الفصل 253
عضّ فينسنت شفته السّفلى بقوّة محاولًا عدم البكاء.
لكنّه لم يستطع منع الدّموع التي تدفّقت.
“آسف، آسف…”
حاول فينسنت المرتبك أن يمسح عينيه بأكمامه بعنف.
“لا بأس.”
أوقفتُ يده بسرعة وأخرجتُ منديلاً من جيبي لأمسح عينيه.
منذ وقتٍ ما، أصبح المنديل شيئًا أساسيًا بالنّسبة لي.
بينما كنتُ أمسح عينيه برفق بالمنديل النّاعم، عقد فينسنت حاجبيه قليلاً.
نظرتُ بحزن إلى عينيه وخدّيه الحمراء وقالت بهمس:
“لا داعي للأسف. أفهمك، يجب أن تكون منزعجًا جدًا.”
لم يكن كلامًا للتّعزية فحسب.
‘لأنّني مررتُ بنفس التّجربة.’
والدتي.
بالأحرى، والدة هذه الحياة، توفّيت بعد وقتٍ قصير من ولادتي.
حاول والدي أن يجعلني لا أشعر بغيابها، لكن كلّما كبرت، زاد شعوري بالفراغ.
في تلك اللحظات، كنتُ أبتلع دموعي وحدي في غرفتي.
كانت مشاعر لا يمكنني مشاركتها مع أحد.
لأنّ مشاعري قد تتحوّل إلى شعورٍ بالذّنب لدى شخصٍ آخر.
يجب أن يكون فينسنت يشعر بشيءٍ مشابه. ربّما كبت شوقَه وحدَه دون أن يظهره.
ليالٍ عديدة وحيدًا.
“أنا… أنا خائف. خائفٌ من أن أنسى وجهها تمامًا، أن أنسى صوتها، أن لا أستطيع رؤيتها حتّى في الأحلام. هئ…”
لم يستطع فينسنت كبح دموعه المتدفّقة، فاندفع إلى حضني.
ربتّ على ظهره بهدوء.
ظننتُ أنّه بخير.
كان شجاعًا وموقّرًا، فلم أعلم أنّه يحمل هذا الخوف.
‘إنّه خطأي.’
لم يعد بإمكاني تعريف علاقتي بفينسنت كعلاقة معلّمة وتلميذ.
بما أنّني من رأى الجرح الذي أخفاه فينسنت بعناية، فعليّ تحمّل المسؤوليّة.
لكن بسبب انشغالي، وبسبب الفوضى الحاليّة، نسيتُ فينسنت.
لم أعلم أنّه يعاني هكذا في الخفاء.
“…آسفة، فينسنت.”
“المعلّمة فيا.”
أمسك فينسنت بأطراف ثوبي بقوّة مجدّدًا.
نظر إليّ بوجهٍ مبلّل بالدّموع.
“تعهدي لي.”
“تعهد؟”
“تعهدي أنّكِ لن تتركيني مثل أمّي.”
“…”
“أنّكِ لن تختفي مثلها… ألا يمكنكِ التّعهد بذلك؟”
امتلأت عيناه الكبيرتان بالقلق.
كان من الواضح أنّه يخشى رفضي.
“أنا…”
في الأوقات العاديّة، كنتُ سأتعهد على الفور.
لكن الآن، مع المعركة الحاسمة التي تلوح في الأفق، ومع مستقبلٍ غامض مع كارديان، هل يجوز لي تقديم مثل هذا التّعهد؟
ألن أزرع أملًا كاذبًا فيه لأخيّبه لاحقًا؟
…لكن…
“حسنًا، أتعهد.”
علّقتُ خنصري بخنصره الصّغير.
“لن أغادر.”
لأنّني أريد البقاء أيضًا.
بجانب كارديان، داخل عائلة مرسيدس.
و…
‘لقد تعهدنا أن نعيش معًا.’
على الرّغم من أنّ كارديان أساء فهم معنى “نعيش معًا”، إلّا أنّه يعني الرّفقة.
‘حتّى لو لم يكن كعشّاق أو زوجين…’
ألا يمكننا مواصلة علاقتنا الحاليّة؟
فجأة، راودني تساؤل.
‘ما هي علاقتنا الحاليّة؟’
معلّمة ووليّ أمر؟ حلفاء يواجهون عدوًا مشتركًا؟ علاقة تعرف نقاط ضعف بعضها؟
‘…لا أعرف.’
لكن شيءٌ واحدٌ مؤكّد.
