الفصل 22
‘لا بأس… حتى لو لم تحبّني عائلتي، فلن أشعر بخيبة أمل.’
ربما كان الخادم فيلوس قد أخطأ في ما أخبرني به؟
وقفت أمام الباب، أحاول أن أُبعد عن نفسي كل أمل وتوقّع خوفًا من أن أتأذى.
ضغطت على قلبي كي لا يتسرّب منه ذلك الشعور السخيف، شعوري بأنني ما زلت أحب عائلتي، وأنني أريد أن أُبادَل الحب منهم بلا قيد ولا شرط.
“لا بأس، لدي تايل إلى جانبي.”
تمتمت بصوت منخفض وأنا أحاول أن أتماسك، فمدّ تايل رأسه الصغير من حقيبتي.
“هل تشجّعني؟”
رأيت كفّيه الصغيرتين تنقبضان بإحكام.
ربما كنتُ فقط أتوهم؛ فمن غير المعقول أن يفهمني سحلية، أو أن يساندني حقًا. لا بدّ أنني فقط أراه كما أريد أن أراه.
لكن… إنه لطيف جدًا.
بفضل تايل، شعرتُ بالطمأنينة.
“شكرًا لك.”
ابتسمت قليلًا وأعدته بلطف إلى داخل الحقيبة.
“ابْقَ هناك قليلًا، سأبحث لك عن شيء لتأكله لاحقًا.”
لم يعد هناك ما يدعوني للتردّد، ففتحت الباب على مصراعيه.
طق.
ما إن خطوت خارج الغرفة حتى تجمّدت في مكاني.
كان هناك…
“أبي؟”
تعلّقت عيناي المندهشتان به، وبمجرد أن التقت نظراتنا، انهار على ركبتيه.
أبي، الذي لم ينهزم أمام أحد في ساحة المعركة، يجثو الآن أمامي؟
لكن ما أدهشني أكثر كان ملامح وجهه. ذاك الوجه الذي اعتدت رؤيته جامدًا باردًا خاليًا من أي تعبير…
الآن كان مليئًا بمشاعر متشابكة، وعيناه تلمعان بحمرة دامعة.
راقبته بذهول، والدموع تملأ وجه الرجل الذي كنت أظنه أرضًا قاحلة من المشاعر.
“آسف… كل هذا بسببي… بسبب ضعفي، أنتِ…”
كان أبي يطلب المغفرة مني.
تحطّمت خطّتي في اللحظة نفسها عند عتبة الباب. كنت أنوي سؤاله إن كان يحبّني حقًا، لكن المشهد أجابني دون كلمات.
من ملامحه المليئة بالاضطراب والحزن والندم، أدركت بسهولة أنه يحبّني.
بمجرد أن رأيته أمامي، زال عني كل شعور بعدم الأمان الذي كان يعذبني.
وما إن انكشفت تلك الطبقة التي كانت تخفي خوفي من الجرح، حتى اندفعت كل مشاعري المكبوتة بغزارة.
***
عندما وصله خبر استيقاظ كليريا أثناء تعذيب لورا، أسرع ديريك عائدًا إلى الجناح الفرعي، لكنه لم يعرف ما يفعل.
“أصدرت أوامر بألا يدخل أحد. وتعتقد أن السيد الشاب والسيدة الكبرى هما من أمرا بما فعلته الخادمات.”
كلمات الخادم فيلوس جعلت الأرض تهتز تحت قدمي ديريك.
في النهاية، كانت ابنته على حق. فتعاسة ابنته كانت نتيجة تقصيره في الإشراف على الجناح الفرعي.
انتظر طيلة فترة ما بعد الظهيرة، متوترًا قلقًا، بينما لم تخرج ابنته من غرفتها.
كان مستعدًا لتقبّل كراهيتها له، أو رفضها له.
فهي الطفلة التي تُركت لسنوات تُعاني بسبب أبيها. لا عجب إن كرهته.
لكن فكرة أن تسقط ابنته مجددًا داخل الغرفة، وهي لم تتناول طعامها وتعاني من الحمى…
مجرد التفكير بذلك جعله يشعر بالدوار.
كان يجلب لها التعاسة فقط. وأمله بأن يعيش حياة عادية معها لم يكن سوى حلمًا سخيفًا من أبٍ أحمق.
‘يجب أن أرحل كما تتمنى كليريا.’
وحين وصل إلى قناعة أنه لا يستحق حتى الوقوف أمامها، انفتح باب الجناح فجأة على مصراعيه.
