلام، إليانور.”
قالت إيسلا بابتسامتها التجارية المعتادة، وهي تودعها وتعود إلى عملها.
وفي تلك اللحظة، سقطت أولى قطرات المطر الربيعي على أثر خطوات إلينور في التراب.
***
“آسفة على التأخير.”
“الاستحمام في مثل هذا الوقت… لا بد أنك خرجتِ وتبللتِ تحت المطر.”
رمقها لوغان بنظرة قصيرة وهو يخمن السبب لم تستطع إليانور أن تكذب، فاكتفت بابتسامة محرجة.
أما روزي، وصيفتها الخاصة الواقفة خلفها، فقد خفضت رأسها بارتباك، وارتسمت على ملامحها نظرة توحي بأنها تتوقع سماع كلام غير سار لاحقاً.
“على أية حال، اجلسي قبل أن يبرد الطعام.”
قال لوغان مشيراً بعينيه إلى الطبق المعدّ لإلينور.
“خرجتُ لأشتري بعض الزهور.”
“حقاً؟”
بدلاً من أن تلتقط أدوات الطعام، آثرت إلينور أن تشرح وجهتها أعاد لوغان سؤاله بنبرة لينة، غير أنه لم يلمس قطعة واحدة من شريحة لحم الغنم المشويّة كما يحبها، مطهوة جيداً، بل اكتفى بتدوير كأس النبيذ بين أصابعه، ما كان كافياً ليدل على اضطراب داخله.
“اليوم اشتريتُ نرجساً.”
زهرة النرجس تحمل معنى: ردّ الجميل في الحب.
توقفت يد لوغان التي كانت تدور الكأس بلا معنى التقت عينا إلينور بحذر بعينيه الزرقاوين اللتين بدتا كأنهما تخترقانها.
“اليوم هو اليوم الأخير من السنوات الثلاث التي وعدتُ بها آشر.”
لم يعد لديها سبب لتتجنب نظرته.
“قررت أن أعترف بالأمر.”
“…….”
“آشر قُتل في ساحة المعركة قبل ثلاث سنوات.”
عضّت إلينور على شفتيها المرتجفتين وفي اللحظة نفسها، وضع لوغان كأس النبيذ الذي كان يمسك به على الطاولة.
طَق!
ذلك الصوت الصغير دوّى في أرجاء غرفة الطعام كأنه طرق مسموع بوضوح.
“هل يمكنني أن أفسر ما قلتهِ كما أشاء؟”
قال لوغان وهو يبلل شفتيه بلسانه قبل أن يسأل بحذر.
أومأت إلينور برأسها بخفة.
حدّق بها لوغان بوجه شارد لبرهة، ثم مسح جبهته وضحك بخفة.
“هل تدركين ما معنى أن أفسره كما أريد؟”
صوته لم يختلف كثيراً عن المعتاد، لكن تحته غليان غريب، لأنه كان أكثر ما ينتظره ويترقبه.
“…… نعم.”
بإجابتها الصريحة، نهض لوغان فجأة من مقعده اندهش الخدم الذين كانوا واقفين في انتظار خدمته، ووجّهوا أنظارهم نحو الدوق بدهشة
“لا يتبعنا أحد.”
قال ذلك، ثم أمسك بمعصم إلينور ورفعها لتقف على قدميها، ولم تستطع إخفاء الدهشة والارتباك اللذين اختلطا على وجهها وهي تُقاد إلى الطابق العلوي
“لا بد أن الجميع قد ارتبكوا…”
لكنها لم تكمل عبارتها، فما إن أُغلق باب غرفة النوم حتى جذبها لوغان على عجل إلى أحضانه ارتجفت إلينور وحاولت أن تدفعه بعيداً، ثم توقفت مترددة فقد كانت هي من قالت له أن يفسر كلامها كما يشاء، وهي تدرك تماماً أنه يتوق إليها.
“ذلك لا يهم الآن، يا إليانور.”
“…….”
“الآن، كل ذلك لا يهم.”
كان لوغان كلما همس، تلامس شفتاه الساخنتان عنقها حيث دفن وجهه، فالمسافة بينهما لم تكن لتُذكر ارتجفت إلينور لا إرادياً حين شعرت بحرارة جسده الصلبة تحت راحتها.
“إن لم يكن هذا ما تفكرين فيه، فقولي الآن أن أتراجع حالاً.”
