الفصل 229
كان شيءٌ ما يتدفّق إلى ذهني.
كأنّ المياه المحتجزة خلف سدٍّ مفتوح تنهمر فجأة.
لم أتمكّن من إيقافه، بل انهالت الذّكريات على عقلي كالرّصاص.
سرعان ما أدركتُ أنّها ذكريات شخصٍ ما.
‘ما هذا بحقّ…’
كان صاحب الذّكريات يرتدي رداءً كهنوتيًّا أبيض ناصعًا.
كان يتنقّل في المعبد بسرعة، لكن لم يُعِرْه أحدٌ أيّ اهتمام.
مهما اجتهد وهرول، ظلّ دائمًا في الظّلّ بالنّسبة للنّاس.
سرعان ما علمتُ السّبب.
‘لماذا ! إيماني يفوق الجميع، فلماذا قوّتي المقدّسة ضعيفة لهذه الدّرجة؟’
كانت قوّته المقدّسة أدنى من قوّة الكهنة العاديّين.
لذلك، مهما حاول، لم يستطع سوى البقاء كاهنًا عاديًّا.
كان صاحب الذّكريات، الطّموح جدًّا، يحمل دائمًا استياءً كبيرًا من هذا.
كان يلوم نفسه لأنّه لم يُولَد بقوّة مقدّسة، وبمرور الوقت، بدأ يلوم حاكمة ثيليا لأنّها لم تعترف به.
فجأة، تغيّر المشهد.
كانت ليلة ممطرة، وهو، غاضبٌ من وضعه، لم يستطع النّوم، فتجوّل في المعبد وحيدًا.
ثمّ رأى.
طعنة—
“آه…”
شخصٌ يطعن شخصًا آخر بسكّين.
في تلك اللّحظة، ظهر القمر، وتعرّف صاحب الذّكريات على أحد الشّخصين على الأقلّ.
وذلك لأنّ زيّ الشّخص المطعون كان مميّزًا.
لم يكن هناك أحدٌ في المعبد لا يعرف ذلك الزّيّ.
‘القدّيسة…!’
تحت ضوء القمر، تلطّخ رداء القدّيسة الأبيض النّاصع بالدّماء.
بينما كان ينظر إلى جسدها وهو ينهار ببطء، توقّف صاحب الذّكريات عن التّنفّس.
تحرّكت رؤيته ببطء نحو جانب القدّيسة السّاقطة.
طق… طق…
كانت قطرات الدّم تتساقط من طرف النّصل الأزرق.
تشكّل بركة صغيرة على الأرض الرّخاميّة، وكان صاحب الذّكريات يحدّق فيها مذهولًا، ثمّ تتبّع قطرات الدّم المتناثرة برفع رأسه.
ثمّ التقى بنظراتها.
عينان خضراوان تلمعان في الظّلام.
كأنّها كانت تعلم منذ البداية بوجوده هناك، نظرت إليه بثبات دون أيّ حراك.
حدّق صاحب الذّكريات فيها مذهولًا، كمن سُحِرَ.
عبرت نظراتهما ليلة مضاءة بضوء القمر.
ببطء، خرج صوتٌ خفيف ونقيّ كرفرفة أجنحة فراشة من بين شفتيها المفتوحتين.
ثم…
“رغبتك—”
عندما سمعتُ إلى هنا.
“ليفيا بيلينغتون!”
“آه!”
دفعتني قوّة قويّة إلى الخلف.
استعدتُ وعيي، وتنفّستُ بسرعة وأنا أنظر حولي.
‘أين أنا…’
اختفى مشهد اللّيلة الملطّخة بالدّماء، وحلّت مكانها ملامح المكتب في شبكيّة عيني.
نظرتُ مذهولة إلى مكتب الكاهن الأكبر، ثمّ أدرتُ رأسي ببطء.
كان الكاهن الأكبر ممدّدًا أمامي.
تداخل فوق صورته شكل شخصٍ آخر.
امرأة تنزف دمًا وهي ساقطة.
لا شكّ في ذلك. تلك المرأة…
‘القدّيسة السّابقة التي اختفت فجأة يومًا ما.’
والمرأة التي طعنت القدّيسة السّابقة…
“…سموّك.”
