الفصل 19
رفعت سولتيرا صوتها بعينين تتقدان غضبًا.
“إذن! كم مرة قلت لك أن تدخل حالًا أيها اللعين!”
دوّى صوت سولتيرا في أرجاء المكتب.
لم يكن غضبها نابعًا من قول ديريك إنه سيزيحها ليصبح هو رئيس العائلة، بل من أنه لم يتجرأ على التفوه بتلك الكلمات إلا الآن.
“الخطأ كله خطئي. بما أن الأمر وقع في جناحي التابع، فسأتولى المسؤولية وأعالجه بنفسي.”
قطبت سولتيرا حاجبيها منزعجة من لهجة ديريك وقالت:
“وكيف يكون ذلك كله خطأك؟ المسؤولية الكبرى تقع عليّ، فأنا رئيسة العائلة.”
‘كان عليّ أن أتابع الأمر بنفسي بمزيد من الدقة.’ بدا الأسف مرسومًا على وجه سولتيرا.
لكنها سرعان ما شددت ملامحها كمن اتخذ قرارًا، ووجهت إصبع الاتهام إلى تقصير ديريك في السيطرة على الجناح.
“كما قلت، ما حدث هذه المرة فيه جزء من خطئك أيضًا بصفتك صاحب الجناح. وأظنك تدرك ذلك.”
“أدركه.”
لم يحاول ديريك التهرب من التوبيخ، بل أقر به طائعًا.
“لذلك سأسحب منك سلطة السيطرة على الجناح. من الآن فصاعدًا سأديره بنفسي.”
كان الحزم بادياً في صوت سولتيرا، فهي لم تكن لتسمح بتكرار ما حدث.
غير أن استعادة سلطة الجناح بعد أن أُعطيت لوريث العائلة لم يكن أمرًا يسيرًا؛ إذ لا يتم ذلك إلا بموافقة الوريث، أو عند ثبوت عجزه عن الإدارة، أو وقوع خطب جلل.
والآن كان ذلك الوقت قد حان، فقد أصيبت كليريا إصابة خطيرة نتيجة سوء إدارة الجناح.
بمجرد أن تكشّف الأمر، قررت سولتيرا أنه لا بد أن تستعيد السيطرة، لا لتوبيخ ديريك على تقصيره كوريث للعائلة، بل لتتمكن من حماية كليريا عن قرب.
لكن في المقابل، فإن سحب تلك السلطة من ديريك الذي أتى ليعلن نفسه وريثًا للعائلة، لم يكن إلا تأكيدًا على عدم كفاءته.
‘إن رفض ديريك واعترض فسأنقل كليريا إلى القصر لحمايتها.’ فكرت سولتيرا وهي تحدق به.
لكن ديريك، على غير عادته، أومأ برأسه بهدوء وقد تقبّل الأمر منذ البداية.
“نعم. هذا سيكون أفضل.”
وعند ذلك أدركت سولتيرا من جديد أن رغبة ديريك في أن يصبح رئيس العائلة لم تكن إلا من أجل كليريا.
كانت تهمّ أن تقول له أن يدخل القصر حالًا، وهي تنظر إلى رأسه الذي يهتز بالإيجاب كمن يقول ‘لا يهمني شيء سوى حماية ابنتي’.
“كنت على وشك الخروج للمرة الأخيرة، لكن إن كان الأمر كذلك فسأطمئن بدوري.”
لو لم تكن تلك الكلمات تعني أنه ينوي العودة إلى ساحة الحرب مجددًا! ما إن سمعته حتى فقدت سولتيرا أعصابها وصاحت به.
“ماذا؟ أيها المجنون! أما زلت لم تستفق؟ أهذا هو ما يهم الآن؟”
كانت تعلم جيدًا سبب إصراره على العودة، ومع ذلك هددته بصرامة:
“كل الدول التي اشتركت في حرب بيريكس قد سُحقت وانتهى أمرها. أليس ذلك كافيًا؟ لا تدع ثأرك يعميك فتفقد ما هو أثمن!”
كانت حرب بيريكس هي الحرب التي التقى فيها ديريك بزوجته، وتزوجها، وأنجب ابنته منها، ثم فقدها فيها.
وما إن يُذكر اسم ‘بيريكس’ حتى يتجمد ابنها، فشعرت سولتيرا بالأسى وخفت حدّة غضبها، وزفرت قائلة:
“ثم إن ما جُمع حتى الآن من أدوية من أجل علاج كليريا كان كافيًا. توقف عن هذا وابقَ بجانبها.”
كان الهدف من تلك الحروب التي خاضها ديريك طوال خمس سنوات هو البحث عن دواء شافٍ لكليريا.
لكن، رغم كلمات سولتيرا، لم يتراجع ديريك.