‘إنّها علاقةٌ لا يمكن أن تدوم إلى الأبد.’
إذا وجد كارديان رفيقة يومًا ما، أو إذا لم يعد لوجودي فائدة، فعليّ أن أعرف متى أنسحب.
مجرد التّفكير في ذلك جعل صدري يؤلمني.
“لذا، لا تقلق كثيرًا.”
تجاهلتُ الألم بجهد.
من كلامي المطمئن، بدا فينسنت مطمئنًا أخيرًا، وأضاء وجهه.
ابتسمتُ بخفّة له، ثمّ بحثتُ في جيبي.
و…
“في الحقيقة، جئتُ لأعطيكَ هذا.”
“ما هذا؟”
“قلادة.”
وضعتُ القلادة في يده الصّغيرة وأضفتُ.
“قلادة مرسومٌ عليها صورة والديك.”
“!!”
اتّسعت عينا فينسنت من كلامي غير المتوقّع.
حدّق بالقلادة بعيونٍ لا تصدّق، فضغطتُ على الزّر بخفّة.
طق.
انفتحت القلادة مع صوت.
تألّقت الصّورة تحت ضوء القمر.
“…”
“كيف تبدو؟ هل تشبه ذكرياتك الباهتة لوالديك؟”
سألتُ بحذر، لكن فينسنت لم يجب.
بل ظلّ يحدّق بالصّورة، عضّ شفته السّفلى بقوّة.
لا، لم يكن عدم الرّد، بل لم يستطع.
“هئ، هئ…”
اندفعت الدّموع التي توقّفت للتو مجدّدًا.
تساقطت دموعٌ غزيرة على القلادة.
بفضل سحر الحفظ، لن تتضرّر الصّورة.
ربتّ على ظهر فينسنت لبعض الوقت وهو يبكي دون توقّف.
احتضن القلادة وبكى حتّى استسلم للإرهاق ونام.
نظرتُ إلى فينسنت النّائم بعيونٍ متورّمة، ثمّ مددتُ يدي.
كان لا يزال هناك شيءٌ يجب القيام به.
‘إليشا.’
انتشر ضوءٌ يشبه ضوء القمر من راحتي.
‘الآن، سأحقّق طلبكِ الأخير.’
غطّى الضّوء فينسنت كغطاء.
* * *
كان فينسنت يقف وحيدًا في حقلٍ واسع.
كانت السّماء زرقاء، وكانت الأزهار البريّة الصّغيرة تنتشر بين الحقل الأخضر.
هزّت نسمةٌ خفيفة شعر فينسنت.
كان مكانًا هادئًا وجميلاً كالجنّة، لكن فينسنت لم يحبّه.
مهما كان المكان جنّةً، شعر بالقلق لمجرّد أنّه وحيد.
“المعلّمة؟ الدوق؟ ونستون…؟”
نادى الأشخاص الذين يعتمد عليهم وهو غارقٌ في القلق.
لكن لم يأتِ ردٌّ من أيّ مكان.
“هئ…”
هل تُرك وحيدًا مجدّدًا؟
هل عليه الانتظار بلا موعدٍ مجدّدًا؟
مجرد التّفكير جعل نفسه يتسارع ودموعه تتراكم.
في تلك اللحظة…
“-فينـ.”
رفع فينسنت رأسه فجأة عند الصّوت الذي حمله الرّيح.
على الرّغم من أنّه لم يسمعه منذ زمن، عرفه بوضوح.
إنّه بالتأكيد…
“فين.”
صوت أمّي.
أراد فينسنت أن يلتفت فورًا ليتأكّد إن كانت هي حقًا.
لكنّه لم يستطع.
‘ماذا لو لم تكن هي…؟’
لم يكن واثقًا من قدرته على تحمّل خيبة الأمل والفراغ إذا لم تكن هناك.
لذلك، تجمّد في مكانه، عاجزًا عن فعل أيّ شيء.
لكن…
“آسفة، انتظرتَ طويلاً، أليس كذلك؟”
“هئ…”
لم يستطع إلّا أن يلتفت.
أدار فينسنت رأسه بصعوبة، ودموعه تتساقط.
كان خائفًا، لكنّه أراد رؤيتها.
و…
“فينسنت، يا صغيري. تعالَ إلى هنا.”
كانت هناك.
امرأةٌ ذات شعرٍ أشقر جميل وفستانٍ أبيض ناصع، وعينين قرمزيّتين، فتحت ذراعيها لفينسنت.
“أمّي…!”
تحرّك جسده قبل أن يفكّر.
