اللافندر تراقصت مع النسيم، ناشرة عبيرها المهدئ في الأجواء، بينما ارتفعت تسلقات الياسمين والورد البري لتلتف حول أعمدة الرخام الأبيض للمبنى المفتوح في قلب الحديقة. بدا وكأنه معبد قديم، مزيجًا من الهندسة الرومانية واللمسات الأرستقراطية، مغطى بظلال كروم العنب والأزهار الزرقاء.
في هذا الركن من الجنة الأرضية، جلست أرورورا فاليسكا، متكئة على الطاولة الرخامية البيضاء، تتلاعب بيدها الرشيقة بأطراف فنجانها. كانت ترتدي فستانها الأصفر الباهت، دون أي زخرفة، ومع ذلك بدا وكأنه صُنع خصيصًا لها، كأنما تمت حياكته بخيوط ضوء القمر. شعرها البلاتيني الطويل، بلمساته البنفسجية، انساب على كتفيها مثل شلالٍ فضيّ، تتراقص أطرافه مع نسمات الهواء.
في الجهة المقابلة، جلست مونيكا ديالي، ساق فوق أخرى، ظهرها مستقيم كإحدى سيدات المجتمع الراقيات، وشعرها الأحمر الملفوف بدقة منحها مظهرًا ناضجًا وجذابًا. فستانها الأزرق الفضفاض، المحاط بدانتيل ناعم عند العنق، كان يُبرز أنوثتها بطريقة فخمة غير متكلفة. كانت تحتسي قهوتها ببطء، عيناها الذهبيتان تلمعان بمكر خفي.
“ريري، ألم تسمعي بعد؟”
قالتها بنبرة درامية، بينما وضعت الفنجان برفق على الطاولة.
رفعت أرورورا حاجبًا، تقاوم الفضول المتصاعد داخلها، “سمعت ماذا؟”
ابتسمت مونيكا نصف ابتسامة وهي تتكئ إلى الخلف:
“الدوق إلياس تزوج. بل وزوجته حامل بالفعل.”
كادت يد أرورورا المرتخية أن تسقط الفنجان، لكنها تماسكت في اللحظة الأخيرة. أخذت نفسًا عميقًا، ثم نظرت إلى مونيكا محاولة أن تبدو غير مبالية:
“حقًا؟ ومن هي السيدة التي خطفت قلبه؟”
“إيناس.”
ترددت الكلمة في عقلها كما لو أنها رُميت في بئرٍ بلا قاع. تذكرت اسمها من الرواية، السيدة المطلقة التي امتلكت قلب البطل، والتي رغم ماضيها لم ترفضه بل قبلت به رغم معارضة المجتمع الأرستقراطي.
تابعت مونيكا بنبرة مفعمة بالتشويق:
“ويبدو أنها لم تكتفِ بإغواء الدوق وحده، بل حطّمت قلب الأمير ستراثمور أيضًا.”
تجمدت أطراف أرورورا للحظة، لكنها أخفت اضطرابها خلف قناع من الهدوء المصطنع.
“الأمير ستراثمور؟”
أمالت مونيكا رأسها بلطف، وكأنها تحاول تذوق وقع الاسم على لسانها:
“آه، كايل ستراثمور… مسكينٌ هو الآخر. لقد أحبها منذ الطفولة، لكنه لم يكن خيارها في النهاية. اختارت رجلًا أقوى، أكثر نفوذًا.”
ارتشفت أرورورا رشفة صغيرة من قهوتها، محاولة أن تخفي تعبيرها الحقيقي. كانت تعرف بالفعل كيف انتهت الرواية، لكن سماعها بهذه الطريقة… جعل الأمر يبدو أكثر واقعية.
لكن هذه ليست الرواية الأصلية. هذه حياتها الآن.
قبل أن تستطيع الغرق في أفكارها أكثر، وضعت مونيكا ظرفًا مزخرفًا أمامها، تحركت أصابعها الطويلة برشاقة وهي تدفعه برفق نحوها:
“قبل أن تنغمسي في صدمتك، لديّ شيء آخر لكِ… رسالة.”
حدقت أرورورا إلى الظرف للحظة، قبل أن تلتقطه ببطء، فتحت الورقة بعناية، وبدأت عينها تتنقل بين السطور. فجأة، رفعت نظرها وأغلقت الرسالة، وضعتها تحت يدها وكأنها تحميها من السرقة.
“ممن هذه؟” سألت مونيكا بفضول متزايد.
ابتسمت أرورورا، نظرة ماكرة في عينيها:
“لا أعتقد أنني سأخبركِ الآن… لكن لا تقلقي، لن أضحك على مشاعر أحد.”
تظاهرت مونيكا بالعبوس، لكنها لم تضغط أكثر. نهضت، نفضت ثنايا فستانها، وقالت بنبرة مرحة:
“حسنًا، كان هذا ممتعًا. ستزورين منزلي قريبًا، صحيح؟ أم أنكِ ستنسين صداقتنا؟”
ضحكت أرورورا بخفة:
“بالطبع سأزوركِ. لكن توقفي عن محاولة التلاعب بي!”
ابتعدت مونيكا وهي تلوّح بيدها، وعلّقت بمكر:
“سأخبر أخي أنكِ وافقتِ!”
شهقت أرورورا وهي تصيح:
“ماذا؟! لم أقل شيئًا بعد!”
لكن مونيكا كانت قد اختفت بين أزقة الحديقة، تاركة أرورورا بين أزهار اللافندر، وحدها مع أفكارها.
كان الليل قد أسدل ستاره على القصر، غارقًا في هدوء مهيب لا يقطعه سوى نسمات الرياح التي تتراقص بين الأشجار، حاملة معها عبير اللافندر والياسمين. السماء، بنجومها المتلألئة، بدت كلوحة زيتية رسمها فنانٌ ماهر، بينما انعكاس القمر الفضي على نوافذ القصر أضفى على المشهد سحرًا غامضًا، كأنه جزءٌ من قصة لم تنتهِ بعد.
في غرفتها الفسيحة، رمت أرورورا فاليسكا نفسها على السرير باندفاع، مددت ذراعيها إلى جانبيها، وأغمضت عينيها للحظة طويلة.
“هذا اليوم… كان مشوّقًا.”
همست بالكلمات وكأنها تخشى كسر هدوء الليل.
لقد أدركت أخيرًا أين تقف وسط هذه القصة—تلك الرواية التي كانت تعرفها جيدًا، لكنها الآن ليست مجرد كلمات مطبوعة في صفحات كتاب، بل عالمٌ تنبض فيه الحياة.
أبطال القصة الأصلية؟ لقد تزوجوا. أنجبوا أطفالهم، وعاشوا سعداء كما كان مقدرًا لهم. النهاية التي كانت تعرفها قد تحققت بالفعل، ومع ذلك… ها هي هنا.
التفتت إلى الجانب الآخر، أخذت نفسًا عميقًا، ثم وضعت الوسادة على وجهها بحركة متذمرة.
“يااااه…!”
تمتمت بخجل وهي تتذكر شيئًا معينًا، أو بالأحرى… شخصًا معينًا.
كايل ستراثمور.
كان بطلها المفضل، الرجل الذي شغل تفكيرها كلما قرأت الرواية. لكن الآن، الأمر مختلف. هو ليس مجرد شخصية مكتوبة، ليس خيالًا بعيد المنال… إنه حقيقي.
وتلك الحقيقة وحدها كافية لتُثير الفوضى في عقلها.
رفعت الوسادة عن وجهها ببطء، ثم همست وكأنها تعترف بسر دفين:
“يا إلهي، كم هو وسيم…”
لكن الأمر لم يقتصر على مظهره فقط.
“ليس هذا فحسب… إنه مثقف لأبعد الحدود، هادئ، نبيل، كأنه تجسيدٌ لكل الصفات التي لطالما أحببتها.”
تنهدت، ثم وضعت يدها على جبينها بإحباط.
“لكن شخصيتي الباردة تجاه الرجال… تتصرف من تلقاء نفسها.”
تذكرت كيف كانت تسير إلى جانبه في الممرات الفخمة للقصر، كيف ترددت في الحديث معه، كيف تاهت الكلمات منها في اللحظات التي كان يجب أن تبتسم فيها أو تبدأ محادثة خفيفة.
“يا لساني الذي ينعقد في اللحظات الجميلة!”
ضحكت بخفة، ثم نظرت إلى الرسالة الموضوعة على طاولتها بجانب السرير.
كانت تعرف أن عليها اتخاذ قرار بشأن ما ستفعله هنا. لم تكن مجرد متفرجة في هذه القصة بعد الآن.
“حسنًا… إذا كانت الرواية الأصلية قد انتهت، فلا بأس. سأخلق قصتي الخاصة.”
نهضت قليلًا، أمسكت بالرسالة بين أصابعها، ثم ابتسمت لنفسها بسخرية.
“هدفي في هذا العالم؟ بسيط جدًا. سأجعل الطرف الثالث من هذه القصة… يقع في حبي.”
أغمضت عينيها للحظة، وتخيلت وجه كايل ستراثمور—تلك الملامح الأرستقراطية البريطانية، عيناه الخضراوان اللتان تحملان بريقًا من الغموض، شعره الأشقر الفاتح الذي بدا وكأنه مصنوعٌ من خيوط الشمس، وذاك الهدوء النبيل الذي يحيط به كهالة من السكينة.
“إنه أشبه بملاكٍ بريء…”
همست لنفسها، ثم ضحكت بصوت منخفض.
لكنها كانت تعرف جيدًا أن خلف هذا الوجه الهادئ يكمن رجلٌ يحمل في داخله جروحًا لم تلتئم بعد.
“أعتقد أنني سأصبح مهووسةً به حتى يحبني.”
ثم أضافت بجرأة، عيناها تشعان بتحدٍ غير مألوف:
“وإن لم يحبني؟ سأجعله يفعل… بطريقتي الخاصة.”
ابتسمت ابتسامة جانبية وهي تنظر إلى القمر من نافذتها.
لقد قررت.
هذه القصة لن تنتهي كما كتبها المؤلف الأصلي. هذه المرة، النهاية ستكون لي
The third party does not want to
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"