تزايدَ التَّرقُّب في الجوّ.
دخلت تشيريشي أوّلًا، وتبعها ماكسيميليان إلى داخل المطعم، حتى إنّه لم يتذكّر كيف انتهى به الأمر جالسًا إلى المائدة.
انهمرت عليه أفكارها الداخليّة كأنّها وابلٌ من الضربات.
[ألم يكن بإمكانه على الأقل أن يشتري لي نقانق في الاستراحة؟ والآن نحن ننتظر في الطابور أيضًا؟ من الأفضل أن يكون هذا المكان يستحقّ العناء. إن لم يكن كذلك، فأنت في عداد الأموات يا هذا.]
[نعم، يبدو أنّك جائع أيضًا. في المرّة القادمة سنتوقّف لشراء وجبات خفيفة، مفهوم؟ نونا ستهتم بك.]
حين عادت تشيريشي إلى الطابور في وقتٍ سابق، راود ماكسيميليان فجأةً سؤال: ما الذي يفعله أصلًا واقفًا هنا معها؟
ثمّ تذكّر.
‘آه! صحيح… ميستيكو!’
قد تكون هذه المرأة جاسوسة أرسلها الإمبراطور لتتجسّس على أراضيه السريّة.
وبينما كان نصفَ مبهورٍ بجاذبيّتها القويّة، تذكّر أخيرًا سبب مجيئه معها، وبدأ يُفعّل قدرته الخاصة.
ولكي يكشف هويّتها الحقيقيّة، كان عليه أن يسمع ما يدور فعلًا في قلبها. ومع ازدحام الناس من حولهما، كان قربها الجسديّ فرصةً مثاليّة.
ركّز ذهنه… لكنّ ما سمعه كان أبعد ما يكون عمّا توقّعه.
‘ما هذا؟’
شكّ مجددًا في قدرته. لا بدّ أنّها تعطّلت.
حدّق فيها بذهول، فرأى تشيريشي تبتسم بوجهٍ مشرقٍ مفعمٍ بالحيويّة.
‘مستحيل أن تكون قالت ذلك ووجهها على هذه الحال.’
كلّما نظر إلى ابتسامتها، ازداد يقينُه بأنّه لا يمكن أن تكون تلك أفكارها الحقيقيّة.
كان ماكسيميليان يقسّم الناس ــ بحُكم قدرته على سماع ما في قلوبهم ــ إلى نوعين:
من تتطابق أقوالهم مع دواخلهم، ومن تُخالف ظواهرهم بواطنهم.
معظمُ الفتيات النبيلات كنّ من الفئة الأولى، إذ لا يستطعن إخفاء إعجابهنّ به. كانت ابتساماتهنّ تفيضُ بمديحٍ خفيٍّ يُغذّي غروره.
أمّا أولئك الذين تخالف كلماتُهم قلوبَهم، فكنّ عادةً متملّقاتٍ يسعين لمصلحةٍ ما، ومع ذلك كانت الابتسامة على وجوههنّ تُظهر خضوعًا ينسجم ــ بطريقةٍ ما ــ مع نواياهنّ الحقيقيّة.
أمّا تشيريشي، فكانت من نوعٍ لم يختبره قطّ.
لم يسبق له أن رأى أحدًا يبتسم بتلك الابتسامة المثاليّة وهو يُخفي أفكارًا مناقضة تمامًا.
وحده ذلك التناقض كان كافيًا ليسلبه روحه. بل إنّه نسي تمامًا شكوكه بأنّها جاسوسة الإمبراطور.
في تلك اللحظة، جاء النادل يحمل القوائم.
تألّق وجهُ تشيريشي بتوقّعٍ مبهج، وأحسّ ماكسيميليان فجأةً بوخزةِ قلق.
قالت وهي تبتسم له برقة:
“ما أفضلُ ما لديكم هنا؟ هل يمكنك أن تُوصي بشيءٍ يا صاحبَ السموّ؟”
لكنّ صوتها الداخليّ ارتدّ في ذهنه كصدًى مخيف:
[سأنتظر لأرى إن كان هذا المطعم مذهلًا حقًّا. من الأفضل أن يكون كذلك. إن لم يكن، فأنت في عداد الأموات يا هذا.]
تردّد صدى الكلمات في رأسه كصدمةٍ نفسيّة.
“أه… هه… ماذا عن يخنةِ اللحم المطهوّ بعصير البرتقال مع الخضروات الموسميّة؟ إنها الطبقُ المميّز هنا.”
“أوه! يبدو لذيذًا. فلنختر ذلك إذًا.”
انكسر صوته من شدّة التوتّر، فتنحنح مُحرجًا.
وفي المقابل، كانت عينا تشيريشي تتلألآن بتوقّعٍ صادق ــ مجرّد فرحةِ انتظار وجبةٍ طيّبة.
راقبها ماكسيميليان بعناية، لكنّ قلقه لم يهدأ.
‘إن لم يكن يستحقّ، فأنت في عداد الأموات يا هذا…’
تكرّرت عبارتها في ذهنه، وحين تذكّر كيف صفعَت رجلًا قبل قليل، لم يستطع أن يأخذها باستخفاف.
لم يكن يظنّ أنّها قد تقتله فعلًا، لكنّ نبرتها كانت صادقة إلى حدٍّ مقلق.
خفق قلبه باضطراب.
قال بسرعةٍ وهو يُحاول التدارك:
“دعينا نطلب أيضًا المأكولات البحريّة المشويّة مع الأناناس… والدجاج المقليّ، وحساء السمك أيضًا ممتاز.”
اندفع بالتوصية على أطباقٍ إضافيّة مدفوعًا بالقلق، آمِلًا أن يُرضي ذوقها.
فهي ــ بحسب ما سمع من أفكارها سابقًا ــ كانت جائعة حقًّا.
كان الطلب كثيرًا على شخصين، لكنّه اعتبره كافيًا لإشباعها تمامًا.
“أيها النادل!”
رفع يده بإلحاح، وأملى الطلبات الأربع مع عصير جوز الهند الفوّار.
عندها فقط شعر ببعض الارتياح. ربّما ينال الآن شيئًا من المديح.
نظر سريعًا إلى وجهها، ويبدو أنّه في أمان، إذ بدت راضية عن الطلب.
ضحكت قائلةً: “أليس هذا أكثر من اللازم؟”
خفق قلبه بقوّة وهو يُركّز عليها. لابدّ أنّ الوقتَ قد حان الآن ليفيض قلبها بالثناء.
شدّ انتباهه وركّز قدرته.
[يا إلهي، لقد طلب كلّ هذا من أجلي! كم هو لطيف!]
[كنت أرغب بتجربة كلّ شيءٍ على أيّ حال! إنّه الأفضل!]
[مجرد النظر إليه يُشبعني، لكنّ الأكل سيزيد سعادتي. شكرًا لك يا صاحبَ السموّ!]
هكذا تخيّل ماكسيميليان المديح الذي اعتاد سماعه من سيدات الطبقة النبيلة.
لكنّ تشيريشي اكتفت بالنظر إليه بدهشةٍ صامتة.
كانت تتوقّع أن يطلب طبقًا واحدًا فقط، فإذا به يُمطر النادلَ بطلباتٍ متتالية.
[يا له من تبذيرٍ فاضح. كلّ طبقٍ مذكور أنّه يكفي لشخصين… أي أنّنا طلبنا ثمانية حصص كاملة؟]
من غير أن تدري، فكّرت كما اعتادت في حياتها السابقة.
فقد كانت حينها تُنفق نصف راتبها على خطّة ادّخار، ويكاد ما تبقّى لا يكفيها، فتبحث فقط عن مطاعم رخيصة مشبعة.
كانت حساباتها ذهنيّةً وسريعة كوميض.
صحيحٌ أنّ لديها الآن بطاقة دفعٍ بلا حدود من قِبل الماركيز ماركوليشيه، لكنّها ما زالت لا تطيق تبذير مال الآخرين.
‘يا لي من عقلٍ فقير! لا أستطيع حتى تقبّل الأشياء المجانيّة بسهولة.’
تنفّست ساهمةً في نفسها.
وفي المقابل، لم يصدّق ماكسيميليان أُذنيه.
[يا له من تبذيرٍ فاضح.]
‘تبذير… فاضح؟’
لم تكن العبارة مألوفة لديه، لكنّه أدرك فورًا أنّها ليست مديحًا.
تجمّد وجهه قبل أن يتمكّن من السيطرة على تعابيره، ونهض من مقعده.
“سأذهب إلى دورة المياه.”
“بالطبع.”
