‘انتظر… إنّي لا أعرف وجه جدّي ولا صوته! ألم يقل أبي إنه مات شابًّا قبل أن أولد بزمن؟’
رمق الجدّ بنظرةٍ حادّة وقال:
“من أنت؟”
فتحوّل وجه الشبح القبيح إلى هيئةٍ مخيفة، وصرخ صرخةً وحشية وهو ينقضّ على معصمه.
لكن في تلك اللحظة، تقدّم شيءٌ ووقف بينهما.
كان كيانًا غريبًا يضع قناعًا أبيض لا ملامح له، قناع اللاوجه.
رفع الكيان يده، فطفَت زهرةُ لوتس في الهواء، وانبعث منها ضياءٌ باهرٌ امتدّ في الجهات كلّها.
“آآااه!”
ذاب وجهُ الشبح الصارخ كالدخان، وتفرّقت مواكب الموتى كلها رمادًا في الريح.
ولم يبقَ في المكان سوى ضبابٍ أزرق قاتم.
قال يو دان وهو ينحني شاكراً:
“شكرًا لك.”
فقال الكيان اللاوجه بصوتٍ هادئ:
“هذا المكان ليس للبشر. لِمَ لم تعد بعدُ إلى عالمك، وما بالك تهيم هنا؟”
أجاب يو دان:
“كنتُ سأعود.”
ثم نظر إلى الأرض، فلم يجد أثرًا للطريق.
‘أتراني أبطأتُ أكثر مما ينبغي؟ لقد اختفى الأثر الذهبي الذي تركه الثعلب… لا شيء هنا سوى الظلمة.’
“يا ويلي! ماذا أفعل الآن!”
سأله الكيان بصوتٍ رقيق:
“أهناك ما يكدّر أمرك؟”
تزلزل قلب يو دان، وقال بعينين دامعتين:
“ضاع الأثر… ضيّعت آثار الأقدام!”
“آثار الأقدام؟”
“نعم، يوكاي الثعلب تركها لي دليلاً، لكنها تلاشت! يا للمصيبة! قلتُ إني سأعود ومعي صرة الأرواح، وسيسخر مني حين يراني عاجزًا! قال إن عجزتُ عن العودة، فسيقع عليه وزرٌ عظيم، فكيف لا أعود؟ توسّلتُ إليه أن يتركني أذهب رغم اعتراضه، فلا بدّ أن أفي بوعدي!”
قال اللاوجه برصانة:
“إذن قد وقعتَ في مأزقٍ حقًا. فهل تريد أن أطبعَ لك أنا آثار الأقدام بدلاً عنه؟”
كان يو دان على وشك البكاء، لكن المنظر سحره حتى نسي دموعه.
“ما هذه؟”
“إنها زهرة الروح، تحتوي على ذكرياتك.”
نظر فوجد على بتلاتها مشهدًا يتلألأ — باخرةٌ عظيمة تمخر عباب بحرٍ أزرق، تحمل جمعًا من الناس.
“لقد ركبتَ سفينةً كبيرة من قبل، أليس كذلك؟”
“بلى! كنت صغيرًا جدًا، أصغر حتى مما أنا الآن. سافرنا أنا وأمي وأبي إلى جزيرةٍ للنزهة! أطعمنا طيور النورس البسكويت، وجمعتُ أصدافًا من الرمل! كان يومًا رائعًا!”
قال اللاوجه:
“تبدو ذكرى عزيزةً عليك.”
ثم أدار زهرة الروح في يده قائلًا:
“أتسمح لي أن آخذها؟”
تردّد يو دان قليلًا ثم قال:
“إن وعدتَ أن تريني الآثار… فأنا موافق. يجب أن أعود.”
ابتسم اللاوجه وأدار ظهره.
وكلّما خطا خطوةً، تفتّحت من رأس يو دان زهرةُ روحٍ أخرى التحقت به.
وفي كل بتلةٍ من الزهور كان يلمع مشهد مختلف:
يومٌ ماطرٌ يقفز فيه صبي في البرك مرتديًا حذاء المطر.
وأمّه تعزف على البيانو وهو يعبث بالمفاتيح.
وأبوه يصنع معه تلسكوبًا فلكيًّا.
وسقطةٌ على الجليد كُسرت فيها ذراعه.
ويومٌ قضاه في البحث عن كلب العائلة الذي ضاع.
