3
“مهما يكن من أمرٍ، فأحسب أنّكم تُولونه عنايةً عظيمة. وإن يكن أخًا أحمق، فقد أتى راجيًا أن تُنقِذوا حياته، فكيف لي أن أغضَّ الطرف عن ذلك؟”
‘أحمق؟ أنا؟’
كاد يو-دان أن يحتجّ، غير أنّ كمًّا أبيض انساب برفقٍ وعبر أمام ناظريه ففاتته الفرصة.
“إذن من هذا الطريق.”
وأشار بايك-ران إلى السلم المؤدي إلى الطابق العلوي، ثم مضى قُدُمًا دون أن ينتظر جوابًا.
“عجبًا لهذا الأمر.”
قال اليوكاي الكهل وهو يَصَكّ لسانه. وأما فتاة الحيّة فحدجته بنظرات كأنّها تريد الفتك به.
أحسّ يو-دان بحرارة وخزٍ في قفاه وهو يضع قدمه على درجٍ خشبيّ عتيق. كانت الدرجات تصدر صريرًا مزعجًا كلما خطا، أمّا الثعلب فكان يصعد بخفةٍ لا يُسمع لها وقع.
كان الطابق العلوي مكتبة فسيحة، غير أنّ يو-دان لم يكد يخطو فيها حتى خُيّل إليه أنّه دخل فضاءً أوسع مما يُرى بالبصر، لعلّ السبب كثرة الكتب المصفوفة على رفوف تحيط بالمكان من كل جهة، جميعها مخطوطات عتيقة.
وفي صميم ذلك الجوّ البارد المهيب، كان شيء شامخٌ ينتصب.
‘قطّ؟’
خُيّل إليه بادئ الأمر، لكنه ما لبث أن دهش حين تبيّن أنّه ضفدع، متزيّن بثوبٍ رسميّ أحمر مُطرَّز عليه طائر الكركي، كأنّه دمية صغيرة على هيئة وزير من وزراء الدولة القديمة.
وراءه تماوجت ظلالٌ كثيرة لكائنات خفيّة لم تجرؤ أن تُظهر حقيقتها.
لمّا رأى الضفدع بايك-ران، تهلّل وجهه وأسرع بخطوات قصيرة نحوه.
“أين كنتم؟ لقد استعملتُ السيف الذي أعرتَنيه فقتلتُ ذاك اللعين المسمّى ‘بُلسانسا’. وهاكم رأسه.”
ثم قدّم بيديه كلتيهما صُرّة من حرير نفيسة.
‘رأس؟ هل قال رأسًا؟ أأكون قد سمعت خطأ؟’
“أحسنتَ صنعًا.”
قال بايك-ران، فتألّقت عينا الضفدع من الفرح وجمع كفيه ناظرًا إليه بعين ملؤها الإجلال.
“الآن لن يكون هنالك ما يُخيفنا زمنًا. إذ ما برح مولانا الثعلب يخلّصنا من أعظم الشدائد، حقًا إنّه…”
وما كاد يطيل خطبته حتى لمح يو-دان، فوثب مذعورًا:
“ويحَك! أهذا معقول؟! إنسان! إنسانٌ دخل هذا المقام! ما أجرأه! كيف سوّلت لك نفسك أن تُدنّس هذا الموضع برجليك النجستين؟!”
واستشاط غضبًا، فأخرج من صدره لوحًا صغيرًا يشبه الجوهرة، وراح يصفع به ساق يو-دان. لم يُحسّ يو-دان بألم، بل غلبه الضحك إذ كان الأمر يُدغدغه.
“هو ضيف.”
قال بايك-ران.
فتجمّد الضفدع وتوقّف، واحمرّ وجهه من الخجل.
“آه… ضيفٌ إذن…”
ثم وضع لوحه خلسةً جانبًا، وسعل متصنّعًا.
