“إيّاك أن تزلّ قدمك. إن أخطأتَ خطوة واحدة، فلن يُعينك أحد، ولن أقدر على إنقاذك حينها.”
شدّ يو دان قبضته وقد وطئ ريشةً على الأرض، فهتف تشاي وو من خلفه:
“عودا سالمين… عند عودتكما…”
غير أن صوته سرعان ما تلاشى في البعيد.
فما عاد ذلك المكان مكتبةَ بايك ران، بل غمره ضباب كثيف أخذ يتشابك كالحيّات الرمادية.
قال بايك ران:
“إيّاك أن تشيح بنظرك عن الطريق، ولو لحظة.”
كان أمامهما ضياءٌ خافت، غير أن هيئة الثعلب قد تبدّلت، فغدا كما رآه يو دان ذات مرّة حين طرد النحس من عالم الظلال: شعره وأذناه يشعّان ببريقٍ ذهبيٍّ بهيّ، وجسده يكسوه نورٌ فخم كأنّه من خيوط الشمس. لعلّ هذه هي هيئته الحقيقية، هيئة التشونهـو.
ذلك السناء الخادع، الآسر للبصر، انعكس على ردائه الأبيض فخلّف ظلالًا مذهّبةً كأنها تراقصه.
“قلت لك ألا تشتّت نظرك عن أيّ شيء.”
فما كان من يو دان إلا أن أجبر نفسه على خفض بصره، مركزًا على الحجارة المتتابعة تحت قدميه، لا يلتفت يمينًا ولا يسارًا.
ومع ذلك كان يتعجّب في سره: ‘كيف يعرف الطريق هكذا، من غير أن يلتفت؟’
قال بايك ران بصوت ساكن:
“كما أخبرتك، في هذا العالم تختلف القوانين التي يسير بها الوجود. إن حاولت أن تفسّر الأمور بعقل البشر، فلن تجني سوى الهلاك. فلتعامل كلّ ما تراه — من عشبٍ أو ترابٍ — بخشيةٍ واحتراس. وإن التبس عليك الأمر، فلا تسأل عقلك، بل سلْ قلبك.”
“حسنٌ، فهمت.”
كلّ خطوة كان يخطوها تجعل الظلمة أعمق، حتى استحال كلّ شيء إلى سوادٍ دامس.
وفجأةً دوّى صُراخ بومةٍ في العتمة، فرفع يو دان رأسه، فإذا به وسط غابةٍ غريبة.
قال بايك ران:
“هذه غابةُ الأرواحِ التائهة.”
كانت الأشجار التي تملأها لم يرَ لها مثيلًا قط، جذوعها وأغصانها تشبه عظامًا محروقةً بالسواد، تتحرّك في الريح كأنها أحياء. بل لعلّها كانت كذلك.
مدّت الأشجار أذرعها نحو يو دان، ثمّ انكمشت فجأةً، كأنها وجلت من بايك ران.
وصاح طائرٌ جاثم بين الأغصان العليا:
— “إنه الثعلب! الثعلب بايــ…”
لكن بايك ران مدّ يده، فاندفع من كمّه ظلّ مظلمٌ خاطف، ولفّ الطائر في لحظةٍ واحدة، فتهاوى على الأرض ساكنًا.
قال يو دان محتجًّا:
“أتقتل طيرًا لمجرد أنه نطق كلمة؟”
أجابه الثعلب ببرود:
“إنما أنمته لا غير.”
ثم انحنى قليلًا، وقبض قبضةً من التراب الأزرق، ونثرها في الهواء، فالتصق الغبار بنفسه ورسم نقشًا غريبًا في الفضاء.
قال:
“من هذا الطريق.”
سارا قليلًا حتى لمعت أمامهما نارُ موقدٍ في البعيد.
وكان حولها جمعٌ من الكائنات الغريبة — أرواحٌ ويوكاي — التفّوا حول النار يتدفّأون.