قالها لوغان بصوت منخفض أقرب إلى الزمجرة ورغم أنه كان يبوح بجسده كله إلى أي مدى يتوق إليها، إلا أنه أظهر وكأنه قادر على التراجع إن طلبت منه ذلك بكلمة واحدة، على الرغم من أنه انتظر طويلاً هذه اللحظة.
لو أنكرت تماماً ترددها لكانت كاذبة لكنها لم تشأ أن تُثقل على هذا الرجل الذي انتظرها ثلاث سنوات طويلة بمزيد من الوهم أو التعذيب.
«إيلي، إن مضت ثلاث سنوات بعد انتهاء الحرب ولم أعد… إن لم أعد…»
«آشر!»
«فمعناه أنني متّ في ساحة القتال، أو أصبحتُ عاجزاً لا أستطيع الحراك فلا تنتظريني، وعيشي حياتك.»
ذلك الرجل الذي أحبّته قد مات في أتون الحرب ألم يكن لوغان نفسه قد جاءها بوجه شاحب لينقل إليها الخبر؟ لقد حان وقت الاعتراف بالحقيقة.
“نادني إيلي من الآن فصاعداً.”
“…….”
“لوغان.”
رفعت إليانور يدها لتلمس برفق فكّه وهمست
“إيلي.”
انعكست في عينيه الزرقاوين الصافيتين دموع فرح كالمتألقة بالندى انحنى لوغان بحذر، وأغمضت إلينور عينيها وهي تشعر بوجهه يقترب.
كانت ذراعاه تطوقان خصرها بقوة، وأنفاسه الساخنة تنثر على شفتيها، وحين لامست شفتاه شفتيها أخيراً، كان هو الآخر يرتجف.
لقد كان أوّل قبلة.
فتحت إليانور شفتيها أخيراً.
كان لوغان متردداً حتى اللحظة الأخيرة، لكنه في تلك اللحظة اندفع عليها بشغف تصرّف كما يليق بجندي لا يفرّط في غنيمة لحظة، فانهمر عليها بنهم، يلمسها وينهب أنفاسها قبضته شدّت على رأسها المرتدّ إلى الوراء.
“سيدي الدوق!”
عندها فقط، دوّى صوت طرق متتابع على الباب، كان كبير الخدم ينادي لوغان توقّف لوغان عن تقبيلها مرغماً، إذ لم يستطع تجاهله.
انفصلت شفتاهما وقد تركت وراءها أثراً مبتلاً لكن كأنما لا بد أن يظل شيء منه ملامساً لها، أبقى جبهته ملتصقة بجبهتها.
“ألم أقل بألا يتبعنا أحد؟”
جاء صوته مشبعاً بالغضب اعتذر كبير الخدم مراراً بأسى.
عندها فقط أدركت إليانور صوت المطر المنهمر بشدّة على النوافذ.
طَقطَق، طَقطَق.
لم تكن تسمعه حتى الآن من شدة اندماجها، فشعرت بالخجل.
لكن ذراعيه ظلّتا تشدّانها إلى صدره واضطرّت إلينور إلى مواجهة نظرته التي تتأملها من مسافة لا تفصل بينهما سوى قبلة أخرى.
هذا الرجل النبيل لا يفترض به أن يكون هكذا… ومع ذلك، شعرت إلينور أنه أشبه بوحش ضخم انحنى ليغرس أنيابه في عنقها.
“لقد أتى ضيف مهم…”
“ماذا؟ أهو الملك بنفسه؟”
قال لوغان وهو يعيد نظره إلى شفتيها ثم يلتفت بسخرية نحو كبير الخدم.
“إنه… السيد آشر فيتسمون الذي حضر.”
في تلك اللحظة لمع البرق وهزّ السماء الاسم الذي لم تظن أنها ستسمعه ثانيةً، أوقف الزمن في مكانه.
***
الفصل الأول
كان اللورد هادسون رمزاً لانحدار النبلاء فبينما كانت مملكة ليدن تشهد ثورة صناعية متسارعة، اختارت أسرته أن تبقى متقوقعة، حتى ابتلعتهم تيارات التغيير لقد دمّرهم غرورهم.
كانوا يفتخرون بلقب منحهم إياه الملك بيده، ذلك الفخر أعماهم وأصمّهم أما تشارلز هادسون، اللورد العاشر، فلم يكن يملك سوى قطعة أرض صغيرة وشيئاً من المال أودعه والده في المصرف.