“أجل، لم نَرَ ضيفًا منذ أمدٍ بعيد، فعذري إن أسأت. آه! ألعلّي أُخرج له ذاك الكتاب الذي دأبتم على عرضه إذا حلّ بكم زائر؟”
ولم ينتظر جوابًا، بل وثب بخفة إلى رفٍ عالٍ وانتزع مجلدًا ضخمًا أكبر من قامته، ثم جهد في حمله حتى وضعه على الطاولة.
“إذن أنصرف الآن، فإن عرض لكم أمر فاستدعوني.”
وانحنى بأدب ثم خرج.
م. حاسه نفسي في فيلم من افلام استوديو غيبلي
أخذ يو-دان يرمقه مذهولًا. لقد غدا رأسه يزداد ثِقَلًا منذ أن وطئ هذا المكان. جلس قبالة الطاولة، وحدّق في الكتاب العتيق الذي لا يُعرَف قِدمه.
“جُملٌ الاحتلال…؟”
“بل ‘القديم والحديث’.”
صحّحه بايك-ران.
“إنّك تبادر إلى كل شيءٍ بغير علم، أفلا ترى أنّ هذا ما جرّ إليك مصيبتك؟ لا تحاول قراءة الكتاب، بل اسمع شرحي، فالمتون جميعها بالهانجا*.”
م. طريقة كتابة تعتمد على الحروف الصينية
‘أيحسبني أمّيًّا لا أفقه شيئًا؟’
أراد يو-دان أن يردّ، لكنه آثر الصمت ما دام محتاجًا إلى عونه.
“حسنًا، لن أقرأ. إذن ما هذا الكتاب؟”
“إنه’غرائب الأحاديث في القديم والحديث’، وفيه ما عُرِف من الغرائب منذ الدهر الأول.”
م. تقنيا قصص الغرائب القديمة والحديثه بس يدي تحكني.
“غرائب؟ أهي غير الأشباح واليوكاي والأرواح؟”
“أجل.”
وأخذ يقلب الصفحات.
“الغرائب هي الكائنات التي جابت هذه الأرض منذ الأزل. تنفذ إلى ضعف البشر، وليس دائمًا بنيّةٍ شريرة. لا تُفهَم بحدّ ذاتها، بل ينبغي كشف علتها وضبطها وإرجاعها إلى موضعها الأصلي، وفق سُنّة الكون.”
توقّف إصبعه، وقد وجد ضالته. قلب الكتاب وجعل صفحته إلى يو-دان. كانت بجانب النصوص صورٌ عدّة، أشدها هولًا صورة راهبٍ مطعون وسط بركة دم.
“هذا هو ‘مستقبِل من يتعرض لخرزة الألم’.”
وشرع بايك-ران يفسّر:
“ينبغي أوّلًا أن تفهم ما هذا. هذا شرٌّ يباغت الناس فيجلب المصائب لهم، من فقدان عزيز، أو حادثٍ فادح، أو موتٍ محتوم أو ألم شديد. لذلك يسعى كل امرئٍ لدرئه، غير أنّه لا يندفع إلا إن حُمّل على آخر. وهذا الذي ترون مثاله.”
كان شرحه واضحًا على خلاف جفائه، فأرهف يو-دان سمعه.
“وهذه القصة مشهورة مذكورة في ‘تشونغو يادام’. يُحكى أنّ والي هابتشون رزق بابنٍ في شيخوخته، فأفرط في تدليله حتى غدا متجبرًا. عندها استدعاه كبير رهبان هيينسا وزجره أشد الزجر.”
وكانت الرسوم تُري الرهبان يمسكون بالصبي، والشيخ يغرز في فخذه مِثقَبًا.
“انتظر، هذا ليس زجرًا، بل شروعٌ في قتل!”
