الفصل 265
اشتدّت العاصفة السوداء وكأنّها تمنع تقدّمه.
غُطّيت رؤية كارديان فجأةً بالظلام.
كانت رياح العاصفة حادّةً كالسكاكين.
تشكّلت جروحٌ طويلةٌ وعميقةٌ على أطراف أصابعه، وخدّيه، وأنحاء جسده، وهو يحاول الوصول إلى ليفيا.
كان جسده، الذي بدا وكأنّه لم يعد يتحمّل المزيد من الجروح، يستمرّ في اكتساب خدوشٍ جديدة.
ومع ذلك، لم يتراجع كارديان عن يده الممدودة نحو ليفيا. حتّى وإن تشقّقت أطراف أصابعه، استمرّ في دفعها للأمام.
نحو ليفيا فقط.
* * *
“آه…”
فتحتُ عينيّ، فرأيتُ سماء الليل عبر النافذة.
نظرتُ إلى تلك السماء في ذهول، ثمّ أدركتُ.
‘لقد غفوتُ دون أن أشعر.’
“آه…”
لا أدري كم نمتُ، لكنّ جسدي كان متصلبًا عندما حاولتُ النهوض.
فجأة…
سقط شيءٌ من كتفي.
“ورقة؟”
كانت مذكّرةً صغيرةً مربّعةً.
تحت ضوء القمر، قرأتُ المذكّرة وضحكتُ بخفّة.
[نمتِ بعمقٍ فلم أوقظكِ. كوني أحلامًا سعيدة. -فينسنت-]
“حقًّا، إنّه لطيفٌ جدًّا.”
حتّى بعد أن أصبح مراهقًا، ظلّ فينسنت يبدو كطفلٍ صغيرٍ محبوب.
“حتّى خطّه أصبح جميلًا.”
كان خطّه لا يزال متعرّجًا عندما بدأنا دروسنا الأولى، لكنّه الآن أصبح أنيقًا ومستقيمًا، تمامًا كما نما هو بنبلٍ واستقامة.
“يجب أن أحتفظ بها.”
بينما كنتُ أضع المذكّرة في جيبي، أدركتُ فجأةً أنّ هناك شخصًا آخر في هذا المكان غيري.
ما إن أدركتُ ذلك، حتّى التفتُّ مذعورةً، فبدأت هيئةٌ في الظلام تتّضح تدريجيًّا.
نظرتُ إليها في ذهول، ثمّ فتحتُ فمي بحذر.
“…سيادتك؟”
“تساءلتُ متى ستلاحظينني.”
تقدّم من الظلام بخطواتٍ واضحة، مبتسمًا بخفّة، ثمّ جلس بجانبي.
“لو تأخّرتِ أكثر في ملاحظتي…”
“…ماذا؟ كنتَ ستغضب؟”
سألتُ بنبرةٍ متحدّية، فنظر إليّ للحظة، ثمّ هزّ رأسه مبتسمًا.
“كلّا. كنتُ سأنتظر. حتّى تلاحظينني.”
همس بنبرةٍ لطيفة، ثمّ رفع يده ووضعها على جبهتي.
عبس للحظة، ثمّ تمتم.
“قال فينسنت إنّكِ بدوتِ شاحبة.”
يبدو أنّ الأخبار وصلت إلى أذني كارديان بالفعل.
حسنًا، لهذا هو هنا على الأرجح.
هززتُ رأسي برفق.
“لا، إنّه بخير. يبدو أنّ فينسنت أساء فهم الأمر. أنا بخير.”
“لكنّكِ هربتِ فجأةً قبل قليل.”
“ذلك…”
“هل أنتِ حقًّا بخير؟”
بدا وكأنّه لا يصدّقني، فاستجوبني بوجهٍ متشكّك.
نظرتُ إلى وجهه الممتزج بالقلق والاستياء، ثمّ أشحتُ بنظري.
كانت عيناه المليئتان بالعاطفة تجعل قلبي يتأرجح.
“…ليفيا.”
ارتجفتُ عندما سمعتُ اسمي فجأة.