كانت المشاهد تتماوج في البتلات كأنها شرائط من ضوءٍ وذكريات، بعضها حزين وبعضها جميل، لكنها كلّها تبعث في النفس رهبةً غامضة وجمالًا لا يُوصف.
وسار يو دان خلف اللاوجه حتى لاح في الأفق مخرجٌ يضيء كالفجر.
هتف يو دان بفرح:
“ها هو الطريق!”
لكن اللاوجه التفت وقال:
“وماذا نصنع الآن؟ لقد نفدت زهور الروح.”
ثم أضاف بنبرةٍ هادئة:
“لكي أريك آخر خطوة، لا بدّ من مقابلٍ آخر. فهل تعطيني تلك الصرة بدلاً منها؟”
‘صرة؟ أيّ صرة؟’
خفض يو دان بصره، فرأى أنه يمسك بيده صرة بيضاء لا يعرفها.
‘من أين أتت؟ متى صارت معي؟’
لم يتذكّر.
قال ببطء:
“حسنًا…”
لكن حين همّ أن يناوله الصرة، توقّف فجأة، وقد ساوره إحساسٌ غريب.
“لا… انتظر. لا يجوز.”
“ولمَ لا؟”
لم يقدر أن يجيب.
‘إنه مهم… مهمٌّ جدًّا… لكن… لماذا؟ لا أستطيع أن أتذكّر.’
قال اللاوجه في هدوءٍ آسر:
“ما الفرق؟ لن يضيرك إن لم تعد.”
“صحيح…”
أومأ يو دان، وعقله يغمره الضباب، لا يتذكّر شيئًا.
“أليس سواءً عدتَ أو لم تعد؟”
“ربما… لكن… أظن أن أحدًا ما ترك لي الأثر كي أتبعه. أليس هذا يعني أنه ينتظرني؟ أن عليّ أن أعود؟”
تطايرت زهور الروح في الهواء كالعاصفة، وأمطرت على يو دان حتى غمرته.
وحين حطّت آخر زهرة فوق رأسه، انفتحت الذاكرة.
رأى سهلًا أخضر، وأطفالًا بثيابٍ قطنية يلعبون ويضحكون.
“هذه ليست ذاكرتي.”
“لكنها كانت عالقة بك.”
وفوق صوته، تداخلت ضحكات الأطفال:
“ابتعدي! قذرة!”
“أمي قالت ألا نلعب معك!”
نعم… لم يسمح له أحد باللعب.
كانوا يقولون: “إنها ابنة الأبرص، لا تقتربوا منها.”
ومع ذلك، كانت تلاحقهم كل يوم، لا تبالي بالحجارة التي يُلقونها عليها، فقط لتكون قريبةً من ضحكاتهم.
وفي ذلك اليوم، وهي تركض خلفهم، سقطت في حفرة.
انهارت الحجارة عند فوهتها وسدّت طريقها.
‘أنقذوني! أنا هنا!’
صرخت، لكن أحدًا لم يسمع.
كانوا منشغلين باللعب والضحك.
أصواتهم وحدها ملأت السماء، فيما الهواء في جوف الحفرة صار أثقل فأثقل.
‘كنتُ أريد فقط أن أكون معهم…’
“كُح! كُح!”
فتح يو دان عينيه وهو يسعل بشدّة.
لم يكن في جوف الحفرة، ولا في عالم الكيانات الغيبية.
اختفى كلّ شيء — الأشجار البيضاء كالعظام، والضباب الأزرق القاتم — كأنها كذبةٌ انقضت.
وبدلًا منها ظهرت حوله جدران مغطاة بالكتب.
كانت مكتبةَ اليوكاي الثعلب بايك ران.
وكان الليل قد أرخى سدوله، والشموع تشتعل واهنةً ترقص ظلالها على الحيطان.
أما بايك ران فكان يقلب صفحات كتابٍ دون اهتمام، ملامحه ساكنة.
نظر إليه يو دان طويلًا ثم قال:
“أنت… أنت من كنتَ هناك.”
الكيان اللاوجه لم يكن سوى هذا الثعلب اليوكاي نفسه.
‘الآن أفهم… كان صوته ذاته، وهيبته نفسها… كيف لم أعرفه آنذاك؟’
اعتدل يو دان جالسًا.
وفي حضنه كان الصرة البيضاء — صرة الأرواح — ساكنة لكنها دافئة، كأن داخلهل نفسًا خافتًا يتردد.
‘إنه حيّ… لقد نجح الأمر.’
زفر يو دان بارتياح وقال:
“الحمد لله… استعدته.”
ابتسم بايك ران وقال برصانة:
“الحمد لله على سلامتك.”
تحرّك الكيس قليلًا على الطاولة، كأنه يتنفس.
قال يو دان وهو يضعه برفق:
“لكن أخبرني… لِمَ لبستَ قناعًا بلا وجه لتخيفني؟”
أجاب الثعلب بهدوءٍ ساخر:
“لم ألبس قناعًا قط.”
“ماذا؟”
“حين كنتَ في غابة الأرواح وعدتَ طفلًا صغيرًا، لم نكن قد التقينا بعد، فظننتني كيانًا بلا وجه. ومع ذلك، ما إن رأيتني حتى بادرتَ بالاتهام. أفلا ترى أني بالغتُ حين وثقتُ بقدرتك وتركتك تذهب وحدك؟ اضطررتُ إلى أن أقطع مسيرة ثلاثة آلاف ميل لأتأكد من عودتك سالمًا. أما كان ذلك كثيرًا؟”
يو دان عجز عن الكلام، ثم بعد هنيهةٍ تجعّد ما بين حاجبيه وقال:
“لكنّك، على كل حال، قد هزئتَ بي.”
ابتسم الثعلب بخفوت وقال:
“لقد كُشف أمري إذن.”
وفي تلك اللحظة، دخل التوأمان الجِنسنغ، يحمل أحدهما مكنسةً والآخر خرقةً. بدا أنّهما قدِما لتنظيف المكتبة، وما إن رأيا يو دان وقد أفاق، حتى تهلّل وجههما فرحًا.
قال أحدهما:
“أيها الفتى، لقد عدت سالمًا ومعك كيس الأرواح! يا له من أمرٍ مفرح! أختُ ذلك الطفل ستغتبط غاية الاغتباط!”
وأضافت الآخى بحماسة:
“أحسنت! ما فعلتَه ليس بالهيّن أبدًا!”
ثم اقتربا متسائلَين:
“ولكن، كيف كان حال ذاك العالم؟ أليس نافعًا أن يتأمل المرء هناك في قيمة الحياة، فيخرج منه بعزمٍ على رعاية نفسه؟ ما أجمل أن يعود الإنسان كلما داهمه الكسل أو الكآبة، ليجد عزاءه في تلك التجربة!”
قال الثاني وهو يهز رأسه متفكّهًا:
“لا، لا، أظنّ أنّ تنكّرنا كان بالغ الإتقان، حتى إنه لا بدّ كان يمرح هناك كروحٍ هائمة بين الكائنات الغريبة. أنظر إليه! ألا ترى الحنين في عينيه؟ علينا أن نُخفي الخمر والتبغ من الطابق السفلي، ونمنعه من عبور الطريق حين تكون الإشارة حمراء!”
فتح يو دان فاه مبهوتًا وقال بحدّة:
“اطمئنا! لن أموت! صحيح أن تنكّرنا كان رائعًا كما تقولان، لكنني في النهاية انكشفت! والسبب كان تلك الجرّة الغريبة التي تكبر كلما نُظِر إليها. لقد كاد أولئك الأشباح يفتكون بي حين أدركوا حقيقتي، لكنني نجوت بأعجوبة! … مهلاً، الآن تذكّرت، لماذا عدتُ فجأة طفلاً هناك؟”
أجاب بايك ران وهو يُخرج قنينة صغيرة من تحت ردائه:
“سؤال سريع. والجواب يسير.”
فتح القنينة وقال:
“السبب أنّ ما أخذتُه منك كان هذا.”
وما إن نزع الغطاء حتى شعر يو دان بشيءٍ يُسحب من القنينة إلى صدره. اهتز كتفه كأنّ ثقلاً نزل عليه.
“ما هذا؟”
قال الثعلب وهو يعيد سدّ القنينة:
“إنّه الإحساس بالمسؤولية.”
“المسؤولية؟”
“نعم. الطفل لا يعرف معنى المسؤولية. وكذلك اليوكاي، والغيلان، والأرواح، والغرائب جميعهم — لا يتحمّلون تبعة أفعالهم. يفعلون ما يشاؤون إن كان فيه لذّة أو متعة، ويسأمون سريعًا. إن رغبوا في شيءٍ نفيسٍ اختطفوه من غير أن يحسبوا للعواقب حسابًا، وإذا امتلكوه فلن يفرّطوا به أبدًا.”
علّق بايك ران تعويذة صغيرة في كيس الأرواح، ثم أطلقه من النافذة، فارتفع عاليًا يحلّق في الهواء كفقاعةٍ من نور. نظر إليه يو دان طويلاً ثم قال في تأمّل:
“ربّما لم يكن ذلك كلّ شيء. تلك الزهرة الروحية التي عادت إليّ في النهاية، لا بدّ أنها كانت من ذكريات سارقة الأرواح نفسها. فهل يُحتمل أنها لم تكن شريرة في الأصل؟ لعلّها كانت وحيدة… لعلّها لم تطق العيش في عزلةٍ أكثر من ذلك؟”
ساد الصمت، غير أنّ يو دان شعر بأنّ الجميع قد فهموا ما قاله، إذ إنّ كل يوكاي يعرف تلك الحقيقة دون أن تُقال.
قال في صوتٍ خافت:
“إذن لو التقينا ثانيةً….”
أجابه الثعلب كأنّه يقرأ ما في نفسه:
“فلتكن ألين معها هذه المرة.”
وفوق رأس الثعلب، كانت صرة الأرواح البيضاء تطفو في السماء، تمضي ببطءٍ عبر ليلٍ ساكن، عائدةً إلى صاحبها الحقيقي.
—
أحيانًا، يرغب الإنسان في أن يسلك طريقًا غير الذي اعتاده.
أوقف يو دان دراجته عند منعطفٍ صغير.
وكانت حدسه في محلّه — فهناك وجد ما كان يتوقّعه.
كان المساء قد تجاوز العتبة، وأضواء الشوارع تُضاء واحدًا تلو الآخر. في ملعبٍ صغيرٍ شبه خالٍ، كانت فتاةٌ بزيّ المدرسة تلعب بالكرة مع طفلٍ صغير، كأنّهما يتحدّيان بعضهما من يلتقط الكرة أكثر. بدا عليهما سرور الحياة.
قال الطفل وهو يضحك:
“هذه لن تقدري على صدّها!”
قذف الكرة بقوةٍ، فاصطدمت بعامودٍ معدنيٍّ وعادت ترتدّ إلى يو دان، فاصطدمت بساقه وتدحرجت.
“نعتذر!”
صرخ الاثنان معًا.
أسرع الصغير نحو الكرة، وحين تناولها من يد يو دان نظر إلى وجهه فجأة وارتسمت على محيّاه دهشةٌ حائرة.
“آه…؟”
كانت ملامحه تقول: ‘لقد رأيتك من قبل… ولكن أين؟’
“ما بالك؟”
جاء صوت الفتاة وهي تمشي نحوه بخطى حازمة، وعيناها تفحصان يو دان من رأسه إلى قدمه نظرةَ حذرٍ وتحفّظ. كأنها تقول في نفسها: ‘ما الذي يفعله فتى في مثل عمره هنا في هذا الوقت؟ أهو من سكان مجمّعنا فعلًا؟ أم تلميذٌ مشاغب؟’
ثم أمسكت بيد أخيها قائلة:
“هيا بنا. وعدنا أن نفاجئ والديْنا حين يعودان بتنظيف البيت، أتذكر؟”
“أجل! صحيح!”
وانطلق الصغير راكضًا خلفها.
وقف يو دان يتأمل ظهرهما البعيد.
‘كما قال الثعلب تمامًا.’
هما لا يذكران شيئًا.
انتهى الكابوس، وعادوا إلى عالمهم الطبيعي.
وهكذا ينبغي أن يكون الأمر.
غير أنّ…
فيما كانا يسيران، مالت الفتاة قليلاً نحو أخيها ومدّت ذراعها.
رفع الصغير يده، فتلاقت الكفّان — واحدة صغيرة، وأخرى أكبر منها — واشتَبكتا بقوةٍ كأنّهما تُقسمان ألا تفترقا ثانية.
قد لا يذكران شيئًا بعقلهما، لكنّ القلب… لا ينسى.
ابتسم يو دان وهو يستدير مبتعدًا، وشعر أن في صدره دفئًا خفيفًا لم يكن هناك من قبل.
التعليقات لهذا الفصل " 10"