ولمّا رأى ابنته أمامه، خيّم البياض على تفكيره، وسقط على ركبتيه بلا وعي وهو يتمتم:
“آسف… كل هذا خطئي… كلّه بسببي… بسببي عانيتِ…”
أراد أن ينطق بكلمات أكثر ترتيبًا، لكن ما خرج كان فقط ما فاض به قلبه.
ابنته، التي تستحق كل الحب، تألمت بسببه، وعانت، وتجرّعت الجراح.
الآلام التي تراكمت عليها في غيابه لم يستطع حتى أن يتصوّرها، وتلك العجز ملأه باليأس.
رفعت كليريا نظرها إليه، ثم جلست أمامه لتكون على مستوى عينيه، وقالت بهدوء:
“الآن أعلم أن ما حدث لم يكن من فعل أبي.”
كانت تنظر إليه وهي تبتسم بعينين دامعتين.
“أنا سعيدة لأنني أدركت ذلك ولو متأخرًا.”
لم يكن في صوتها المرتجف أي كراهية أو غضب، لكن هذا لا يمحو الأخطاء.
“لا بأس إن كرهتِني. كل ما حدث في الجناح كان بسببي.”
قالها ديريك بصوت يحمل حزنًا ولومًا للذات، فأجابته كليريا بخفة:
“نعم، أبي أخطأ. لأنك لم تكن بجانبي.”
لم يستطع رفع رأسه.
“لكنني لا أكرهك، ولا أراك عبئًا.”
تذكّر حينها الرسائل التي كانت الخادمات يسلّمنه إياها:
[لا تأتِ، وجودك مزعج.]
[توقف عن المجيء، أنا لا أحبك.]
كانت تلك الرسائل بلا شك من صنع الخادمات، ولم تكن تعبّر عن مشاعر ابنته أبدًا.
نظر إليها بذهول، فقد كان يظن أنها تكرهه رغم كل شيء.
فهو لم يجلب لها سوى الألم، ولم يفعل شيئًا جيدًا من أجلها، لذا كرهها له كان أمرًا طبيعيًا… لكنه سمعها تقول:
“أنا أحب أبي. كنت دائمًا أنتظر عودتك كلما ذهبت إلى ساحة المعركة.”
تجمّد ديريك من وقع كلماتها غير المتوقّعة.
لكنها واصلت الكلام بلا توقف، كأنها تفرّغ ما كتمته طويلًا:
“لذا أرجوك، ابقَ إلى جانبي. لا تتركني وحدي. لا ترحل بعيدًا عني.”
ما إن انتهت تلك الكلمات المرتجفة حتى وضعت كليريا يدها الصغيرة بحذر فوق يد ديريك الكبيرة والخشنة.
كانت يدها الضعيفة الموضوعة فوق يده تبدو كأنها تتشبّث به بيأس.
‘آه… كليريا تخاف أن أرحل عنها.’
تذكّر ديريك كل الأوقات التي ترك فيها ابنته، فشعر بغصّة في حلقه، وأومأ بسرعة كي لا يجعلها تشعر بالقلق.
ثم أمسك بيدها الصغيرة برفق، وشعر بدفئها يتسرّب إلى قلبه حتى دمعت عيناه.
إنها لا تكرهه، بل تريد بقاءه إلى جانبها.
امتلأ قلبه بالامتنان، فضمّ ابنته بقوة وهمس بصوتٍ خافتٍ كالتعهد:
“أنا آسف وشاكر لكِ… لن أسمح أبدًا، أبدًا بأن تتأذي مجددًا.”
وانهمرت دمعة من عيني ديريك، دمعة مليئة بالراحة والسكينة.
***
ما إن احتواني أبي بين ذراعيه حتى ذابت توتّرات جسدي تمامًا.
‘عائلتي كانت تحبّني حقًا!’
ذلك الإدراك جعل قلبي يحلّق في السماء كأنه فوق الغيوم.
‘لا يكون هذا حلمًا، أليس كذلك؟’
ما إن خطر لي ذلك حتى سارعت بقرص يدي لأتأكد. كنت أريد إزالة أي شك بسرعة.
“آه!”
بما أن الألم حقيقي… فليس حلمًا إذًا.
“ما بكِ؟ هل يؤلمكِ شيء؟”
أبي، الذي فزع من صرختي الصغيرة، أخرجني من حضنه وراح يتفحّصني بقلق.
