كم كان عمر فينسنت الآن؟
سارعت ليفيا تحسب في ذهنها.
إن كان كارديين في السادسة والعشرين هذا العام…
“….عشر سنوات.”
أعادت النظر إلى النافذة.
في تلك اللحظة صار المطر أثقل، والريح تصفع الزجاج بسياط من قطرات ممزوجة بالبرد.
“لا يعقل….”
ارتجف قلبها بشعور ominous يزحف إلى عظامها.
وما إن أدركت، حتى كانت قد ارتدت معطفها، وأسرعت راكضة خارج الغرفة.
‘أنا أكره الأيام الماطرة.’
‘فين، سأعود حتمًا لأخذك.’
‘أمي، لا تذهبي. إنه خطئي.’
‘فقط انتظر عشرة ليالٍ، حسنًا؟’
ذلك ما قالته، ثم تركت يده الصغيرة أمام الميتم، واختفت في المطر المنهمر.
لم يستطع فينسنت سوى أن يقف عاجزًا، يشاهد المطر يبتلع أمه.
لقد صدّق كلماتها. وعدته أنها ستعود بعد عشرة ليالٍ.
لكن عشرة ليالٍ مضت… ثم عشرون… ثم عام بأكمله، ولم تعد.
‘لقد تخلّت عنك أيضًا.’
‘لا! ليس صحيحًا!’
‘كل الأطفال هنا متروكون. وأنت مثلهم.’
كان القائل طفلاً آخر، أقدم نزيل في الميتم، الذي حكم عليه أن يبقى هناك ما بقي حيًّا.
ارتجف فينسنت من الخوف، وبات يبكي كل يوم. وكلما هطل المطر، عادت كوابيسه.
في أحلامه السوداء، يرى أمه تترك يده وتختفي في المطر. مهما ركض خلفها أو تشبّث بها، لم تلتفت له أبدًا.
وبعد كل حلم، كان الحُمّى تفتك بجسده الصغير. لعنة تلازمه.
حتى بعدما جاء “الأب بالتبنّي”، الدوق كارديين، وأخذه إلى قصر مرسيدس… بقيت اللعنة.
بقيت كراهية المطر.
وبالأخص، كراهية أن يبقى وحيدًا في غرفة مظلمة في يوم ممطر.
كلما جلس وحده يستمع إلى صوت المطر، عادت الذكريات والكوابيس تلاحقه.
لهذا، كان يهرب بلا وعي إلى التل الغربي.
هناك، حيث الشجرة العملاقة، وجد مخبأه.
ذلك المكان المنسيّ كان عزاءه الوحيد.
واليوم، حين بدأ المطر ينهمر، ركض فينسنت مباشرة نحو الشجرة.
لكن هذه المرة كان الأمر أسوأ.
لقد سمع من وينستون أن معلّمًا آخر سيضاف إليه.
‘لقد وعدت!’
لقد وعده أنه سيكون لديه معلم واحد فقط.
‘وينستون… أنت تمامًا مثل أمي.’
لا أحد يفي بوعوده.
ذكريات الخيانة والهجر صارت تعض قلبه من جديد.
أغمض عينيه بشدة.
كانت قطرات المطر ترتطم بالأرض، تتناثر على ملابسه، لكنه لم يهتم.
غطّى أذنيه الصغيرتين بيديه.
وأصوات الماضي تتردّد في رأسه:
‘ذلك الطفل الذي جلبه الدوق… لا بد أنه غير شرعي.’
‘ابن في الثالثة؟! هذا مقرف!’
‘لا يعرف حتى من هي أمه. قذر.’
‘لن تتزوج أي امرأة الدوق ما دام ذلك الطفل وارثه المعلن.’
كلمات الكبار يوم قدّمه كارديين للعالم أول مرة، وهو لم يتجاوز الثالثة، حفرت في ذاكرته.
ازدراء، اشمئزاز، نظرات تحطيم.
أدرك أنه شيء لا ينبغي أن يوجد.
كارديين لم يقل سوى: “أنا والدك.”
لكن فينسنت عرف الحقيقة. هذا الرجل ليس والده.
