“هل تُبدين اهتمامًا بالأعمال؟”
“هاه؟ الأعمال؟”
“أجل، أعني من ذاك النوع الذي يكسب فيه المرء المال بنفسه.”
“لستُ أدري.”
(ما الذي جعله يسأل عن أمرٍ كهذا فجأة؟) تساءلت في نفسها وهي تحتسي القهوة بهدوء.
كان ماكسيميليان يُحدّق في تشيريشي، محاولًا أن يُنصت أكثر إلى ما يدور في خاطرها، غير أنّ ذهنها كان ساكنًا كسكون الخارج.
يا لها من امرأةٍ عصيّة على الفهم حقًّا.
كان واثقًا من أنّ قوّته الخارقة لا خلل فيها، لكنّ الغريب حقًّا كان هذه المرأة.
وقد كانت تشيريشي تنظر إليه هي الأخرى بنظرةٍ مريبة.
أن تجلس أمامه في هذا الصباح الباكر تحتسي القهوة معه… بدا وكأنّهما في موعد تعارفٍ رسمي.
كانت ترى أنّ عليها أن تُظهر له انطباعًا حسنًا قدر المستطاع كي ترى “ميستيكو”، ولهذا لبَّت دعوته بلُطفٍ لا أكثر.
‘متى ستُريني ذاك المكان يا تُرى؟’
تمتمت في داخلها بلهجةٍ ساخرة، فيما كانت ترسم على وجهها ابتسامةَ الخاضع، ومع ذلك كانت تشعر باختناقٍ داخلي.
الغاية أمام ناظريها، أمّا الرجل الذي يملك المفتاح فكلّ ما يفعله هو احتساء القهوة على مهل.
وما إن أنهى ماكسيميليان آخر رشفةٍ من فنجانه حتى دوّى في رأسه صوتها الخفيف الساخر، فابتسم وهو يضع الفنجان جانبًا.
لقد أدهشه صوتها ذاك الذي يختلف كليًّا عن ابتسامتها الراقية، وكان في غاية المكر.
‘أتقصدين بقولكِ <ذلك المكان> هو ميستيكو؟’
كان الموقف يبعث على الشكّ بلا ريب، إذ شعر أنّ وراء كلامها مقصدًا خفيًّا، لا محالة.
تظاهر بالجهل وسألها بنبرةٍ هادئة:
“هل هناك مكانٌ تودّين الذهاب إليه؟”
“هاه؟”
رفعت وجهها ونظرت إليه، فرأت يديه المتشابكتين على الطاولة، وقد أسند ذقنه فوقهما.
وجهه المائل قليلًا، وعيناه المرفوعتان نحوها، كانتا تحملان جاذبيةً طاغية جعلت وجهها يَحمَرّ.
خفق قلبها خفقانًا واضحًا أمام هجومه المفاجئ بسحر ملامحه، لكنها لم تُعر الأمر اهتمامًا كبيرًا.
فهي معتادةٌ على أن تُثار حماستها أمام الرجال الوسيمين، إذ كان ذلك من يوميّاتها.
لكنّها حاولت جهدها ألّا تنسى هدفها الأول، فدخولها هذه الجولة الثالثة من التقمّص لم يكن من أجل الإعجاب بالرجال.
“مكانٌ أودّ الذهاب إليه؟ طبعًا هناك…”
توقّفت لحظةً قبل أن تنطق باسم ميستيكو، إذ اعتقدت أنّه سيريها ذاك المكان لا محالة، ما دام الأمر صادرًا بأمرٍ من الإمبراطور نفسه. لذا ظنّت أنّه لا يقصد السؤال عن ذلك.
‘ذلك المكان بدا جميلًا أيضًا…’
وفجأةً، تذكّرت الكتيّب السياحي الذي رأته بالأمس في غرفة الضيافة.
كانت قد تصفّحته من باب الملل، وتذكّرت معلمًا سياحيًّا ترك فيها أثرًا.
‘ما كان اسمه؟ كان فيه جبلٌ شامخ، أليس كذلك؟’
مرّت في ذهنها صورة حديقةٍ مترامية الأطراف من جبالٍ وغاباتٍ، بدت كأنها مأخوذة من مواقع تصوير أفلامٍ ضخمة.
وقد خطَر ببالها أنها لو امتلكت وقتًا أطول، لَزارت ذاك المكان.
كانت تحاول تذكّر اسمه حين بادرها ماكسيميليان قائلًا:
“هل سبق لكِ أن زرتِ «حديقة كويلو رانتشر»؟ إنّه الجبل الوحيد في الجنوب، وتُشكّل مناظره ترفيهًا بصريًّا يختلف كليًّا عمّا في هذه الجهة.”
“آه! نعم، أعتقد أنّه هو! المكان الذي يُقال إنّ الجبل فيه يشبه مخلبَ تنّين، أليس كذلك؟”
“إن أردتِ التحقّق من ذلك، فلنذهب ونراه بأعيننا.”
“أوه!”
[يا له من لبق!]
أُعجبت تشيريشي بلُطفه وتفكيره السريع، فامتدحت في نفسها تصرّفه.
‘لبق؟’
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي ماكسيميليان حين التقط في خاطرها تلك الكلمة.
‘لحظة، ألم يكن هناك ما أردتُ أن أتحقّق منه عندما ألقاها؟’
اختفى أثر ابتسامته فجأة، وشدّ وجهه بتفكيرٍ عميق.
فالحقيقة أنّه أراد لقاءها منفردًا ليفهم مراد الإمبراطور منها، ولمعرفة ما إذا كانت قوّته الخارقة قد اختلّت.
لكن النتيجة كانت واضحة: قوّته تعمل على أكمل وجه.
ولم يبقَ له سوى أن يتأكّد مما إذا كانت هذه المرأة جاسوسة أرسلها الإمبراطور أم لا.
كان هذا كلّ ما عليه فعله… لكن—
“حسنًا، هل يجب علينا أن نذهب إذن؟”
“لِمَ لا؟”
لم يعلم كيف انتهى به الأمر يقتادها إلى “حديقة رانتشر”!
“ما رأيكِ أن نتناول الطعام هناك؟ أعرف مكانًا يُقدّم أطباقًا شهية.”
“إنني أتطلّع إلى ذلك!”
حتى الترويج للمطعم تكفّل به بنفسه…
لم يكن ماكسيميليان يدرك لِمَ يفعل ما يفعل، إذ بينما كانت خطوات الحصان تُدقّ على الطريق نحو “حديقة رانتشر”، ظلّ ذهنه يهمس:
‘هذا ليس ما جئتُ لأجله…’
لكنّ جسده كان قد سبق قراره وركب العربة معها بالفعل.
‘حسنًا، سأكتشف ما أريد معرفته في الطريق إليها…’
كان يُهوِّن على نفسه الأمر، ظانًّا أنّ معرفة حقيقة كونها جاسوسة لن تحتاج إلى جهد.
فهو قادر على سماع أفكار الآخرين، وما عليه سوى منح نفسه قليلًا من الوقت.
لم يكن في عجلةٍ من أمره، وزيارةٌ قصيرةٌ إلى الحديقة لن تُضِرّ.
وهكذا، اعتلَيا العربة سويًّا.
***
وما إن جلست تشيريشي داخل العربة، حتى أذهلها فخامتها واتّساعها.
بدت لها كأنّها نسخة من سيارات الليموزين الفاخرة في عالمها السابق.
صعد الدوق أولًا، ثم دخلت هي مسرعةً تُلقي نظرةً خاطفةً على الداخل لتختار مقعدها.
كان المكان واسعًا، فاختارت المقعد الأبعد عن الدوق دون تفكيرٍ طويل.
لم يكن في الأمر قصدٌ سوى أنها لم تشعر بعدُ بأيّ أُلفةٍ نحوه.
ورغم ابتسامتها اللطيفة، إلا أنّها لم تكن سوى ابتسامة اضطرارية لرجلٍ كان هو مالك “ميستيكو”، لا أكثر.
جلست خلف السائق مباشرةً، وفتحت النافذة فورًا لتُشاهد المناظر.
‘إنها رحلةٌ لن تتكرّر في حياتي أبدًا. سأحفر كلّ مشهدٍ في ذاكرتي!’
لم يكن بوسعها التقاط الصور، ولن تسنح لها فرصة العودة إلى هذا المكان.
أرادت أن تنقش كل لحظةٍ في ذهنها، حتى كادت تنسى وجود الدوق بجوارها.
كان ماكسيميليان قد جلس أولًا، وأشار إليها بعينيه أن تجلس بجانبه بابتسامةٍ لطيفة.
لكنها بعد أن مسحت المكان بعينيها، اتجهت مباشرةً إلى المقعد الأبعد— خلف السائق!
“أوه… أأنتِ…”
لم يُكمل دعوته لها لتغيير مقعدها حتى فتحت النافذة دون أن تُلقي عليه نظرةً واحدة.