“تبا لك، لِيَام!”
لكن العالم تغيّر أسرع مما تخيلوا أو آمنوا به.
الجسور الحديدية ربطت المدن، وتقدمت الأسلحة والمتفجرات، وأصبحت الآلات تضاعف إنتاجية صناعة النسيج.
حتى أولئك الفلاحون الذين كانوا يعيشون بالكاد من استئجار أرضه هجروا الضيعة إلى المدن، فأصبحت أراضيه خراباً.
“ذلك اللعين سرق مالي مجدداً!”
تحطّم كبرياء تشارلز هادسون النبيل أمام سطوة المال التي تجاوزت مكانة الألقاب.
ولم يبقَ لديه سوى ديون ثقيلة وبعض الأراضي الزراعية، فاضطر إلى بيعها.
“إليانور! إليانور هادسون!”
ولو أنه باع أرضه حين كانت تعرض بأسعار مرتفعة، لحصل على مال يعينه لكن بعد أن تراكمت الديون، باعها بأبخس ثمن لمن وعده بتسديدها فورا وكان المشتري من طبقة البرجوازيين الجدد الذين طالما احتقرهم.
“أين ذهبت هذه الفتاة؟ والدها هنا ولا تكلف نفسها حتى عناء النزول؟”
ركل تشارلز ساق الطاولة وهو يزفر غضباً اهتزّت سلة الخبز الموضوعة فوقها، وارتجف الخبز اليابس داخلها.
“أنا هنا.”
قالت إليانور وهي تنزل من درج الطابق الثاني.
“كم مرة ناديتك حتى خرجتِ أخيراً؟”
“كنت أراجع ما تعلمت في الدرس.”
“ألستِ معلمة حتى تراجعي دروسك؟ الأولى بكِ أن تجدي زوجاً مناسباً لتخففي العبء، لا أن…”
تنهدت إليانور بخفوت، ثم انحنت لتجمع فتات الخبز المبعثر على الأرض.
“لقد أصبحتُ معلمة خاصة للآنسة أوليفيا من عائلة الدوق كلافن.”
هل كان أبوها السخيف يدرك أن حتى كسرة الخبز هذه تساوي مالاً؟ قطعاً لا.
“ماذا؟ ماذا أصبحتِ؟”
“المعلمة الخاصة لأوليفيا كلافن.”
لقد سئمت من كل هذا ذلك المنزل القديم الذي يكاد ينهار، وتشارلز الذي يدخل مترنّحًا من أثر السكر كل حين ويثير الشغب، وديون القمار التي تتزايد كلما استيقظت لم أعد أرغب سوى في الهرب.
“مُعلّمة خاصة؟! هذا عمل لا يليق إلا بالعامة من الناس!”
صرخ تشارلز بصوت غاضب ووجهه محتقن باللون الأحمر.
“هل تعلمين مدى عراقة عائلة اللورد هدسون؟ تعلمين كم عانيت للحفاظ على اسم العائلة؟!”
“……”
“مُعلّمة؟! ألا يكفيك أنك تلحقين العار باسم العائلة؟!”
في اللحظة التي رفع فيها تشارلز يده، وضعت إليانور قطعة الخبز التي كانت تحملها على الطاولة ورفعت رأسها اصطدم نظرها الحاد بنظره، فتفاجأ تشارلز للحظة وبدت عليه الحيرة، إذ لم يعتد من إليانور، ابنته المطيعة، نظرات كتلك.
“ألم يخبرك أحد في صالات القمار بحقيقة عائلة هدسون؟”
يا لسخرية القدر أن أكون أنا من يتحدث عن عيوب العائلة كانت قطعة الخبز تحت يد إليانور قد تهشمت تمامًا، لكنها تابعت بنبرة ساخرة دون أي تغيير في نبرة صوتها.
“عائلة هدسون؟ آه، تلك العائلة النبيلة ذات التاريخ العريق.”
“……”
“ولكن ما الذي تفعله الآن؟”
“……”
“عن أي عائلة تتحدث؟ لقد أفلسنا منذ زمن، وأصبح رب العائلة لا يغادر صالات القمار أيتسوّل الطعام أيضًا؟ من يعلم.”