التفتُّ بحذر، فرأيتُ كارديان ينظر إليّ وقال:
“لا أعرف ما الذي يقلقكِ أو يشغل بالكِ، لكنّني أتمنّى ألّا تعاني أو تتألّمي كثيرًا.”
“…سيادتك.”
مالت هيئة كارديان تدريجيًّا نحوي.
حجب ضوء القمر بجسده، وصوته الذي اقترب أصبح أكثر عمقًا.
“أليس البشر يشعرون بالامتلاء بمجرّد السعي وراء السعادة الظاهرة أمامهم؟ فلمَ التفكير في أمورٍ عميقةٍ ومعقّدة؟”
“…”
“ركّزي على ما ترينه فقط، معلّمة. ما أمام عينيكِ الآن هو أنا.”
كان صوته كالسحر.
سحرٌ يحجب الرؤية ويصمّ الأذنين.
اقترب كارديان أكثر.
أغمض عينيه ببطء.
نظرتُ إليه في ذهول.
كان مغريًا بشكلٍ قاتل. هذا الرجل أمامي.
ليس كارديان وحده.
كلّ شيءٍ هنا كان أشبه بحلمٍ يفوق الأحلام.
مذكّرة فينسنت المليئة بالمحبّة في جيبي.
مظهر كارديان الذي ينتظرني وحدي أمامي.
سعادةٌ مثاليّة.
لكنّ هذا الكمال بدأ يتحوّل تدريجيًّا إلى شعورٍ بالغرابة.
كارديان، كارديان، الرجل الذي أحبّه.
الآن، بالتأكيد…
‘هو ينتظرني.’
حينها انفتحت عيناي.
هذا الرجل أمامي ليس كارديان…
“…لا.”
“…”
“أنتَ لستَ هو.”
توقّف كارديان عن الحركة عند كلامي.
فتح عينيه المغلقتين.
كانت عيناه البنفسجيّتان أبرد من الجليد.
ضحك بعدها وكأنّه مصدوم.
“لستُ أنا؟ عمّ تتحدّثين، معلّمة؟ ”
“أعترف أنّه إغراءٌ يصعب مقاومته.”
“ما الذي تقولينه…”
“بصراحة، أردتُ أن أستسلم لهذا وأبقى هنا.”
“…”
كنتُ متأرجحةً لدرجة أنّني نسيتُ للحظة أنّه حلم.
فكّرتُ أنّه إذا كان حلمًا، فإنّ قبوله كواقعٍ سيجعله واقعًا.
‘لو كنتُ أنا السابقة.’
لو كنتُ تلك الفتاة الوحيدة والحزينة، لربّما قبلتُ هذا الحلم بسعادة.
كنتُ سأغمض عينيّ وأصمّ أذنيّ، وأسعى وراء الرغبة الظاهرة فقط.
لكن…
“لكنه ليس كذلك.”
“…”
“المزيّف لا يمكن أن يصبح حقيقيًّا.”
“ليفيا بيلينغتون.”
كارديان، لا، كارديان المزيّف أمامي، نظر إليّ بتعبيرٍ هادئٍ ومخيف.
“إذن، هل ستتخلّين عنّي، وعن فينسنت، وعن كلّ ما تمنيته حتّى في حلمك؟”
“…”
“مزيف، حقيقي، لمَ هذا مهمّ؟ إذا اعتبرتِ المزيّف حقيقيًّا، فهو حقيقيّ، وإذا اعتبرتِ الحقيقيّ مزيّفًا، فهو مزيّف.”
“كلّا.”
هززتُ رأسي بحزم.
اشتدّ زخمه، لكنّني واجهته بثبات.
“مهما تظاهر المزيّف وخدع الجميع، فإنّ حقيقة كونه مزيّفًا لا تتغيّر.”
“…”
“حقيقتي ليست هنا. و…”
“…”
“الأمر نفسه ينطبق عليكِ. سيليستينا، لا، بل…”
“كفى.”
“سيلينا.”
تحوّل وجه كارديان إلى سيليستينا.
نظرت إليّ بعينين غاضبتين كأنّها تريد قتلي.
“أعرف حقيقتكِ.”
“يكفي.”