“لكن الفتى عزم على الدراسة حتى نال الصدارة في الامتحانات، وتبوّأ منصب حاكم كيونغسانغ. وبيت نواياه أن يقتل كل رهبان هيينسا، غير أنّه ما أن واجه الشيخ حتى ذاب حقده كالجليد، وقال الشيخ إنّه علم بذلك منذ البدء، وطلب إليه أن يستضيف راهبًا سيُرسله إليه يومًا ما، ويبيت معه في الغرفة ذاتها.”
وأشار بايك-ران إلى الرسم التالي:
“وفعلاً، عند الموعد جاء الراهب. فأكرمه الحاكم أيّما إكرام، وأنامه في الموقد. لكن في أثناء الليل فاحت رائحة دمٍ كريهة، فإذا الراهب مذبوح وقد طُعن في بطنه. وتبيّن أنّ الفاعل عبدٌ غيور أحبّ جارية الحاكم فاغتاظ، وظنّ أن الحاكم ينام هناك، فطعنه. وهكذا أنقذ الشيخ الحاكم بأن جعل الراهب يتلقّى الألم عوضًا عنه.”
حدّق يو-دان في الصورة الأخيرة، فارتعد إذ رأى جثة الراهب غارقة في الدم.
“وأيّ ذنبٍ له هذا الراهب؟”
“من يدري؟ لا بدّ من علّةٍ خفية، غير أنّ الرواية لا تذكرها.”
ثم رفع بايك-ران رأسه:
“على أي حال، فهكذا تفهم معنى ‘مستقبِل البلاء’: من يتلقّى البلاء نيابةً عن غيره. غير أنّ ثمّة علة؛ فإن وُضع أحدهم في هذا الموضع خِلسة، فهل يقبل عن طيب خاطر أن يفتدي غيره؟”
“كلا!”
“نعم. وهكذا يبدأ كلٌّ في إلقاء البلاء على آخر، فيتضخّم الأمر، إذ أنه كالريح العاصفة ينبغي أن يتبدّد في حينه، فإذا لم يحدث اجتذب كل شرٍّ من حوله حتى يكبر. ويبدو أنّ ذا قوّة روحية عظيمة كبَتَه وختمه، حتى إذا التقطه جاهلٌ وحسبه كنزًا. ثم جئت أنت فأخذته، ألم ترَ كيف ارتاح سابقك إذ خلّص نفسه من بلاءٍ عظيم؟”
‘جاهل…’ وخزت الكلمة قلبه، فأحسّ وجهه يحمرّ. ووضع كفّه على جبينه الذي أخذ ينبض بالألم.
“فما العمل الآن؟ ذاك الثقب الأسود بدا عصيًّا على أي شيء.”
“هكذا طبعه؛ إنما ينتهي إذا أصاب أحدًا.”
“فالحل…؟”
“أن يُحمَّل على آخر.”
قالها بايك-ران بهدوء.
“نحتاج إلى مستقبِلٍ جديد. فهل لك بمن تريد أن يُصيبه بلاؤك؟”
“ماذا؟! لا! ما هذا القول؟!”
“إذن فهل تُحضرون كلبًا أو هِرًّا؟”
“كلا!”
“فجرذٌ إذن.”
“قلتُ لا!”
“فمن إذن؟”
بُهت يو-دان وعجز عن الرد، فرآه الثعلب وضحك بعينيه مكرًا كأشد ما يكون.
“إنما أمزح.”
فاغتاظ يو-دان وقال:
“مزحة باردة!”
لكن بايك-ران لم يُصغِ، بل نهض وأخذ يُفتّش في الأدراج حتى أخرج دمية من قشّ، هي جاي وونغ، لكنها بدت نابضة كأنها تحيا.
“هذه ستتلقّى النحس بدلًا عنك.”
ثم مزّق ورقة وسأله:
“اسمك يو(柳) -دان(丹)، أليس كذلك؟”
“أجل.”
كتب الاسم وأدخله في صدر الدمية، ثم أخذ زرًا من ثوبه ولفّه بقطعة قماش حمراء وأدخله في بطنها، ورسم على جبهتها ختمًا زائفًا.
