6
“وهكذا عاد إلى موضعه.”
“إلى موضعه…….”
تمتمتُ مكرراً كلمات يوكاي الثعلب.
“هكذا إذن. لا بدَّ من ذلك. ما كنت أعلم حقاً……. حتى الآن لم أفعل سوى أن أوبِّخ وأصرخ فأطرده بعيداً. لكن ذلك لا يجدي نفعاً. لا ينتهي الأمر حقاً إلا إذا أُعيد إلى موضعه…….”
وخزني صدري.
ذكريات ممزقة إلى أشلاء مرّت أمام عيني.
لو كنتُ علمت من قبل، أكنتُ أستطيع أن أطرد ذلك الوحش في ذلك اليوم؟ أكنتُ أستطيع أن أنقذ أمي والآخرين؟
“……أكنت أستطيع؟”
“قلتُ لك إنما كان حادثاً فحسب.”
قال بايك-ران كأنه يقرأ أفكاري.
“كان حسناً لو لم يقع، ولكن لا حيلة فيه. الأرواح الشريرة في كل مكان. كان حسناً لو علم أحد وساعد، لكن…… ماذا عسانا نصنع؟”
“قلتَ إن الدنيا ما عادت كالسابق.”
رفع يو-دان رأسه.
“أنا أكره ما يكدّرني من الأمور. لا يهمني ما يصيب الآخرين. لكن، لعلّي أستطيع أن أساعد قليلاً…… فأنا أيضاً تلقيت العون….”
“يكفي.”
وكما توقّع، قطع بايك-ران القول رفضاً.
“لا أدري مَن قال لك تلك الترهات، لكني أعجب من هذه الثقة في أن تتدخل في شؤون غيرك وأنت عاجز حتى عن تدبير شأن نفسك. ألّا تكدّر الأمور وتمضي بعيداً هو العون بعينه. وعلى كل حال، أيّاً ما تفكّر به الآن، فغداً ستنساه كله.”
“لستُ بذلك الغباء!”
“ما قصدتُ ذلك.”
ابتسم اليوكاي الثعلب وهو يلتفت.
“لقد شهدت اليوم أموراً كثيرة جدّاً. ووعي الإنسان لا يحتمل هذا. ألم أقل لك؟ للإنسان غريزة أن ينسى الغرائب. فكل ما وقع اليوم سرعان ما يُمحى من ذاكرتك.”
“تمهّل.”
شيء في تلك الكلمات استوقفني. حتى تلك اللحظة لم أُعِرْه بالاً، والآن تنبّهت إليه.
“يعني هذا أنّ كل الذين تلقّوا منك العون من قبل…… نسوك تماماً؟”
“إنما هو لهم كالكابوس المزعج.”
“لكنهم تلقّوا منك عوناً عظيماً! أحقّاً لا يذكرون شيئاً؟”
“وما أهمية ذلك؟”
“إذن، هكذا كان.”
الآن فقط أدرك يو-دان.
ليس أنّ إنقاذ البشر عبث، بل لأنهم لا يذكرون منه شيئاً. كلّه يصير كأن لم يكن.
“أما أنا، فلستُ كذلك.”
قالها بغتة، فشعر بشيء غريب في صدره.
‘كلا.’
هتف صوت في داخله.
“بل أنت أيضاً مثلهم. لقد نسيتَ كل شيء.”
غامت رأسه.
‘ماذا؟ ما الذي نسيتُه؟’
ارتسمت هيئة يوكاي الثعلب مشوشة، وظلال أخرى تداخلت عليها. ما هذا؟ أهذا شعور سبق أن راودني؟ لا شك أني رأيته من قبل……
برد صدره.
“من تكون؟”
“مَن أكون؟”
استدار بايك-ران.
“أرى أنّ وعيك يضطرب. لا بدّ أنّه بدأ الآن. عد إذن إلى عالمك. انتهى الكابوس.”
تردّد صوت الثعلب في أذنيه كأنه من بعيد:
“عُد. جاوز الجبل الذي لا تراب له، واعبر الجسر الذي لا أرض تحته، واقطع النهر الذي لا ماء فيه، عُد. اتبع الطير الذي لا جناح له، واتبع الوحش الذي لا قدم له، عُد.”
م. الله يصبرني على طلاسمك.
كان الكلام كالنشيد أو كالتعويذة. أخذ وعيه يتلاشى شيئاً فشيئاً. شعر كأنه ينحدر إلى ظلام عميق دافئ.
الظلام الذي طالما استقبله.
أراد أن يغفو فيه. لكن لا، إن نام الآن سينسى إلى الأبد.
‘لقد نسيت شيئاً عظيماً منذ زمن بعيد.’
أوشك وعيه أن ينمحي، فجاهد يو-دان كي يتمسك به.
“لا!”
انتفض وفتح عينيه فجأة.
كل شيء أبيض ساطع.
ضوء الصباح ينسكب من النافذة المحجوبة نصفها بالستار.
رفع ذراعه ليحجب عينيه، فشعر أن كفّه مشدودة.
ببطء فتحها.
فإذا في راحته قصاصة ورقية صغيرة.
بقايا ورق قد احترق.
للمرة النادرة، ارتسمت بسمة على فم يو-دان.
“أرأيت؟ قلت لك إن هذا لن يكون!”
انعكس نور الشمس الشفاف إلى راحة يده، فانحلّت القصاصة كالجليد، وارتفع منها دخان أزرق.
—
انزلقت الأوراق الخضراء بين أصابعه.
كان الضجيج من خلفه يتعالى شيئاً فشيئاً. بعض من كانوا يراقبون بصمت تجرّأوا أخيراً فاقتربوا.
“أي مال هذا؟ ربحتَ اليانصيب؟”
“أراهن أنك وجدت محفظة ملياردير!”
“أو هاتفاً؟ على كل حال، عليك أن تدفع! هيّا، نريد بيتزا!”
عظيم هو سلطان المال. فقد اجتمع حول يو-دان أولاد لم يخاطبوه من قبل، وصاروا يتضاحكون. حتى الكائنات الحقيرة القابعة في زوايا الصف اندفعت بمرح. همَّ أن يقطب حاجبيه وينظر شزراً كالعادة، لكنه كفّ.
“آسف، لكن لهذا المال وجهة.”
“بخيل!”
تعالت أصوات التذمر، وبعضهم دقّ الأرض برجليه فاشتدّ الضجيج.
وقع في حرج. هذه الحال لا تلائمه أبداً. لعلّه كان عليه أن يطردهم بوجهه الجامد المعهود.
“لن نتركك! على الأقل اشترِ لنا مثلجات!”
لم يفلح في الخلاص إلا بعد أن ابتزّوا منه بضع عشرات من آلاف الوون. ومع ذلك بقي معه قدر وافر، يكفي بلا ريب.
حين عثر على المال أول مرة في جيب بزّته المدرسية تحيّر. فقد نسي أن اليوكاي الذي كان يحمل الخرزة ألقى النقود في جيبه. تذكّر الآن. ولم يطل تفكيره حتى خطر له ما يفعل به.
فركب الحافلة بخطى خفيفة.
طريق الأشجار لا يزال هادئاً بارداً. والمبنى ذي السقف القرميدي كما كان.
فتح باب بانولدانغ.
شعر بالانتعاش. هنا لا تُرى تلك الأشياء.
‘لقد وجدتُ أخيراً مكاناً كهذا. أأغدو ناسياً إياه؟ هذا محال.’
دخل بخطوات واثقة.
وكان “تو-شي” خارجاً يحمل مِحبرة عظيمة كبرعم ورقة لوتس. فلما رأى من الداخل، جحظت عيناه.
“ألا إن هذا مَن يكون؟ صاحب عين الحقيقة نفسه! ما الذي جاء بك ثانية؟”
وكاد لولا الحذر أن يهوي بالمحبرة على رأسه، لكن يو-دان تفادى ودخل سريعاً.
“اليوم جئتُ لأشتري شيئاً.”
“تشتري؟ وماذا يباع هنا؟ إنما هي أعظم التحف التي جُمعت بفنٍّ رفيع، لا تباع للدهماء…….”
“أريد ذاك.”
قاطعه مشيراً إلى الأرض.
مجلة الفن الشرقي الشهري.
لا تزال تسدّ جانب المدخل بركام نسخها الكاسدة.
التفت تو-شي من المجلة إلى يو-دان، ووجهه يوحي أن المئة مليون وون لا تساوي هذا المشهد.
“ه، هذا، لماذا…….”
حتى لسانه تعثّر. رفع يو-دان كتفيه.
“غرفة جلوسنا فارغة قليلاً. وابن خالي يلحّ عليّ أن أقتني بعض الكتب. فليكن إذن تحفاً رفيعة كما تقول، أصفّها في الرفوف.”
تغيّر وجه تو-شي إلى حال بين الضحك والبكاء. وبعد جهد تمتم:
“لكنها مملة جداً…….”
“ها؟ لم أتوقع هذا القدر من الصراحة!”
“ماذا؟ لم تَعْنِ ما تقول؟”
“ضع المحبرة، وخذ ثمن السلعة. وأحسبك ستتكفّل بأجرة الشحن.”
هنالك، إذ دخلت “هوك-يو” يتفقد، اتسعت عيناه دهشة. والتوأمان، ما إن تبادلا النظر حتى ركضا إلى الداخل. فسارع يو-دان وراءهما. بعد غرف طويلة خالية، انكشف البستان.
رحبٌ هو فناء الدار. بركة صغيرة تحيط بها أشجار عتيقة. يختلف عن صحن الدار الأمامي.
تحت مظلة الشرفة، جلس يوكاي الثعلب في ثوب أبيض، ينظر إلى صفحة الماء. فلما سمعت الحراك التفت ببطء. وعيناا تضيّقتا.
“ما هذا……؟”
صاح تشاي-وو وقد شحب وجه:
“أرأيت؟! أخذ كلامك حرفياً فجاءنا ومعه المال!”
تلعثم تو-شي وهو يعد النقود، كأنه محرج:
“أمّا…… فذاك…….”
أما تشاي-سول فتمتمت شاحبة:
“لكن طالباً لا يقدر على مئة مليون. هذا كله بسبب ثرثرة العم. لا سبيل لطالبٍ بلا مال إلا بيع ذاك الشيء. لا شك أن وزنه نقص مئة غرام، وأن الاثنين صار واحداً. إن تضرر فقد انتهى. لا تدعوه يذوق الملح!”
“ما بعت كليتي!”
صاح يو-دان ساخطاً.
“ومن يبيع كليته ليشتري مجلة فنون؟ المال من اليوكاي الذي كان يحمل الخرزة! وسيُصرف على المحتاجين على كل حال.”
“مَن تعني بالمحتاجين!”
زمجرت هوك-يو وهي يضرب الأرض برجلهل.
“لم أعنِ هذا…….”
“كذبت! أتسخر منا لأن متجرنا في عجز؟ هيونغ! لا تقبل المال!”
“ولِمَ لا؟ أتثبط عزيمة هذا الفتى في طلب العلم؟”
“أأستلّ السيف لأمنعك؟”
ضجّ المكان بالجدل. لكن حين تكلم اليوكاي الثعلب، عمّ السكون.
“قلتُ لك بوضوح. عُد إلى عالمك.”
كان صوته لا يحمل عاطفة. ونظراته غامضة كالعادة. لكن هذه المرة لم تضعف عزيمته.
“قلتُ لك، أنا أكره المشقة.”
واجهها يو-دان بثبات.
“لكنني أكره أكثر أن تسرح القاذورات في العالم. والحياة كلها مملوءة بما أكره. عليّ أن أختار ما هو أقلّ مقتاً. ولست أريد أن أموت ميتة شنيعة. فسأتحمّل قدر المستطاع، وإن عجزت…… سأعود إلى هنا.”
“ومن أذن لك؟”
“لي ميزة واحدة، أني لا أُصغي.”
“لقد صرتَ حملاً ثقيلاً.”
قال ثم نهض فجأة. وامتد كمّها الأبيض نحوه.
فزع وهو يذكُر حين كان يهوي بذلك الرمح العظيم. فتراجع مسرعاً.
لكن بايك-ران توقّف ونظر متعجباً.
“ما بك؟”
شعر يو-دان أن يده خفّت. ماذا كان يحمل؟ تذكّر.
“آه، الكعكة…….”
هزّ الثعلب كتفيه.
“ومع ذلك، لا بأس. أن يأتي زبون بكعكة لذيذة كهذه، فذاك لم يقع منذ زمن طويل، وقد سرّهم جميعاً…….”
فكّ الشريط وفتحت الصندوق، لكنه جمد. وظلّ يحدّق فيه. ثم سأل:
“لكن، يراودني سؤال…….”
“ما هو؟”
“أما كنت تعلم أنّ المواد غير الصلبة، كالزبدة والكريمة، إن هُزّت فسدت؟”
“……؟”
ارتبك يو-دان.
المرة الأولى حمله بتوتر، أما الآن فلا. فحمل الكعكة وصعد الحافلة واستعمل بطاقة الأجرة وشرب الماء ناسياً أمرها.
“لم أكن أعلم. لم أشترِ مثل هذا من قبل. لم يخطر ببالي أنها ستتلف إذا هُزّت…….”
“فهكذا.”
رفع رأسه، وفي وجهه حرج.
“إذن أعتذر عما قلتُه سابقاً. لم تكن جاهل فحسب، بل كنتَ أحمق حقّاً. والفرق بين الأمرين عظيم، كما الفرق بين الكعكة وما يشبه الكعكة.”
“أفيمكن أكلها؟”
سألت تشاي-سول بوجه كالمغشيّ عليه.
“لا بأس. بدل الشوكات استعملوا الملاعق. أكل الكعكة بالملعقة تجربة أيضاً.”
قال تشاي-وو بشجاعة وهو بمضي إلى المطبخ.
أما تو-شي وهوك-يو فكانا ينظران إلى يو-دان كأنه أتعس خلق الله. لكن لما قالت تشا-وو:
“ستة ملاعق، أليس كذلك؟”
لم يُعارضا.
إذن فالأمر حسن.
شعر يو-دان بالسرور.
***
كفاية عليكم لهنا اليوم
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 6 - دفع البلاء ⁶ والأخير 2025-08-30
- 5 - دفع البلاء ⁵ 2025-08-30
- 4 - دفع البلاء ⁴ 2025-08-30
- 3 - دفع البلاء ³ 2025-08-30
- 2 - دفع البلاء ² 2025-08-30
- 1 - الحكاية الأولى: دفع البلاء¹ 2025-08-30
التعليقات لهذا الفصل " 6"