عندما أفاق، كان قد اندفع إلى حضن أمّه.
احتضنت إليشا طفلها الذي كبر بالفعل بقوّة.
“أمّي، هئ، هئ!”
“آسفة، لأنّني لم أحافظ على وعدي، جعلتكَ تنتظر.”
هزّ فينسنت رأسه بقوّة عند اعتذارها الصّادق.
“لا بأس، لا بأس.”
في الحقيقة، لم يكن الأمر على ما يرام. كان صعبًا، مؤلمًا، ومخيفًا، لكن كلّ تلك المشاعر والذكريات ذابت في حضن أمّه كالثّلج.
كان فينسنت سعيدًا الآن فقط.
سعيدًا لدرجة أنّ قلبه امتلأ بالفرح.
لكن اللقاء غير المتوقّع لم ينتهِ عند هذا الحدّ.
“فينسنت.”
ارتجف جسد فينسنت عند صوت رجلٍ سمعه فجأة.
تردّد وهو في حضن إليشا، ثمّ أدار رأسه بصعوبة.
هناك…
“…”
كان هناك رجلٌ يشبه كارديان بشدّة، لكنّه مختلف.
عرف فينسنت غريزيًا.
من هو هذا الشّخص.
أبي.
في الحقيقة، لم يكن لدى فينسنت الكثير من الذكريات مع أبيه.
كان يظهر بهدوء عندما يكون فينسنت نائمًا، يتفقّد حالته، يسأل إن كان هناك شيءٌ يزعجه، أو إن كان بصحّة جيّدة، ثمّ يغادر.
بسبب انشغاله بتولّي العائلة، وبسبب استعداداته لتبنّي فينسنت رسميًا بعد إعلان وريث العائلة، كان لديه وقتٌ فقط في وقتٍ متأخّر من اللّيل.
لذلك، لا توجد ذكريات كاملة بين فينسنت وديلرون مرسيدس، لكن رغم ذلك، استطاع فينسنت أن يعرف.
أنّ هذا الشّخص هو والده.
“آسف لأنّني لم أحبّكَ أكثر، ولأنّني لم أمضِ وقتًا طويلاً معك.”
قال ديلرون بوجهٍ مليء بالذّنب.
حدّق به فينسنت، ثمّ هزّ رأسه.
“…لا بأس.”
حتّى لو لم تكن هناك ذكرياتٌ عاديّة بين أبٍ وابنه، كانت لدى فينسنت ذكرياته الخاصّة.
يدٌ كبيرة كانت تربت على جبينه بحذر عندما يصاب بالحمّى، أو صوتٌ يهمس “آسف” أحيانًا قبل الرحيل.
استغرق الأمر وقتًا ليعرف أنّ ذلك الوجود هو “أبي”، لكن لا بأس.
تردّد فينسنت، ثمّ أضاف كلمةً واحدة
“…أبي.”
اتّسعت عينا ديلرون.
سرعان ما اغرورقت عيناه بالدّموع.
انحنى وفتح ذراعيه، فخرج فينسنت بحذر من حضن إليشا واندفع إليه.
“لا تنسَ. نحن دائمًا بجانبك.”
“أحبّك، فين. ابننا.”
“أحبّك، فينسنت.”
* * *
“…أنا أيضًا.”
“…”
“أنا أيضًا أحبـ…”
نظرتُ إلى فينسنت وهو يتمتم بابتسامة، وتنهّدتُ براحة.
‘يبدو أنّه التقى بهما بسلام.’
كان الطّلب الأخير لإليشا.
أن أجعل جزءًا من روحها المتبقّية تصل إلى فينسنت من خلال حلم.
‘كنتُ نصف متأكّدة من إمكانيّة ذلك.’
لكن بفضل القلادة التي عملت كوسيط، تمكّنتُ من تحقيقه.
‘بفضل القوّة التي تلقّيتها من إليشا، أصبحتُ قادرةً على استخدام قدرتي بدقّة أكبر.’
على الرّغم من أنّ هذا سيكون لقاءهم الأخير، إلّا أنّني سعيدةٌ لأنّ العائلة تمكّنت من التّجمع بهذه الطّريقة.
نظرتُ إلى فينسنت وهو يبتسم بسعادة، ثمّ غادرتُ الغرفة بهدوء.
طق.
كان الممر المغلق في اللّيل هادئًا بشكلٍ ثقيل.
*ੈ✩‧₊˚༺☆༻*ੈ✩‧₊˚
التعليقات لهذا الفصل " 253"