وفي طرفٍ قصيّ، منفصلًا عنهم، جلس كائنٌ نحيلُ الجسدِ، عليه ثيابٌ رثّة، يضمّ إلى صدره لفافةً بيضاء لا يفارقها.
قال يو دان بصوتٍ خافت:
“تلك هي سارقة الأرواح، لا ريب.”
فتوقّف بايك ران وقال:
“ها نحن قد بلغنا الموضع… ولكن تذكّر، إن لم تُحسن الفعل، فالأَولى ألا تفعله أصلًا. أأنت ماضٍ في هذا؟ أتريد حقًّا أن تتخفّى في زيّ كائنٍ خبيثٍ وتندسّ بين تلك الأرواح، لتُنقذ روحَ طفلٍ لا صلة لك به؟ أم لا تزال راغبًا في الرجوع معي؟”
كانت كلماته عذبةً، تُغري بالاستسلام.
لكن يو دان، وهو يرمق النار المتراقصة، شعر بموجةٍ ثقيلةٍ من القلق والخوف، تشبه ما يشعر به المرء حين يحدّق في أعماق بحرٍ مظلم.
ثم هزّ رأسه بقوة:
“لا. لهذا جئتُ إلى هنا. لا تقل كلامًا غريبًا. سآخذ تلك اللفافة مهما كلف الأمر.”
أومأ الثعلب قليلًا وقال بوجهٍ خالٍ من التعبير:
“كما قلتُ آنفًا، سارقة الأرواح مهووسة بروحها المسروقة. فلا تهاجمها ولا تطلبها منها صراحة.”
قال يو دان:
“ومن أين علمتَ أنني سأفعل ذلك؟”
“ذكرتَه بنفسك. وإن لم تفعل، فوجهك يقول كلّ شيء. على كلٍّ، لا تُحاول انتزاعها قسرًا.”
“أعلم. قلتَ لي إن الأرواح هنا لا تُستعاد إلا وفق قانونهم. إن لم يسلمها إليّ بيده، فلن تبقى معي مهما انتزعتها.”
“صحيح. إذًا، أتمنى لك التوفيق. سأترك آثار أقدامي في الطريق، فاحرص أن تسير عليها حين تعود. إياك أن تنسى.”
“حسنًا، كفّ عن القلق. سترى بعينيك، سأستعيد الروح وأعود ظافرًا، ولن يجرؤ أحد بعد اليوم على مناداتي بالأحمق.”
وحين التفت ليكمل كلامه، كان بايك ران قد اختفى.
تنفّس يو دان بعمق.
‘ذهب سريعًا… يا له من ثعلبٍ لا يُؤتمن.’
ورغم شجاعته الظاهرة، شعر بالوجل وهو يخطو وحيدًا نحو النار.
اقترب شيئًا فشيئًا، فبدأت ملامح الكائنات حول الموقد تتضح.
كانوا يشربون من جَرّة خمرٍ ضخمةٍ موضوعةٍ في المنتصف، وكلٌّ منهم أفظع من الآخر.
تمثال حجريّ على هيئة جِدَارٍ قائم.
ووحشٌ مسطّحُ الجنبين كأنّ أحدهم دقّه بين حجرين.
وشبحُ امرأةٍ نحيلة، على جسدها آثارُ خدوشٍ وجراحٍ.
وشيخٌ ذو لحيةٍ بيضاء ووجهٍ أرجوانيٍّ يلبس ثوبًا طويلاً.
ورأسٌ منفصلٌ بشعرٍ منكوشٍ يطفو في الهواء.
وأخيرًا، سارقة الأرواح نفسها.
ما إن أحسّوا بوجوده حتى التفتوا جميعًا إليه.
قال الرأس العائم بصوتٍ أجشّ:
“ها هو ذا، شبحُ الوباء قد أتى.”
