انحنى فيلوس بعمقٍ تحيةً لي، ثم وضع شيئًا كان يحمله وأتبع ذلك ببضع كلمات قبل أن يغادر الغرفة.
وما إن أُغلِق الباب، حتى قبضتُ على اللحاف بقوة وخفضت رأسي.
(هطول خفيف…)
‘آه، لقد كنت أبكي. ظننت أنني لن أبكي بعد الآن…’
في تلك اللحظة، عاد إلى ذهني مشهد بكائي وأنا أترقب عائلتي قبل الموت، فغمرتني مشاعر الحزن الشديد.
وحينها فاضت كل المشاعر التي كبحتها طويلاً، وتدفقت بلا توقف. كانت مشاعر مختلطة تتزاحم في صدري.
شعرت بالارتياح لأن حياتي السابقة، التي كانت أسوأ من الموت، لم تكن إلا نتيجة سوء فهم.
لكن في الوقت نفسه، تسللت إليّ مشاعر العجز والغضب بعد أن تبيّن أن الماضي كله كان قائمًا على خطأ.
لم أعرف كيف أتعامل مع هذا المزيج الغريب من الأحاسيس، فجلست على حافة السرير وبكيت طويلاً.
***
(طَقطَقة…)
(طَقطَقة…)
في الغرفة الهادئة، كان صوت المطر المتساقط يصل إلى أذني بإيقاعٍ منتظم. ومع الإصغاء إليه، بدأ قلبي يهدأ شيئًا فشيئًا.
بعد أن بكيت حتى أفرغت كل ما في صدري، شعرت براحةٍ غريبة.
“هُـو…”
وبعد أن تركتُ كل تلك المشاعر تفيض، لم يتبقَّ في قلبي سوى فكرة واحدة:
‘عائلتي لم تكن تكرهني… لقد كانوا يحبونني.’
بمجرد أن أدركت تلك الحقيقة، امتلأ صدري بمشاعرٍ عارمة.
‘…ليت ذلك كان حقيقيًا.’
لكنني لم أكن واثقة تمامًا، لأنني سمعت ذلك فقط من فيلوس.
‘إن كان هذا صحيحًا، إن كان حقًا كما قال…’
تملكني وعيٌ مفاجئ، وبدأتُ أجمع شتات أفكاري التي كانت قد انهارت. وفي تلك اللحظة، وقعت عيناي على شيء أبيض.
“آه… تايل.”
كانت السحلية جالسة بهدوء فوق السرير.
“منذ متى وأنت هنا؟”
تأملته مليًّا، وقد شعرت وكأنه كان هناك منذ وقتٍ طويل.
“صحيح، كنت هنا… إلى جانبي دائماً.”
تقدّم تايل فوق اللحاف حتى وصل إلى يدي، والتفّ حولها كما لو كان يعانقها. ابتسمت رغماً عني.
“هل تحاول مواساتي؟”
عند كلماتي، التقت عيناه بعينيّ.
“شكرًا لك.”
وبينما أحدّق في عينيه، تذكّرت فجأة شيئًا.
“أظن أنني حلمت بك… لكن لا أذكر ما كان الحلم.”
عقدت حاجبيّ محاوِلة التذكّر، ثم هززت رأسي. وفجأة، تذكّرت أنه كان مصابًا.
“هل أنت بخير الآن؟ أَه؟ لقد شُفيت تمامًا؟ الحمد لله… يبدو أن الدواء كان فعّالًا حقًا.”
قلبته برفقٍ وفحصته بعناية، لكن لم يكن هناك أي أثرٍ للجروح. لقد شُفي تمامًا.
“لا تُصب بعد الآن، ولا تتألم.”
بدت لي حركته كأنها إيماءة موافقة، لكن ربما كنت أتخيّل بسبب كثرة بكائي.
“إن لم يكن لك مكان تذهب إليه، فلتعش معي. سأعتني بك جيدًا…”
كنت أريد أن أقولها بجدية، لكن صوتي خرج مخنوقًا بالبكاء.
شعرت كأنني أتوسّل إليه وأنا أبكي ألا يتركني وحدي.
‘في المرة القادمة، حين أبني بيتًا جميلًا وأقدّم له طعامًا لذيذًا، سأقولها له من جديد بشكلٍ لائق.’
وبينما كنت أتعهد بذلك في داخلي، كان تايل ينظر إليّ بهدوء، وتحت تأثير تلك النظرة، بدأت أُخرج ما في قلبي دون وعي.
“هاه… اسمع، تايل.”
رويت له بإيجاز ما حدث لي حتى الآن، باستثناء حقيقة عودتي بالزمن وتجسّدي في هذا الجسد.
“إذن، كيف وصلتُ إلى هذه الحال؟”
بعد أن بكيت وهدأت، بدأت أفكر بوضوح وأنا أروي قصتي.
“عائلتي تحبني.”
هذا ما فهمته من كلمات فيلوس القليلة.