في النهاية، لم يتمالك تشارلز أعصابه وصفع إليانور على خدها لكنها تماسكت ولم تسقط، إذ شدّت على ساقيها حتى لا تنهار.
“أيتها المجنونة! حتى الإهانة لها حدود!”
“حين تكون هذه هي الحقيقة، فما أهمية لقب فارغ لا يساوي شيئًا؟”
رفعت إليانور ذقنها، وكان أثر الصفعة جليًّا على بشرتها الصافية الرقيقة لم تكن خالية من الألم، لكن أمام تشارلز، لم ترغب في أن تبدو ضعيفة.
“أطعمتك وأسكنتك، وهذا ما تردين به الجميل؟”
“……”
“لا يحق لك البقاء في هذا المنزل، اجمعي أغراضك وارحلي فورًا!”
صرخ تشارلز وهو يشير نحو الباب.
“كنت سأفعل ذلك على أي حال.”
أجابت إليانور وكأنها كانت تنتظر هذا القرار صعدت إلى الطابق الثاني، وأحضرت أمتعتها التي كانت قد جهزتها مسبقًا حدّق فيها تشارلز بدهشة وهو يضحك بسخرية.
“أتمنى لك الصحة.”
“سأكون بخير طالما أنكِ لست أمامي، ارحلي من هنا!”
انحنت إليانور بعمق نحو تشارلز وفتحت باب القصر وما إن أُغلق الباب الخشبي المتداعي، حتى تاهت الشتائم التي كان يلقيها خلفها.
من المؤسف أن تكون هذه آخر ذكرى لها في ذلك المنزل.
“تماسكي يا إليانور هدسون.”
لكنها تمالكت نفسها بسرعة لقد أحبت الأرض التي نشأت فيها، لكنها لم ترغب في العيش بهذه الطريقة كان عليها أن تفعل شيئًا، على الأقل لتحفظ ذكرياتها مع والدتها.
كان الصيف قد بدأ للتو، ورغم القبعة ذات الحواف العريضة التي كانت تضعها، إلا أن الشمس كانت حارقة وأوراق الأشجار الخضراء التي حركها النسيم، أحدثت ضجيجًا لطيفًا يدغدغ الأذن.
خطت إليانور خطواتها الأولى بوجه يحمل قرارًا حاسمًا كانت خطواتها ثقيلة في البداية، لكنها ما إن اقتربت من محطة القطار، حتى أصبحت شبه عدو.
“تذكرة من الدرجة الثالثة إلى ساذرن، من فضلك.”
سلّمها الموظف تذكرة بالية، بينما كانت تلهث قليلًا أخذت إليانور التذكرة وتوجّهت نحو رصيف القطار.
كانت كينت حيث نشأت، منطقة ريفية، لذا لم يكن في المحطة الكثير من الناس جلست على مقعد خشبي يئنّ تحت وزن الزمن، تنتظر القطار طويلًا.
“عذرًا، هل غادر قطار ساذرن بالفعل؟”
استدارت إليانور قليلاً وهي تغطي خدها المحمر، لترى شابًا وسيمًا بشعر أشقر ناعم، وعينين بلون البنفسج، ينحني نحوها وهو يبتسم بلطافة.
“لا، لم يغادر بعد أنا أيضًا في انتظاره.”
“آه، ياللراحة كنت أركض لألحق به.”
كان الجو حارًّا، وكان قميصه الفضفاض يتطاير مع النسيم، لكن بدلاً من رائحة العرق، كانت تفوح منه رائحة صابون باردة ومنعشة تصرفه كان يمكن أن يُعدّ طائشًا، لكنه لم يبدُ كذلك، لسبب ما.
“هل ستذهبين إلى ساذرن للعمل؟”
لم تكن أسئلته المتلاحقة مزعجة، ربما لأن نظرته كانت خالية من أي خبث أو ريبة.
“نعم، لقد حصلت على عمل هناك.”
“حسنًا، ساذرن مدينة متقدمة جدًا، ومكان رائع للعمل.”
هزّ رأسه مُبديًا إعجابه، وبدأ يمدح دوقية ساذرن.
حتى إليانور كانت تعرف عن دوقها، لوغان كلافن كان يُقال إنه شخص رزين يوحي بأنه في الثلاثين، لكنه في الحقيقة أصغر منها بعام، إذ أصبح سيد الدوقية في التاسعة عشرة، وهو الآن لم يتجاوز الرابعة والعشرين، وهو أيضًا من تعاقد معها للعمل.