“أنتِ المزيّفة التي قتلت القديسة السابقة إليشا واستولت على مكانتها، متظاهرةً بأنّكِ القديسة.”
“كفى!”
بوم!
مع صراخ سيليستينا الغاضب، تطايرت أثاث العيادة بعنف.
“أنا مزيّفة؟ لا، العالم الظالم هو من جعلني هكذا! اللعنة على ثيليا!”
بدأت الدمو ع تنسيل من عيني سيلستينا.
“أردتُ أن أكون محبوبةً. لم أرد أن أكون جرذًا قذرًا، بل طيرًا نقيًّا وجميلًا، يُعجب به الجميع ويحبّونه!”
بوم!
كلّما اشتدّت مشاعر سيليستينا، تشوّه الفضاء بعنف.
كلّ ما صنعته سيليستينا لتغريني كان يتحطّم.
في وسط ذلك، كنتُ أنظر إلى سيليستينا فقط.
كانت تغطّي وجهها بيديها وتبكي.
“هم المخطئون. البشر الذين احتقروني وأهانوني. الذين لم يروا قيمتي. ثيليا التي لم تختَرني. هم المخطئون. أردتُ فقط… أن أكون أنا الحقيقيّة.”
“…”
بصراحة، لا أنكر أنّني أفهم مشاعر سيليستينا.
بل، لأكون أكثر صراحة، هذه مشاعري أنا أيضًا.
الغيرة والظلم اللذين شعرتُ بهما وأنا على سرير المرض، أرى الناس الأصحّاء والسعداء.
أولئك الذين يتمتّعون بما أريده بشدّة دون أن يبذلوا جهدًا.
لمَ أنا بالذات؟ لو أُتيحت لي الفرصة، كنتُ سأعيش أسعد منهم.
أردتُ أن أنتزع ما لهم، وكنتُ أكره كلّ ما حولي.
هل تعلمين؟
“ما الخطأ في أن أناضل لأصبح ما أريد؟ لمَ يتربّص الجميع بي؟”
في تلك اللحظات، كانت البطلة سيليستينا في <الجميع يحبّ القديسة فقط> هي الوحيدة التي جعلتني أصمد.
بوم!
انهار الفضاء أخيرًا.
لم يعد هناك كارديان ولا فينسنت.
بقيتُ أنا وسيليستينا في فضاءٍ مظلم.
أردتُ أن أخبرها.
كم كانت قصّتها مواساةً لي آنذاك.
لكن…
“ما أريده هو أن أكون القديسة الوحيدة في هذه الإمبراطورية. سأكون قديسة إيغريد، وقديسة تيليا الممقوتة. لذا…”
سيليستينا أمامي لم تعد تلك التي وجدتُ فيها العزاء والتشجيع.
لذا، لم يعد لتلك الكلمات معنى.
تقدّمت سيليستينا عبر الظلام.
حتّى بمظهرها المنهار، ظلّت سيليستينا جميلة.
ابتسمت كالزنبق وقالت:
“لذا، اجعليني كاملةً، ليفيا بيلينغتون.”
مدّت سيليستينا ذراعيها كطيرٍ يحلّق، وضمّتني بقوّة.
“في المقابل، سأجعلكِ تحلمين بأحلامٍ سعيدةٍ إلى الأبد.”
تسلّل صوتها الحلو كالحلوى إلى أذنيّ.
أغمضتُ عينيّ للحظة.
شعرتُ بدفءٍ كأنّني أغطّي نفسي ببطانيّةٍ في السرير.
نعم…
‘سرير مرسيدس رائعٌ حقًّا.’
سرير مرسيدس مثاليّ.
يكفي أن تستلقي عليه قليلاً ليذوب أيّ تعبٍ كالثلج.
ليس السرير وحده.
الطعام، الحديقة، كلّ شيءٍ هناك دافئٌ ومريح.
‘أشتاق إليه.’
كمن غادر وطنه، اشتقتُ إلى ذلك المكان بشدّة.
لذا…
‘سأعود إليه.’
إلى هناك.
فتحتُ عينيّ فجأة.
*ੈ✩‧₊˚༺☆༻*ੈ✩‧₊˚
التعليقات لهذا الفصل " 265"