“إذن، هل أنا حقًا ابنة أبي؟”
مع أني لا أشبهه إطلاقًا…
كنت مختلفة تمامًا عن جميع أفراد العائلة، ولهذا كانت الخادمات يتهامسن بأنني طفلة لُقِطت من الشوارع.
الفتاة التي تحمل اسم كاتيلوس فقط…
هكذا كنّ يسمينني. بل إنني صدّقت ذلك في الماضي.
ولأنني كنت أفتقر إلى ذكريات طفولتي، كنت سهلة التأثر بأحاديثهن.
أتذكّر فقط أنني دخلت قصر آل كاتيلوس في حضن والدي، وما عدا ذلك فذاكرتي ضبابية.
“بعد أن أتأكد من محبتهم لي، عليّ أن أعرف أيضًا إن كنت حقًا ابنتهم.”
لم أعد أريد أن أكون دمية تتأثر بكلام الآخرين. كما لا أريد أن تنشأ سوء تفاهمات لا داعي لها.
وأفضل طريقة لذلك هي أن أسألهم بنفسي.
“كان عليّ أن أتحدث إليهم منذ البداية، مهما حاول أحد منعي أو ثناني.”
تمتمت نادمة على تأخري الشديد.
والحقيقة أنني لم أجرؤ على السؤال من قبل لأنني كنت خائفة… فالتكهّن بسبب كرههم لي شيء، وسماع الجواب منهم مباشرة شيء آخر.
لكن الآن فقط امتلكت الشجاعة للسؤال، وإن كان ذلك بدافعٍ أناني قليلًا.
فإن كنتُ ابنتهم حقًا، فسوف يواصلون محبتي، وإن لم أكن، فحبّهم لي رغم ذلك سيعني الكثير.
في كلتا الحالتين، لن يكون هناك ما يؤلمني… طالما أن حبهم لي حقيقي.
“حين أواجههم، سأجد الجواب مهما كان.”
حتى الآن، لم تكن هذه الأسئلة تزعجني كثيرًا لأنها قابلة للحل بمجرد أن أتحرك بنفسي.
لكن المشكلة التالية كانت أعقد.
“…إذن، إن كانت عائلتي تحبني فعلًا، فلماذا كانت الخادمات يعاملنني بذلك الشكل؟”
عادت إلى ذهني وجوه الخادمات اللواتي كنّ ينظرن إليّ كما لو كنت شيئًا حقيرًا.
‘لماذا تُركت وحدي لأموت؟’
‘من الذي جعلني على هذه الحال؟’
مع تضخّم هذا التساؤل في رأسي، بدأت أبحث عن السبب الذي عمّق سوء الفهم بيني وبين عائلتي.
ولم يَصعُب عليّ تذكّر الشخص الذي ساهم في النهاية في حبسي داخل الجناح المنفصل في حياتي السابقة.
“توسكان.”
كنت أظن طوال الوقت أن توسكان كان يتصرّف بأوامر من العائلة.
لكن إن لم يكن الأمر كذلك، فلماذا حبسني وتولّى إدارة الجناح؟
هل كرهني إلى هذا الحد؟ وما الذي كسبه من ذلك؟
توالت الأسئلة في ذهني، وانتهى بي التفكير إلى محتوى القصة الأصلية.
في الرواية الأصلية، بعد موتي بسبب المرض، مات والدي في ساحة المعركة.
أما جدّتي، فقد ساءت حالتها الصحية وماتت بعد أن أصيبت بالمرض نفسه عندما علمت بحادثة إصابتي به وخشيت أن يكون معديًا.
وبسبب ذلك، أصبح والد توسكان، بارتون، دوق كاتيلوس في منتصف الرواية، وأصبح توسكان وريثه.
“إن كان حبسي في الجناح كان من أجل أن يرث بارتون الدوقية، فكل الأحداث الأخرى لا بد أنهم دبّروها أيضًا.”
وفقًا لقانون وراثة الألقاب في الإمبراطورية، فإن الأولوية الأولى للوريث هي لمن يمتلك قوة سحرية، وإن لم يوجد، تُحدّد الأولوية حسب العمر بين الأقارب المباشرين.
ولكي يرث بارتون اللقب وهو الذي لا يمتلك ذرة من السحر، كان لا بد أن يختفي والدي، وأنا التي أنتمي إلى سلالته المباشرة، وكذلك جدّتي التي كانت تملك اللقب.
“……!”
أي أن جميع ورثة الدوقية، باستثناء عمّتي التي رفضت الميراث وغادرت القصر، كان عليهم أن يموتوا.
لكن في القصة الأصلية، لم يكن هناك أي إشارة إلى علاقة مباشرة بين وفاة والدي وجدّتي وبين بارتون وتوسكان. فقد ورد ذلك في سطر واحد فقط:
‘بعد وفاة الدوق ووريثه، ورث بارتون اللقب.’