“آه… هذا… فجأة… نعم! شعرتُ بالجوع!”
خرجت الكلمات المرتبكة من فمي بلا تفكير، لكن بمجرد أن قلتها، اجتاحني الجوع فعلًا!
قرقرررر.
أصدر بطني صوتًا مسموعًا، فضحك أبي بصوتٍ منخفض دافئ.
من بين خصلات شعره الأشقر اللامع كضوء القمر، لمعَت عيناه كالياقوت، وانحنتا بابتسامة حانية.
كان مشهد ابتسامته لي غريبًا عليّ، لكنه كان جميلًا إلى حدٍّ مدهش.
‘لو كان الحكم على الجمال فقط، لكان أبي هو بطل هذه الرواية الحقيقي، لا الأمير…’
“سأُحضِر لكِ الطعام. أم نذهب معًا لنتناول شيئًا؟”
ابتسمتُ وأجبته بصوتٍ مفعم بالفرح:
“لنذهب معًا!”
“حسنًا، سأحملكِ.”
ضحك مجددًا، ثم رفعني واحتواني بذراعيه.
“أوه؟ يمكنني السير بنفسي.”
نظر إليّ بابتسامة دافئة وقال:
“أعلم ذلك، لكنك تبدين متعبة، وجائعة لدرجة أنك لا تملكين القوة لتخطوي.”
عندها تذكّرت… لم آكل شيئًا منذ عشاء الأمس، ولا حتى صباح اليوم.
“لقد نمتِ ثلاثة أيام متواصلة، لذا دَعيني أحملكِ اليوم فقط.”
“!”
اتّسعت عيناي دهشة. ثلاثة أيام؟! لم أكن نائمة ليوم واحد فقط؟ لا عجب أنني شعرتُ وكأنني نمت نومًا عميقًا.
الآن أفهم لماذا جعت فجأة، ولماذا لم أكن أملك أي طاقة، وحتى سقوطِي من السرير صار منطقيًا.
اقتنعْت أن الأفضل أن أتركه يحملني، فأومأت برأسي، وبدأ أبي يمشي بي نحو مكانٍ ما.
***
“أين نحن؟”
كنت أظن أننا سنذهب مباشرة إلى قاعة الطعام في القصر، لكن أبي دخل بي إلى مكانٍ داخل الجناح الفرعي.
“قاعة الطعام الخاصة بالجناح الفرعي.”
“للجناح الفرعي قاعة طعام؟”
سألته بدهشة، فأجابني بلطف:
“من الآن فصاعدًا، يمكنك تناول ما تشتهين هنا براحة تامة.”
ثم أجلسني برفق على الكرسي، وأضاف:
“لنأكل اليوم شيئًا خفيفًا.”
“…حسنًا.”
من ملامح وجهه المليئة بالاهتمام، أدركت أنه يقول ذلك مراعاةً لوضعي الصحي، فابتسمت بلا وعي.
لم أكن بحاجة لأن أسأله… كنت أعلم أنني ابنته الغالية.
“سيدي، آنستي، شكرًا لقدومكما إلى قاعة الطعام في الجناح الفرعي!”
ما إن جلس أبي حتى اقترب شخص منا بتحيةٍ متحمّسة مليئة بالامتنان.
“سنُحضّر لكما طعامًا لذيذًا حالًا!”
“…باروف؟”
إنه الطاهي الذي التقيت به قبل أيام في الحديقة عندما كنت أجمع ثمار وزهور السيلفوس.
تذكّرت حينها أنه قال إنه طاهي الجناح الفرعي.
“أنا ممتنّ لأنكِ ما زلتِ تتذكرين اسمي!”
ارتبك باروف كمن نال أعظم مديح، ثم كاد أن يبكي وهو يقول:
“حينها… كنتُ جاهلًا، وتصرّفتُ بوقاحة. أرجوكِ سامحيني.”
يقصد بلا شك ما حدث عندما وعدني بطعامٍ لذيذ ثم قدّم لي خبزًا قاسيًا وحساءً لا يُؤكل.
تذكّرت الأمر، فارتفع حاجباي بامتعاض.
“هل أساء إليكِ هذا الرجل؟ هل تريدين أن أتخلص منه؟”
“هَهَب! هِقْ!”
قبل أن أنطق، كان سيف أبي قد وصل بالفعل إلى عنق باروف الذي بدأ يصدر شهقاتٍ متقطعة كمن يبكي رعبًا.
التعليقات