وبينما غاب، جلست تشيريشي تنتظر الطعام، تتأمّل ما حدث سابقًا.
‘هناك شيءٌ غير طبيعيّ.’
فعند لقائها بـ ييرينا وموريس، عادت إليها شظايا من ذكرياتٍ متزامنة.
وكان أكثرها غموضًا أنّها، في كلّ مرّة تراهم، تشعر بالخوف وتحاول الاختباء، ثمّ يحدث أمرٌ غريبٌ أشبه بزلزالٍ يهزّ المكان من حولها.
والأغرب أنّها كانت تشعر وكأنّها هي السبب فيه.
ورغم أنّ ذكرياتها اندمجت بذكريات الجسد الذي تسكنه الآن، إلّا أنّ هذا الجزء لم تستطع فهمه.
توالت الذكريات واحدةً تلو الأخرى:
في كلّ مرّة، ترتجف الأشياء وتسقط من حولها كما لو كان زلزالًا حقيقيًّا.
وكانت تشيريشي القديمة تخاف بشدّة، وتعاني من تأنيب الضمير كما لو كان ذنبها.
‘هل يُعقَل…؟’
تساءلت تشي يون جو إن كان أسلوب حياة تشيريشي الانعزاليّ مرتبطًا بتلك الظاهرة.
‘أنا… أُسبّب الزلازل؟’
ذلك لم يكن جزءًا من القصة الأصليّة… أو على الأقل، لا تتذكّر شيئًا من هذا القبيل.
ثمّ إنّ تشيريشي لم تكن سوى شخصيةٍ ثانويّة هامشيّة، فلم يُذكر عنها شيءٌ كهذا في العمل الأصليّ.
عضّت شفتها السفلى محاولةً ربط الخيوط، لكن دون جدوى.
بقي فقط ذلك الشعور المزعج، كما لو أنّ المرء خرج من الحمّام دون أن يمسح يديه.
وفي تلك اللحظة، عاد ماكسيميليان من دورة المياه.
ابتسمت له تشيريشي بعفويّةٍ حالما رأته ــ كغريزةِ المرؤوس حين يرى سيّده.
***
في الحمّام، كان ماكسيميليان قد رشّ وجهه بماءٍ باردٍ لعلّه يُصفّي ذهنه.
لم يعلم إن كان الألمُ من برودة الماء أم من وخزِ قلبه.
‘يا له من تبذيرٍ فاضح…؟’
رنّ صداها في أُذنيه كأنّها سخريةٌ قاسية.
انعكس وجهُه في المرآة ببرودٍ جليديّ، وصدره يعلو ويهبط دون أن يهدأ.
‘ما شأنُ هذه المرأة بالضبط؟’
لقد طلبت أن ترى ميستيكو، فظنّها جاسوسة الإمبراطور.
وحين حاول أكثر من مرّةٍ قراءة أفكارها ليتأكّد، كانت أفكارُها دومًا خارجةً عن المنطق.
حتى بدأ يشكّ فيما إذا كان من الصواب الاستمرار في الإصغاء.
‘لا أستطيع أن أسألها مباشرةً أيضًا.’
صحيحٌ أنّ بإمكانه سؤالها عن صِلتها بالإمبراطور، لكنّها لن تُجيبه بصدق.
مسح وجهه بمنشفةٍ جافة وأطلق زفرةً طويلة.
وبعد بضع أنفاسٍ عميقةٍ استعاد هدوءه، فعاد ليُواجهها مجددًا.
وفي المقابل، كانت تشيريشي، وقد رأته يعود، تسترجع هدفها الأخير:
‘ذلك الرجل يملك مفتاح موقعي في الإجازة.’
ولذلك، كانت تسير معه مؤقتًا لتحافظ على حسن علاقتها به.
‘انتظر… لماذا نحن هنا أصلًا؟”
وحين فكّرت في الأمر، وجدته غريبًا.
فحتى صباح ذلك اليوم، كانت تظنّ أنّها ستزور ميستيكو ثمّ تعود إلى العاصمة مع أسرتها.
لكن فجأةً، غادرت أسرتها من دونها، وها هي الآن ترافقه إلى مكانٍ يُدعى حديقة رانشر.
قال ماكسيميليان وهو يحدّق فيها:
“ماذا تعنين بلماذا؟ ألم تكوني أنتِ من أراد المجيءَ إلى هنا؟”
“حسنًا، نعم، لكن…”
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 15"