“……لكن الوضع يبعث على الشك بما فيه الكفاية.”
فقد كان موت والدي وجدّتي مفاجئًا للغاية، وإن كانت الأسباب تبدو منطقية في ظاهرها.
وموتهم “الملائم” ذاك جعل من بارتون الدوق الجديد، ومنحه الدور الكامل كشرير في القصة.
إنه مجرى الرواية الأصلية… السبب الوحيد الذي يمكنه تفسير كل هذا.
“اللعنة… أهذا سبب كل هذه المآسي والموت؟”
لو كان الكاتب، أمامي الآن، لأمسكت بشعره وصرخت في وجهه.
“هاه… إذن، هناك شخص كان وراء كل هذا من البداية.”
لابد أن هناك من يتصرّف داخل القصة ليُبقيها على مسارها الأصلي.
“وإن كان بارتون وتوسكان هما الفاعلان، فكل شيء سيتّضح. أليس الوضع بائسًا؟”
في القصة الأصلية، كان توسكان وبارتون من النوع الذي يفعل أي شيء من أجل تحقيق رغباته.
حتى بعد أن أصبح بارتون دوقًا، لم يتوانَ عن استخدام أي وسيلة لتحقيق ما يريد، وفي النهاية، واجه ارتدادات أفعاله وانهار مجده مع عائلته.
ارتسمت على شفتي ابتسامة ملتوية لا إرادية.
لكنني توقفت، ثم أنزلت شفتيّ مجددًا حين لاحظت أنّ تايل ينظر إليّ بتردّد.
“آسفة، لم أكن أصرخ في وجهك.”
قلت ذلك وأنا أربّت عليه برفق.
“إن كانت كل هذه الأحداث قد دُبّرت فعلًا كما أظن…”
فلن يكون الانتقام مجرد مزاح أو استرجاع بسيط لما كان من حقّي في الماضي.
نظرت إلى تايل، الذي كان يحدّق بي بعينيه الجادتين ككلب أبيض صغير.
“علينا أن نُغيّر الخطة، تايل.”
توسكان وبارتون… إن كانا السبب في مأساتي وموت عائلتي…
“فسأجعلهما يدفعان الثمن… بل سأجعلهما يتألّمان أكثر مما جعلاني أعاني.”
لكن لتحقيق ذلك، كان عليّ أولًا أن أتحقّق من أنهما فعلاً من دبّرا كل شيء. شكوكي كانت قوية، لكنني لم أملك دليلًا.
“كيف أتحقق من أمرٍ لم يحدث بعد؟ يا للإحباط.”
في هذه الحياة الجديدة، لم يحدث شيء بعد، باستثناء حادثة الجناح المنفصل.
“إذن عليّ أن أبدأ من هنا… لأعرف من الذي دبّر هذه الحادثة.”
إذا واصلت البحث، فسأجد الخيط الذي يقودني، سواء كان بارتون أو توسكان أو أي شخص آخر، وعندها… لن أرحمه.
تمتمت بصوتٍ بارد وحازم:
“سأحمي من يخصّني.”
نظرت إلى تايل بعزمٍ وأنا أتعهد بحرف مسار القصة الأصلية وحماية والدي وجدّتي.
وبمجرد أن نظرت إلى تايل، شعرت بتراخي ملامحي قليلًا.
“وسأحميك أنت أيضًا.”
عند كلماتي، ربّت تايل على راحة يدي بخفة، وكأنما يقول إنه سيحميني هو الآخر، فابتسمت.
“الحديث معك جعل أفكاري تتّضح.”
وبينما رتّبت أسباب مأساتي، شعرت بأن قلبي المضطرب بدأ يهدأ.
“شكرًا لك، تايل.”
داعبته برفق وأنا أستعيد في ذهني ما يجب عليّ فعله لاحقًا.
“إذن، أولًا، عليّ التأكد مما قاله فيلوس… إن كان كل شيء مجرد سوء فهم. يجب أن أتحدث مع عائلتي.”
لقد كنت في الماضي جبانة، أتعمد اعتبارهم شخصياتٍ خيالية في قصةٍ حتى لا أتأذّى منهم،
لكنني لم أعد أريد أن أكون تلك الجبانة التي لا تفعل شيئًا.
“لن أهرب بعد الآن.”
حتى لو جُرحت من كلامهم، وحتى لو كان ما قاله فيلوس كذبًا، لن أتهرّب بعد الآن.
وإن كان الأمر كذلك، فسأغادر القصر دون ندم كما خططت.
في هذه الحياة، لن أموت مظلومة. وسأحمي كل من هو عزيز عليّ.
لن أقف مكتوفة الأيدي بعد اليوم وأفقد من أحب.
“هيا بنا، تايل.”
وبينما عقدت العزم في قلبي، وضعت تايل داخل حقيبة صغيرة، ثم وقفت وفتحت بيديّ الباب الذي كنت قد أغلقته بإحكام.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات