‘القلبُ لا يَعرفُ الكذب.’
بما أنَّ المرءَ يظنُّ أن لا أحدَ يسترقُ السمعَ إليه، فإنَّ احتمالية أن يكون صوتُ خَلَجاتِهِ هو الحقيقةُ المُجردة تصلُ إلى تسعةٍ وتسعين بالمئة. ربما لهذا السبب، كان ماكسيميليان مهووسًا بسماع الثناء في قلوب الآخرين. لم يكن هذا الهوسُ يشكلُ عائقًا له في السابق؛ فمعظمُ الناس كانوا يُمجدونه في سرّهم، وهو بدوره كان يمتلكُ الكاريزما واللياقة التي تستحقُّ ذلك الثناء.. إلى أن التقى بـتشيريشي ليلشتاين.
“أهذا كلُّ ما لديكِ؟”
نفدَ صبرُ ماكسيميليان حتى اضطرَّ لطلب المديح منها جهارًا.
“ماذا؟”
لم تزد تشيريشي على أن رَمشتْ بعينيها وهي تُحدقُ فيه بذهول، بينما لزمَ الدوقُ الصمت. وحين طالَ السكون، سألتْه بحيرة:
“ماذا هناك؟”
“لا شيء.”
مهما ركّزَ حواسَّه، كان عقلُها ساكنًا تمامًا. وفي النهاية، أجاب ببرودٍ حين لم يظفر بالرد الذي يرجوه.
‘ما خطبُه؟ لِمَ تبدلَ مزاجه هكذا؟’
فجأة، شعرتْ وكأنَّ ريحًا صرصرًا هبّتْ فوق الطاولة. لقد كانت أجواءً فاترةً للغاية بالنسبة لشخصين أنهيا للتو وجبةً دسمةً وشهية. ومع هذا التحول المفاجئ، بدأت تشيريشي تترصدُ نظراته بقلق.
‘هل اقترفتُ خطأً ما؟ هل غضبَ لأنني أكلتُ كثيرًا؟ أم أنه.. أصيبَ بتُخمة؟’
ظلتْ تراقبُه باستمرار، لكنها لم تجد تفسيرًا لتقطيبة وجهه المفاجئة.
‘يقول: “أهذا كلُّ شيء؟”.. عن ماذا كان يسأل؟’
حاولت استيضاح الأمر بسؤاله “ماذا هناك؟”، لكنها لم تتلقَّ سوى إجابته الجافة “لا شيء”. في تلك اللحظة، التقط ماكسيميليان فاتورة الحساب بسرعة ونهض من مقعده.
‘هل سيدفع حقًا؟’
راقبت ظهرَه وهو يبتعدُ بذهول، قبل أن تتذكرَ أنه لا يوجد سببٌ منطقيّ يجعلها تأكلُ على حسابه.
‘بل أليسَ من الأوجب أن أدفع أنا؟’
بعد أن امتلأت معدتها، بدأت التساؤلاتُ تطلُّ برأسها من جديد. ورغم أنها تدركُ أنَّ نفوذها لن يشكلَ فارقًا لدى دوق الجنوب، إلا أن موازين القوى كانت واضحة؛ هو “السيد” وهي “التابع”. نهضتْ تلحقُ به وهي تُفكر:
‘ماذا لو رفضَ إطلاعي على “ميستيكو” الآن؟’
كلما طالَ وقتُها معه، تملّكها شعورٌ غريب بالقلق. نظرتْ إلى ظهره بشكٍّ وهي تراه يقفُ عند منصة الدفع، واجتاحتها ريبةٌ مفاجئة.
‘لحظة.. هل أحضرني إلى هنا ليصرفَ نظري عن المجيء إلى هناك؟’
لمعتْ فكرةٌ كالصاعقة في رأسها.
‘بالضبط! وكأنه يقول: “كُلي هذا واصمتي”. تباً، أهذا ما يحدث؟’
أدركتْ أخيرًا السرَّ وراء وجودها معه بمفردهما في هذا المكان.
‘كيف لم أنتبه لهذا إلا الآن؟ هل أنا بليدةٌ إلى هذا الحد؟’
الآن، بدأتْ كلُّ أحداث الصباح تبدو مشبوهة. من دعوته لها بمفردها، وسؤاله عن المكان الذي ترغب في زيارته، وصولًا إلى جرِّها إلى هنا وكأنها مسحورة. كلُّ شيء كان يفوحُ برائحة المؤامرة.
‘لقد استُدرِجتُ.’
تيقنتْ أنها وقعتْ في فخِّ ماكسيميليان.