“حين تعود حفرة الألم، ألقِ بها في الثقب الأسود.”
ثم دفعها نحوه.
“أتستطيع؟”
“لعلّي.”
“هو أمر يسير، غير أنّ عليك ألّا تدعها تأكل شيئًا من جسدك: لا شعرًا ولا ظفرًا. فإنها ستسعى لذلك، فامنعها ولو ضقت بها ذرعًا.”
“أتقصد أنّها… تتحرّك؟!”
“بلى، فاجعلها دومًا إلى جانبك، ولا تُغفلها.”
تأمّل يو-دان الدمية في امتعاض.
“أتعلم؟ إن حملتُ هذه في المدرسة عدّوني مجنونًا، وكفاني ما أنا فيه. لن يرَها أحد، وسيظنونني أُطارد الهواء. وإن حملتُ دمية كهذه، أُودِعوني مستشفى المجانين.”
ابتسم الثعلب وقال:
“لا تخشَ ذلك. فإن قُدرة اليوكاي تحجب الأبصار. والناس يخدعون أنفسهم بأنفسهم مخافة أن يصيبهم الأمر، فلا يرون ما أمامهم ولا يسمعون. هي غريزة البقاء فيهم. إلا قلةٌ معطوبة…”
“مثلي؟”
لم يُجب. فعاد الألم في عين يو-دان اليسرى، فغطّاها بيده.
“لم أكن هكذا، لكن منذ ذلك اليوم…” وتوقف، إذ لم يقوَ على النطق.
“لقد أصابك حادث.”
قال بايك-ران.
“كيف علمتَ؟”
“يبين لي بعض الأمر، وإن غلب عليه التشويش. يبدو أنّك واجهتَ شيئا عظيمًا.”
“لا أعلم ما هو. لكن منذئذٍ صرتُ أرى أشياءً ما كنتُ أريد رؤيتها. أرى كبقعة سوداء في أعناق أحدهم، ثم يموت بسرطان القصبة الهوائية. أو أرى أخرى في صور بملابس حمراء، ثم تموت بحادث. لا أريد هذه العين! ألا تقدر أن تُعيدها إلى طبيعتها؟ لماذا ابتُليتُ بهذه اللعنة؟”
“ليست لعنة.”
أجاب بايك-ران.
“إن صحّ ما تقول، فهي عين الحقيقة، عين ترى مالا يرى. هي كنز يتمنّاه كل من خطا في هذا العالم.”
دهش يو-دان.
لطالما حسبها لعنة شيطانية، فإذا هي جوهرة؟ لم يستسغ.
“هراء! ما قيمة كنزٍ كهذا؟ إنه يجلب الشقاء. خذها أنت إن كانت ثمينة!”
“لا أستطيع.”
هزّ رأسه بايك-ران.
“ما الذي يزعجك؟ إنها لا تُريك إلا ما هو كائن.”
“لكن رؤيتها تجبرني أن أتدخل، إذ لا أحد غيري يراها! وإن ظهر البلاء أمام عيني، لم أملك ترف تجاهله.”
“إذن أنت موعود بمصرعٍ مباغت.”
قالها بايك-ران ببرود.
“هذه المرّة فقط خانني الحظ!”
—
الفصل مفهوم؟ كلام ران كله ألغاز صدقوني أنا شخصيا بعاني منه
أتمنى يكون واضح لكم🥲
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 6 - دفع البلاء ⁶ والأخير 2025-08-30
- 5 - دفع البلاء ⁵ 2025-08-30
- 4 - دفع البلاء ⁴ 2025-08-30
- 3 - دفع البلاء ³ 2025-08-30
- 2 - دفع البلاء ² 2025-08-30
- 1 - الحكاية الأولى: دفع البلاء¹ 2025-08-30
التعليقات لهذا الفصل " 3"