وأضاف بنبرةٍ عجيبة:
“ليلةٌ غريبة هذه. التمثال الصخري الحارس، وشبحُ الجوع، ويدُ العروس، وشيخُ الضباب، والرأسُ المقطوع، وسارقة الأرواح، وها هو شبحُ الوباء بينهم! ما أغرب هذه الليلة.”
ثم تنحّى كلٌّ قليلًا ليُفسح له مكانًا.
جلس يو دان بينهم متظاهرًا بالهدوء، وهو يرمق سارقة الأرواح بطرف عينه.
كانت نحيلة كطفلة، منكّسة الرأس، جلدها أزرقُ داكنٌ، وثيابها ممزّقة، تمسك اللفافة البيضاء بذراعين مرتجفتين، لا يطرف لها جفن.
‘حقًّا، إن هوسها بها عظيم…’ فكّر يو دان، ‘لكن يجب أن أُقنعها بأن تسلمها إليّ طوعًا.’
فهو بالكاد يحسن مجاراة الناس في أحاديثهم العادية، فكيف يخدع كائنًا غريبا؟
لكنّ قوله شدّ انتباه الجميع، وصاروا يراقبونه.
قال التمثال الحجريّ متحذلقًا:
“لا بدّ أنها روحٌ نالتها العِلّة. أجل، لا أحد أعلم من شبح الوباء بأمر الأمراض.”
ردّت الشبح المرأة، التي تُدعى “يد العروس”:
“أعترف بأنه أعلم بها من غيره، لكنني أكرهه. أتعلمون لِمَ مِتُّ؟ بسبب الأوبئة التي نشرها أمثالُه من الأشباح!”
ثم رمقته بنظرةٍ ملؤها الاحتقار.
ضحك الشيخ الأرجواني وقال:
“احذرْها أيها الشبح، فإنها شرّ الأشباح كلّها. كانوا يدفنون شوك العليق حول قبور العذارى لئلّا يصبحن أرواحًا هائمة، أما هذه فقد شقّت الشوك بيديها وخرجت منه، فهي أخبث من في العالم.”
ثمّ أدارت ظهرها، وملأت كأسها من جرّةٍ غريبة الشكل.
جرّة سوداء كأنها جسدُ إنسانٍ مطويّ على نفسه على هيئة حرف (ㄷ).
وفي اللحظة التي نظر فيها يو دان إليها، أخذت الجَرّة تكبر فجأة!
فتراجعت “يد العروس” صارخة:
“كفّ عن عبثك، يا مقطوع الرأس!”
فأجاب الرأس المقطوع:
“ما عبثتُ بشيء!”
“لا تكذب. هذه جرّة الخمر التي جلبتَها بنفسك.”
وبينما كانوا يتجادلون، كانت سارقة الأرواح تلقي نظراتٍ قلقة نحو يو دان. بدا أن الكلام الذي سمعته قبل قليل عالقٌ في صدرها، ينهش ضميرها فلا تستطيع احتماله. كانت ذراعاها اللتان تحتضنان كيس الأرواح ترتجفان رجفًا خفيفًا.
‘يبدو أنّ الوقت قد حان لأغرس السهم مرة أخرى.’
تمتم يو دان كمن يحدّث نفسه:
“ومن بين كل الأرواح، اخترتَ أن تسرق هذا بالذات؟”
“صبيّ يعيش على ضفاف الهان، له أختٌ كبرى. يبدو معافًى لكنه في الحقيقة مريض في أعماقه، وسيفنى خلال أيامٍ قليلة.”
راحت سارقة الأرواح تحدّق في فم يو دان بذهول، لا يرف لها جفن.
‘يبدو أن الخطة تسير كما أردتُها.’
لم يكن ليصدّق أنه قادر على خداع شبح بهذه السهولة. ‘أتراني أملك موهبة في الخداع؟’ خطر له ذلك للحظة.
التعليقات لهذا الفصل " 9"