“الأمر مهم. فقد سمعت أن في ساحة الحرب الحالية أعشابًا كان يتناولها مَن عانوا من مرض مشابه لمرض كليريا.”
قالها بوجه جاد ثابت.
“وبعد بحث مطوّل، تأكدت أنها لا تشفي تمامًا، لكنها على الأقل تُبطئ من تقدم المرض.”
“ها…”
في الحقيقة، كان مرض كليريا داءً عضالًا لا علاج له ولا دواء.
ولهذا كان الطبيب المكلّف بها يجرّب على كليريا بعض الأدوية التي ركّبها من أعشاب نادرة كان ديريك يجلبها.
لم تستطع سولتيرا أن تنطق بكلمة “لا جدوى”، فاكتفت بهز رأسها والموافقة.
“لكن بشرط، إلى ما قبل يوم ميلاد كليريا فقط.”
ثم أضافت سولتيرا وهي تضع شرطًا صارمًا:
“إن لم تعد في تلك المدة، سأطردك من العائلة، وأتخذ من كليريا ابنتي بالتبني مكانك.”
كان تصريح سولتيرا صاعقًا، لكن ديريك أومأ برأسه معتبرًا أنه ليس شرطًا سيئًا.
“سأعود ومعي العلاج مهما كان الثمن قبل ذلك الموعد.”
***
خرج ديريك من المكتب، واتجه مباشرة إلى السجن السفلي.
كان المكان مليئًا برائحة العفن، وفيه ثلاث خادمات أُمسكن من جناح الضيوف، كل واحدة منهن محبوسة في زنزانة منفصلة.
وقف ديريك أمام لورا، الخادمة التي تزعّمت إيذاء كليريا، وقال:
“اسحبوها إلى الخارج.”
وما إن أُلقِيَت لورا في غرفة التعذيب حتى قال ديريك ببرود:
“من الذي أمرك؟”
ارتجفت لورا أمام سؤاله القاتل وأجابت بصوت متقطع:
“لـ، ليس… أحدًا.”
“إذن على أي أساس كنتِ غبيةً إلى هذا الحد؟”
فتح ديريك خزانة التعذيب وأخرج منها قارورة صغيرة، ثم سكب ما فيها جميعًا فوق لورا.
“آااه! لا! أرجوك! ارحمني! أنقذني!”
وبينما كانت تصرخ متألمة، أعاد سؤاله:
“أسألك ثانية، من الذي أمرك؟”
“أ.. أعلم.. لا شيء! هـ.. هنالك سوء فهم!”
“سوء الفهم الوحيد هنا أنكِ تظنين أنك ستخرجين من هذا المكان.”
وبعد وقت ليس بالقصير، نُقلت لورا إلى زنزانة انفرادية وهي غائبة عن الوعي.
“أبقوها في حالة مناسبة. سأعود غدًا.”
خرج ديريك من غرفة التعذيب وهو يغلي غضبًا من ضياع وقته بلا فائدة.
فكل ما قالته لورا لم يتجاوز كلمات فارغة مثل أن ما جرى “سوء فهم”، أو استجداءً بأن يُستدعى فيلوس أو توسكان ليشهدوا لها، مدعيةً أنهم وحدهم يعرفون مقدار تعبها.
بل إن آخر ما تفوهت به قبل أن تفقد وعيها كان:
“لم يكن أحد، لم يكن أحد يعتني بالآنسة! أنا وحدي، أنا وحدي تخلّيت عن منصبي ككَبيرة خادمات لأعتني بها! لماذا أعامل هكذا؟!”
كانت كلماتها الأخيرة محض جنون، إذ كيف يُقال إن أحدًا لم يعتنِ بكليريا؟ فديريك ما إن يعود إلى القصر حتى يكون أول ما يفعله زيارة الجناح.
غير أنه، احترامًا لرغبة ابنته في الراحة، كان يكتفي بمراقبتها من بعيد.
وبدلًا من التدخل المباشر، كان يكتفي يوميًا بتلقي تقارير من الطبيب الخاص، ومن طباخ الجناح، ومن إحدى الخادمات الموثوقات.
كان يسأل عن كل ما تأكله، وما تشعر به، وكيف تقضي يومها.
لكن ديريك أدرك الآن، بمرارة قاتلة، أن طريقته تلك في رعاية ابنته كانت خطأً فادحًا.
فأقسم أن يتوقف عن الابتعاد عن شؤون كليريا، وأن يكون حاضرًا بنفسه من الآن فصاعدًا.
***
مكث ديريك عدة أيام في الجناح، يعتني بكليريا بنفسه في غرفتها.
كان من الجيد أنه استطاع أخيرًا أن يرى وجه ابنته كما يشاء، بعد حرمان طويل، لكن قلقه ازداد لأن كليريا لم تستفق بسرعة.