ومع ذلك… أغمض عينيه عن الحقيقة، لأنه أحب البيت الدافئ، والطعام اللذيذ، ودفء العاطفة.
لكن ذلك الوهم انهار حين دخل الأكاديمية.
هناك، سمع من التلاميذ:
‘مولود قذر.’
‘طفل لا يعرف أصله.’
‘محتال!’
‘الدوق نادم على جلبه!’
كلماتهم طعنات في صدره.
هرب من الأكاديمية، غير قادر على التنفس من الإهانة.
ولمّا عاد، لم يلقَ من كارديين سوى نظرة باردة صامتة.
لا عتاب، لا كلمة.
ذلك الصمت كان أسوأ من أي عقاب.
ومنذ ذلك الحين، غرق فينسنت في الشك والقلق.
“متى سيتخلى عني؟ متى سيطردني؟”
المعلّمون الخصوصيون الذين جلبهم وينستون كانوا أسوأ.
احتقارهم متوارث من نبلاء يتفاخرون بالدماء.
سخريتهم جعلته يهرب من الدروس.
وكل مرة هرب فيها، انتظر أن يوبّخه كارديين. أن يقول له على الأقل: “لا تشوّه اسم العائلة.”
لكن لا شيء.
صمت بارد آخر.
‘لقد ندمتَ على جلب شخص مثلي.’
هكذا، مع كل جرح جديد، أخذ فينسنت يبتعد عن كارديين أكثر.
حتى أصبح مقتنعًا:
“الدوق لا يراني ابنه أصلًا.”
وفي يوم ممطر آخر، صعد الصبي التل، ملابسه ملتصقة بجسده المبلل، يلهث تحت المطر.
أمام الشجرة العملاقة، وجد ملاذه المعتاد.
مكان منسيّ، مثلما هو منسيّ.
وقف، لامس جذعها، وشعر بأمان زائف.
كان يخطط أن يختبئ حتى يتوقف المطر… إلى أن رأى شيئًا غريبًا.
شخصًا يجلس هناك.
غريب في مخبئه.
لم يكن من الصعب على ليفيا أن تجد التل الغربي.
فهي قرأت وصفه في “الأصل”، ولم يكن سوى أن تتجه غربًا من المبنى الرئيسي.
لكن المشكلة…
“لقد نسيت المظلّة!”
خرجت مسرعة، فلم تحمل شيئًا سوى معطف.
والآن، وهي تشق طريقها تحت المطر الغزير، بدت وكأنها ناجية من سفينة غارقة.
فكرت أن تعود لتأخذ المظلة… لكنها كانت مبللة أصلًا، فلم تجد جدوى.
المطر ازداد كثافة، الرؤية بالكاد تتجاوز أمتارًا قليلة.
والطريق وعِر، مليء بالشجيرات التي تمزق ملابسها وتستنزف طاقتها.
“كم سيطول هذا؟”
وفجأة… توقفت الأدغال، وظهر أمامها بستان بري تغطيه الأعشاب والزهور المتناثرة.
رفعت بصرها إلى القمة.
وهناك، شامخة، وقفت الشجرة.
“ها هي.”
أحست بقواها تعود، وأسرعت تصعد التل.
وحين وصلت أخيرًا، ألقت بجسدها المرهق على جذع الشجرة.
رفعت بصرها وسط المطر، ورأت القصر.
حتى خلف ستار المطر، كان لا يزال رائعًا وهيمنته واضحة.
فهمت عندها لماذا يهرب فينسنت إلى هنا كلما تألم.
من هذا المكان، يبدو كل شيء بعيدًا… صغيرًا… بلا قيمة.
لكن… لم يكن فينسنت هنا.
ضحكت بارتياح.
“لا بأس… ربما هذا أفضل.”
اتكأت قليلًا، تستمتع بظل الشجرة الضخم يحميها من سيل المطر.
وعادت تفكر في فينسنت مرسيدس.
فالقدر لم ينسج نهاية مأساوية لكارديين وحده…
بل لابنه بالتبني أيضًا.
ذلك الطفل… في المستقبل… سيقتل والده بيديه.
التعليقات لهذا الفصل " 4"