ناديتُ كارديان مذهولة، فأمسك كارديان بكتفيّ وعبس.
“أنا هنا، فاستعدي وعيكِ، ليفيا بيلينغتون.”
“ما، ما الذي حدث؟”
“أنا من يريد السّؤال. ما الذي حدث بالضّبط؟”
عندما نظرتُ إليه مذهولة، تنهّد بعمق وتابع.
“وضعتِ يدكِ فوق رأس الكاهن الأكبر، وسرعان ما ملأ ضوء فضّي الغرفة. ثمّ بدأ الضّوء يتلاشى تدريجيًّا…”
تقلّصت جبهة كارديان كأنّه يتذكّر تجربة مزعجة.
“كنتِ تحدّقين في الفراغ مذهولة، ويدكِ لا تزال على الكاهن الأكبر.”
“…أنا؟”
كان من الصّعب تصديق ذلك.
‘لقد دخلتُ الأحلام عدّة مرّات من قبل.’
في كلّ مرّة، كنتُ أغفو أو أسقط كأنّني أنام.
‘كانت أحلام كارديان في الغالب.’
إذا فكّرتُ في الأمر، لم أتخيّل حتّى أنّني قادرة على دخول الأحلام قبل كارديان.
فضلاً عن ذلك، لم أستطع دخول أحلام الجميع.
كارديان.
ومرّة واحدة فقط.
كانت هناك تجربة دخول حلم شخصٍ آخر غير كارديان.
‘ الكونتيسة أسفول.’
لكن في تلك المرّة، قرّرتُ بإرادتي دخول حلمها.
أمّا هذه المرّة…
‘كأنّني جُررتُ إلى الدّاخل.’
لم أرغب في ذلك، لكنّني سرقتُ لمحات من حلم الكاهن الأكبر، أو بالأحرى، شظايا ذكرياته.
‘ما الذي يحدث بحقّ؟’
نظرتُ إلى يدي مذهولة، ثمّ نهضتُ ببطء من مكاني.
“آه.”
تعثّرتُ لأنّ ساقيّ فقدتا قوّتهما، فأمسك بي كارديان بسرعة.
“هل أنتِ بخير حقًّا؟”
أومأتُ برأسي رداً على كلامه المليء بالقلق.
“فقط… شعرتُ بضعفٍ مؤقّت. أنا بخير الآن. شكرًا.”
لم أكن أكذب.
كان ضعفًا لحظيًّا بالفعل.
بل، على العكس…
‘أشعر وكأنّ طاقةً تنبعث في جسدي.’
كان التّعثر لحظيًّا، وسرعان ما شعرتُ بقوّة تعود إلى جسدي.
بل إنّ حالتي البدنيّة كانت أفضل بكثير من قبل.
تفاجأتُ للحظات من تغيّر حالتي البدنيّة المتقلّبة، ثمّ نظرتُ إلى الكاهن الأكبر.
كان الكاهن الأكبر يعبّر عن كابوسٍ ما، إذ كان وجهه مشوّهًا بشدّة.
‘أعتقد أنّني أعرف ما هو ذلك الحلم.’
كنتُ أرغب في إلقاء نظرة أخرى على حلمه لو أمكن.
لكن…
‘لم يتبقَ الكثير من الوقت.’
فضلاً عن ذلك…
‘أعتقد أنّني أعرف.’
من هي تلك المرأة، وما الذي حدث.
“هوو.”
كان الأمر أكثر خطورة ممّا توقّعتُ.
تنهّدتُ بعمق تحت وطأة الضّغط المتزايد.
ثمّ التفتُ إلى كارديان وقُلتُ:
“يجب أن يكون التّأثير قد نجح. لنغادر من هنا قبل أن نتأخّر أكثر.”
“…هل أنتِ بخير حقًّا؟”
كان سؤاله يحمل معانيَ متعدّدة.
قلقٌ يشمل حالتي الجسديّة والعقليّة معًا.
أومأتُ برأسي بحزمٍ لأطمئنّه.
“أكثر حيويّة من أيّ وقت مضى.”
كنتُ صادقة.
لأثبت أنّني بخير، رفعتُ قبضتيّ أمام كارديان.