“يوجد هناك أيضًا حرس خاص بالدوق، غير الشرطة، لذا فإن الأمن ممتاز.”
“يبدو أنك تعرف الكثير عن ساذرن.”
ابتسم الشاب حين سمع تعليقها.
“أنا من سكان ساذرن أيضًا.”
“يبدو أنك أتيت من بعيد إذًا.”
من ساذرن إلى كينت كانت المسافة تستغرق يومين بالقطار وبالنظر إلى أن كِنت ليست بلدة تستحق عناء التوقف فيها، فإن رحلة هذا الرجل يمكن وصفها بالغريبة.
“في الحقيقة، أنا عائد من دوڤ وكينت مجرد محطة للراحة، ليس إلا.”
دوڤ، المدينة الساحلية، تقع في أقصى أطراف مملكة ليدن، وهي مدينة تعجّ بالبضائع والبحرية، وطبعا، بالخمر.
“يبدو أنك جندي، أليس كذلك؟”
“تحليل ذكي هل يمكنني الجلوس بجانبك؟”
وأشار إلى المقعد الفارغ بجانب إلينور، وبعد محادثة قصيرة بدا لها رجلًا حسن الطبع، فأذنت له بالجلوس.
“الرحلة من دوڤ إلى ساذرن تستغرق ما لا يقل عن خمسة أيام، ولم أستطع تحمّل ذلك حتى الجلوس أصبح مؤلمًا.”
وكانت محقّة في تصديق قوله، فأومأت برأسها مؤيدة.
أضاف:
“لذلك توقفت في كِينت لأرتاح يومًا.”
“فكرة جيدة، لولا أن هذه البلدة لا تحوي ما يُرى.”
“ولهذا كانت مناسبة تمامًا للراحة.”
لم تكن في كلماته أي تشكٍ أو تذمر، بل بدت روحه نقيّة من أي ضغينة.
“القطار قادم.”
دوى صوت العجلات فوق القضبان
دَرْدَرْ، دَرْدَرْ.
ومع الدخان المتصاعد، دخل القطار إلى رصيف المحطة.
وقفت إلينور تنتظر توقفه، ثم التفتت إلى الرجل الواقف إلى جانبها وأومأت له بوداع صامت.
“أنا في الدرجة الثالثة، لذا عليّ أن أذهب إلى هناك.”
“آه، فهمت سعدت بلقائك.”
ردّ بابتسامة عريضة وعينين متسعتين.
استدارت إلينور دون تردد وسارت نحو عربات الدرجة الثالثة.
“اسمي آشر فيتسمان.”
لكنها ما إن اقتربت من وجهتها، حتى اعترض طريقها شيء غير متوقّع. رفعت عينيها بدهشة، لتجده واقفًا أمامها… آشر
قال مبتسمًا
“ناديني باسمي إن التقينا مجددًا.”
كانت عيناه البنفسجيتان تتلألآن كحجر الجمشت تحت ضوء النهار من كان يظن أن عيني رجل يمكن أن تكونا بهذا الجمال؟ أومأت برأسها موافقة، وكأنها مسحورة.
“القطار على وشك المغادرة! الرجاء الصعود فورًا!”
رنّ الجرس، وتعالت أصوات النداء.
أفاقت إليانور من شرودها، واستدارت مسرعة لتلحق بالقطار لم يحاول آشر أن يوقفها.
وما إن جلست داخل القطار، حتى التفتت تلقائيًا إلى الوراء، كما لو أن قلبها سبقها.
“انتظري للحظة، سألحق بك حالًا!”
ناداها آشر وهو يبتسم ابتسامة ماكرة كطفل صغير، ثم ركض بخطى واسعة ليلحق بعربته.
رجل مرح.
فكرت إليانور بذلك وهي تجد طريقها إلى مقعد ضيق في عربة الدرجة الثالثة بالكاد جلست في مقعدها قبل أن يبدأ القطار في التحرك.
ومن خلف النافذة المتسخة، بدأت خضرة كِينت تبتعد شيئًا فشيئًا لكنها، رغم أنها كانت تودّع بلدتها التي عاشت فيها عمرها كله، لم تشعر بالحزن.
كان يكفي أن تتذكر صوت الجرس الرنان، المعلن عن لحظة الرحيل، لتفكر فيه.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ]
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"