‘ألم يذكر الكتابُ الأصلي أنه مشهورٌ بإغواء الناس وسلب عقولهم؟ يا إلهي..’
كانت تسخرُ من الفتيات اللواتي يقعنَ في حبائله وتصفُهُنَّ بالحمق، فإذا بها هي الحمقاءُ المقصودة! وبمجرد أن بدأ الشكُّ يتسربُ إليها، بدا لها الطعام الذي أكلتْه قبل قليل مريبًا، وكأنه “مأدبةُ الوداع الأخير” قبل طردها.
‘يا لكِ من بليدة، بليدة!’
لامت نفسها وهي تشعرُ بالرغبة في ضرب رأسها. ماذا تفعل الآن؟
‘هل سأعودُ دون أن أرى ميستيكو؟’
تغلغلَ القلقُ في أعماقها. وفي تلك اللحظة، أنهى ماكسيميليان الحساب والتفتَ إليها. سارعتْ بتبديل ملامح وجهها الممتعضة إلى ابتسامةٍ مشرقة وكأن شيئًا لم يكن.
‘لنبتسم أولًا.’
حتى لو كان قصده “كُلي واغربي عن وجهي”، فعليها أن تسايره الآن.
‘لا يمكنني العودة هكذا! لقد استنزفتُ تذكرة الانتقال لهذه الرواية بشق الأنفس!’
قررتْ أن تبذلَ قصارى جهدها لاستمالته وتغيير مجرى الأمور.
“هل نمضي؟”
خرجتْ من المطعم تحت حمايته.
“قلتِ إنها المرة الأولى لكِ في “منتزه رينتشر”، أليس كذلك؟”
“أجل، هذه أول مرة لي في الجنوب ككل.”
“المسافة ليست بعيدة، لنذهب سيرًا على الأقدام كجولة تنزه. المسافةُ تسمحُ بذلك.”
“جميل.”
فكرت تشيريشي أن الفرصة ما زالت قائمة، فسايرت خطواته وهي تظن أن السير لن يكون معضلة. أما ماكسيميليان، فقد قرر التوقف عن التنصت على أفكارها مؤقتًا؛ كان يخشى أن يركزَ ذهنه فيسمعَ شيئًا “غريبًا” أو نقدًا لاذعًا يزيده إحباطًا. لقد تركتْ أفكارُها القوية أثرًا فيه يشبه الصدمة النفسية. وبمجرد أن أغلق راداره الذهني، غلفَ الأجواءَ شعورٌ بالارتباك.
سادَ الصمتُ بينهما، ولم يكن يقطعه سوى صوت الحصى الصغير تحت أقدامهما. وسرعان ما انعرجا نحو طريقٍ جبلي. من الظاهر، كانت اللوحةُ مثالية؛ ثنائيٌّ شاب وجميل يسيرانِ وسط طبيعةٍ خلابة. لكن الباطن كان يضجُّ بصراع الأفكار. فالدوق كان عليه أن يقرر بسرعة بشأن ميستيكو؛ إن كانت جاسوسةً للإمبراطور، فسيقودُها إلى مكانٍ آخر ويخدعُها ليكسب الوقت. ولكن ماذا لو لم تكن كذلك؟
‘هل هذا الاحتمال واردٌ أصلًا؟’
لمحَها بطرف عينه وهي تتبعُ خُطاه بجهد. وجهُها الصافي كان يوحي بالبراءة، لكنه سرعان ما هزَّ رأسه بقوة. إنها امرأةٌ بظاهرٍ يختلفُ تمامًا عن باطنها، ولا يجبُ الوثوقُ بملامحها أبدًا.
‘إن لم تكن جاسوسة، فلماذا تهتمُ بـ “ميستيكو”؟’
تذكرَ رسالة الإمبراطور التي تزعمُ أنها تعاني من الاكتئاب، وأن والدها “سيد البرج الذهبي” يتمنى تحسين مزاج ابنته.
‘هاه! أيُّ اكتئابٍ هذا؟’
سخرَ في سره؛ فذكرُ الاكتئاب بدا له كمناورةٍ أخرى لخداعه. ورغم أن عقله كان يعملُ بأقصى سرعته، إلا أنه لم يستقرَّ على قرارٍ بعد.
في المقابل، كانت تشيريشي غارقةً في تفكيرها حول كيفية استمالته.
‘هل سينفعُ التملق؟’
كانت تنوي مسايرته، لكنها لم تكن واثقةً أن المديح التقليدي سيؤتي ثماره مع رجلٍ كدوق الجنوب.
‘بالنظر إلى الرواية الأصلية، المديحُ العادي لن يُجدي نفعًا.’