“هه.”
يبدو أنّني استدتُ سخرية بدلاً من ذلك.
لكن، على أيّ حال، كان من الواضح أنّ توتّره قد خفّ.
ابتسمتُ دون سبب وأن أرى استرخاءه.
طق طق.
“سيادة الكاهن الأكبر، هل أنتَ بداخل؟”
تجمّدتُ فجأة عند سماع الصّوت من خلف الباب.
“سيادة الكاهن الأكبر؟”
عندما لم يأتِ ردّ، أصبح الصّوت من خلف الباب أكثر إلحاحًا.
‘هذا… خطر.’
وكما توقّعتُ.
“سيادة الكاهن الأكبر! سأدخل الآن!”
مع صوتٍ عاجل، بدأ مقبض الباب يتحرّك بنقرات متتابعة.
لحسن الحظّ، يبدو أنّ الباب كان موصدًا عندما ضغط علينا الكاهن الأكبر، لذا لم يُفتح على الفور.
لكن، هذا أيضًا مسألة وقت.
مع تأكّد أن الباب موصد، أصبحت الحركة خلفه أكثر استعجالاً.
من المؤكّد أنّهم سيقتحمون الباب قريبًا.
‘ماذا أفعل، ماذا أفعل؟’
أمام هذا الموقف المفاجئ, ابيضّت عيناي.
لا يوجد مخرج آخر.
“النّافذة!”
هرعتُ إلى النّافذة وفتحتها على مصراعيها.
هووو—
فوراً، هبّت ريحٌ باردة.
نظرتُ إلى الأسفل تحت النّافذة، فتجمّدتُ في مكاني.
‘مرتفع جدًّا.’
كان هذا متوقّعًا.
كان مكتب الكاهن الأكبر في الطّابق الثّالث.
كان من المريح أنّه لا يوجد أحدٌ بالأسفل، لذا لن نشاهد او نموت إذا قفزنا من هنا.
‘لكن، على الأقل، سنُصاب بكسر.’
لكن لا يمكننا أن ننتظر حتّى يُفتح الباب هكذا.
كاهن أكبر برأس متجرّرح، وشخصان غريبان.
كلّ جهود التّأثير ستذهب سدىً، وسيتمّ القبض علينا متلبّسين.
‘كيف يمكننا التّعامل مع هذا؟’
هل هذا ما يُسمّى بالمأزق؟
بينما كان ذهني يزداد تعقيدًا.
“معلّمة.”
عندما سمعتُ صوتًا منخفضًا فجأة، التفتُ، وصرختُ.
“سـ، سموّك؟”
وذلك لأنّ كارديان رفعني بين ذراعيه دفعة واحدة.
وضعيّة حمل الأميرة، كما يُطلق عليها.
لم أتخيّل يومًا أن أكون في هذه الوضعيّة مع كارديان.
كنتُ محرجة، لكنّني أيضًا مرتبكة لأنّني لم أفهم ما يحدث، فنظرتُ إليه بدهشة.
بينما كان يحتضنني بقوّة، أنزل كارديان عينيه إليّ.
حتّى في هذه اللّحظة، كانت أوّل فكرة تخطر ببالي أنّ عينيه، من هذا القرب، جميلتان، وهذا يعني أنّني مجنونة حقًّا.
“لا تقلقي. لن أترككِ أبدًا.”
“لـ ليس هذا هو المشكلة…!”
السّقوط من هنا سيؤدّي على الأقلّ إلى كسر.
إذا سقطتُ وحدي، قد يكون هذا. لكن، إذا سقطنا معًا متشابكين؟
من المؤكّد أنّنا سنُصاب بجروح خطيرة.
لا، أنا ربّما لن أُصاب كثيرًا.
لأن كارديان يحملني.
لكن كارديان…
“انتظر—”
هووويك!
حاولتُ منعه، لكنّ الوقت قد فات.
قبل أن أكمل جملتي، ألقى كارديان بنفسه خارج النّافذة وهو يحملني.
“أيّها المجنون!!”
*ੈ✩‧₊˚༺☆༻*ੈ✩‧₊˚
التعليقات لهذا الفصل " 229"