“متى سترحل، يا سيدي؟”
سأل فيلوس، كبير الخدم، الذي اعتاد أن يزوره صباحًا ومساءً، وهو يراه ملازمًا بجوار ابنته.
“حين تستيقظ كليريا.”
أجاب ديريك دون أن يحوّل عينيه عن ابنته. فهز فيلوس رأسه وقال بنبرة عتاب:
“إن كانت بهذه القيمة لديك، لِمَ لم تلازمها منذ البداية؟”
“…….”
لم يستطع ديريك الرد على توبيخ الخادم المباشر.
كان دائمًا يظن أن اقترابه من كليريا لن يجلب لها سوى التعاسة. كان يعتقد أنها تكرهه.
لهذا، رغم رغبته العميقة في البقاء بجوارها، اعتبر ذلك أنانية منه، فاختار الابتعاد.
لكن كل ذلك كان خطأً جسيمًا، وقد أدركه ديريك متأخرًا، بعد أن وقعت الكارثة.
شعر بمرارة لا تحتمل وهو يتهم نفسه بأنه السبب في وصول الأمور إلى هذا الحد.
ولأنه لم يشأ أن يُظهر مشاعره المعقدة للخادم، غيّر الموضوع قائلًا:
“……لذلك، بعد أن أعود، سأفعل معها كل ما لم أفعله من قبل.”
“ماذا تقصد يا سيدي؟”
“التنزه بين الأزهار، الرحلات، التجوال في السوق… كل ما تتمناه كليريا، سأحققه لها.”
‘ترى، هل كانت كليريا سترغب حقًا في قضاء مثل هذه الأوقات معي؟’
فقد ديريك ثقته بنفسه، فانقطع كلامه وأطبق شفتيه.
وبينما كان يعدد أمثلة لا تليق بفمه المعتاد على القسوة والفظاظة، علت شفتَي فيلوس ابتسامة خفيفة.
لقد تذكّر أوامر السيدة سولتيرا حين أرسلت إلى الجناح فهارس للأزياء وغيرها، قائلة: “اشتروا لكليريا كل ما تشتهيه.”
كان الاثنان متشابهين في محبتهما العميقة للآنسة.
“لِمَ تضحك؟”
تجهّمت ملامح ديريك، إذ لطالما ضايقته ابتسامة فيلوس.
“أنا؟ أبدًا، لا يمكن.”
ابتسم فيلوس بشكل أوسع، مما زاد من ضيق صدر ديريك، لكنه أمسك نفسه عن التلفظ بالسباب احترامًا لوجود كليريا.
“لحسن الحظ أننا أمام الآنسة.”
“اصمت. انتظر قليلًا، سأعود.”
“حسنًا. يبدو أنك لم تحصل على أي معلومات تُذكر من التعذيب.”
تمتم فيلوس بنبرة ضجر.
كان ديريك قد استعاد كل ما اختلسَته لورا وفرض على عائلتها تعويضات دمّرتهم، ومع ذلك لم يشفِ ذلك غليله. لذا واصل تعذيبها يومًا بعد يوم، لكنه لم يفلح في انتزاع اسم ذلك اللعين الذي يقف خلفها.
قطّب ديريك جبينه وسأل فيلوس بحدة:
“هل أجريت التحقيق كما ينبغي؟ ألم تجد شيئًا يثير الشكوك من حولها؟”
“نعم. الغريب أن الأمر أنظف مما ينبغي. لا يُعقل أن تكون مجرد خادمة غبية أقدمت على هذا بنفسها.”
كانت سولتيرا، ومعها ديريك وفيلوس، على يقين أن وراء الحادثة يدًا خفية، خاصة بعد أن استعانوا بـ’ذو العين الحمراء’ لكشف ما جرى في الجناح.
فمن المستحيل أن تتجرأ خادمة بلا سند قوي على ارتكاب جرم بهذا الحجم ضد عائلة دوقية.
تذكّر فيلوس معلومة جديدة حصل عليها، فنطق بها:
“تبيّن أن تلك الخادمة كانت تزور الإسطبل بانتظام.”
“الإسطبل؟”
“نعم. لكن حين قصدنا مربّي الخيل تبيّن أنه قد أصيب في حادث دهس بحافر، فترك العمل. وهو في غيبوبة، لذا لم نستطع استجوابه بعد.”
رفع ديريك حاجبيه بامتعاض وقال:
“ما الذي يدفع خادمة لزيارة الإسطبل باستمرار؟”
“لا شيء. والآنسة لم تكن تملك حصانًا لتعتني به أصلًا.”
حين سمعه ديريك، ضاق بصره كالسيف، ثم أمر بصوت خفيض متوتر:
“أيقظوه… واجعلوه قادرًا على الكلام.”
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 19"