فـماكسيميليان وُصفَ في الرواية بأنه رجلٌ غارقٌ في ثناء النساء؛ لذا فإن أيَّ غزلٍ سطحيّ لن يحركَ ساكنًا في قلبه.
‘أحتاجُ إلى ضربةٍ قاضية. شيءٍ قويٍّ يجعله عاجزًا عن رفض طلبي.’
راحت تعصرُ ذهنها، محاولةً استحضار مواقف من الروايات التي قرأتْها. عادةً ما يكسبُ الأبطالُ الثقة عن طريق تقديم شيءٍ يحتاجه الطرفُ الآخر بشدة، أو إنقاذه من ورطةٍ عويصة.
‘لكن هل ينقصُ هذا الرجلَ شيء؟’
اختلست النظر إليه؛ دوقٌ ثري، وسيمٌ لحد الفتنة، بجسدٍ مثالي. بدا وكأنَّ الدنيا قد حيزت له بحذافيرها. تنهدتْ بيأس وفكرت في الخيار الثاني.
‘موقفٌ خطير إذن..’
بدا المكانُ حولها هادئًا ووادعًا للغاية، تمامًا كما في الرواية. الأمنُ مستتبٌّ والبلادُ في رخاء تحت حكم الإمبراطور “ماريون” والإمبراطورة “هيوليت”. بدا من المستحيل افتعالُ قصة لإنقاذ الدوق من خطرٍ ما هنا.
‘هل هذه هي النهاية؟’
داهمها شعورٌ بالخطر من أن تعود إلى عالمها الحقيقي دون أن تنجز شيئًا. لم تأتِ إلى هنا من أجل هذا! تمنت لو أنها طلبت الذهاب إلى غابة الشرق على الأقل.
‘يا ليتني طلبتُ الذهاب للشرق.’
عضتْ أصابع الندم، وقررت أنها يجب أن تسأله الآن عن موعد رؤية “ميستيكو”، حتى لو اضطرَّت للتوسل والتشبث بطرف ثوبه. في تلك اللحظة، توقف ماكسيميليان فجأة. توقفت تشيريشي ونظرت إليه، فباغتها بسؤاله:
“ما هي علاقتكِ بجلالة الإمبراطور؟”
“ماذا؟”
بقيتْ مذهولةً للحظة، لم تستوعب من يقصد بـ”جلالته”.
“آه! هل تقصدُ الإمبراطور ماريون؟”
فلا يوجد غيره يُلقبُ بذلك في هذه البلاد. راقبَ ماكسيميليان رد فعلها بحدة؛ فكلُّ حركةٍ منها كانت تعني له الكثير. بدا له توانيها في فهم القصد غريبًا، وكأنها تتصنعُ ذلك. انتظرَ إجابتها بترقب، لعله يكتشفُ شيئًا هذه المرة.
“لا توجدُ بيننا أيُّ علاقة.”
أجابت تشيريشي بوجهٍ يعلوه الاستغراب. كان هذا هو الواقع؛ فلا رابطَ يجمعها بالإمبراطور ماريون قط.
‘هل كان سيُريني ميستيكو لو كنتُ على صلةٍ به؟’
لمعت عيناها؛ وندمتْ لأنها أجابت بالصدق المطلق. بدا لها أنه يهتمُّ بتوصية الإمبراطور، لكنها لم تستطع التنبؤ بقراره النهائي.
‘يا إلهي.. أيُّ طريقٍ للتنزه هذا؟’
بدأت أنفاسُها تتلاحقُ وهي تنظرُ إلى الطريق الجبلي الذي يزدادُ وعورة. ما أسماه “نزهةً في الغابة” كان في الحقيقة رحلةَ تسلقٍ شاقة. ورغم ذلك، تحاملتْ على نفسها وتابعت السير وراءه بإصرار كي لا تخدش صورتها أمامه. بدأ العرقُ يتصببُ على جبينها، وشعرتْ بآلامٍ في ساقيها، لكنها صمدتْ من أجل هدفٍ واحد: رؤية ميستيكو.
“لقد وصلنا تقريبًا.”
أمام آخر منحدرٍ حاد، مدَّ ماكسيميليان يدَه إليها. رفعت تشيريشي رأسها إليه، وتسمرتْ مكانها أمام مشهده وهو يمدُّ يده والخلفيةُ من ورائه سماءٌ زرقاء صافية. كانت الرياحُ تداعبُ خصلات شعره الذهبية برقة. مسحتْ يدها المبتلة بطرف فستانها ثم مدتْها إليه، بينما كانت دقاتُ قلبها تتسارعُ كطبولِ الحرب.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 17"