تجمّد في مكانه للحظة.
لقد ركب في عربته كثيرون من قبل، لكن لم تجلس أيّ سيّدةٍ في ذاك الركن المخصص عادةً لمن لا يجد موضعًا آخر.
كانت تلك الزاوية أبعد ما يمكن حتى إنّ الصوت لا يصل بسهولة إليها.
شعر للمرّة الأولى أنّ عربته الفخمة الواسعة باتت بلا فائدة.
“آنسة…”
ناداها ثانيةً ليُقنعها بالجلوس في مكانٍ أقرب، لكنّ صوته غرق في ضوضاء الطريق القادمة من النافذة المفتوحة.
أضعفه ذلك، وأحسّ بالحرج يغمره.
نظر إليها بنظرةٍ متردّدة، وأحسّ أنّه أمام امرأة تختلف كليًّا عن جميع من عرف.
تنفّس بعمقٍ واتكأ للخلف، عاقدًا ذراعيه.
‘لا بأس، لا بدّ أنها ستنظر نحوي ولو مرة.’
قرر أن ينتظر.
حين تلتقي عيناهما، سيتمكّن من بدء حديثٍ معها، ومنه سيكتشف كل ما يريد عن علاقتها بالإمبراطور.
كان بإمكانه أن ينهض ويجلس بقربها، لكنه لم يشأ أن يُضعف كبرياءه إلى ذلك الحد.
مرّ الوقت ببطء، وبينما كان ماكسيميليان يضطرب في داخله، كانت تشيريشي مستغرقةً في التمتّع بالمشهد من النافذة.
ما إن فتحتها حتى اندفعت رائحة الجنوب المميّزة تعبق الأجواء.
‘الآن هذه هي الرحلة الحقيقية!’
انبهرت وتنهّدت من الإعجاب.
كانت ليلة الإقامة في منزل الماركيز ثم في قصر الدوق تُشبه إجازةً فاخرة، لكنّ الرحلة الحقيقية بدأت الآن.
‘يا لروعة المنظر!’
كانت عيناها تتلألآن دهشةً، رغم أنّها في هذه الجولة الثالثة من التقمّص، إلا أنّها لم تكفّ عن الاندهاش.
في العاصمة، كان كل شيءٍ نظيفًا ومنظّمًا، لكنّ المشهد متشابه.
أما الجنوب فكان مختلفًا تمامًا.
حتى في رواية زهرة السيدة النبيلة لم يُذكر أنّ الجنوب يفيض بهذه الأجواء الساحرة.
لم يكن ضمن خطتها أن تسافر، لكنّ انطلاق العربة على الطريق جعل قلبها يرفرف حماسًا.
أسندت ذقنها إلى ذراعيها الملتفتتين على النافذة، تتأمّل الأفق الممتدّ حتى ظهرت لمحة البحر.
‘آه، يا للسلام… يا للشفاء…’
غمرها شعورٌ بالامتنان.
لقد كانت حياتها السابقة سلسلة من العمل الدؤوب والادّخار الهوسي لأجل شقّةٍ صغيرة.
والآن، فكّرت أنّها حين تعود إلى عالمها، ستمنح نفسها فترات استراحةٍ كهذه دون إسراف.
‘يا للأسف…’
خالط شعورها بعض الحزن.
كان مؤلمًا أن تفكّر أنّها لن ترى هذه المناظر ثانيةً.
تأمّلت أكثر في الأفق، علّها تحفظه في ذاكرتها ما استطاعت.
وفجأةً خطَر ببالها:
‘آه، صحيح! كنتُ مع الدوق، أليس كذلك؟’
لقد تناست وجوده تمامًا في غمرة استغراقها بالجمال من حولها.
التفتت سريعًا نحو مقعده، فرأته جالسًا بعيدًا مغمض العينين.
‘نائم؟’
همهمت في نفسها وهي تبتسم بخفة.
فلا عجب إن ساد الصمت إذن.
وحالما تأكّدت من أنّه نائم، سمحت لنفسها بأن تُطيل النظر في ملامحه.
كانت المناظر الطبيعية فاتنة، لكنّ وجهه الوسيم لم يكن أقلّ إغراءً للنظر.
ثمّ إنّها كانت من هواة الجمال أصلًا؛ أوَ لم تتقمّص هذا العالم أصلًا لتُعاين شخصيات الرواية الوسيمين؟ تمامًا كما فعلت في جولتها الثانية.
‘يا لروعة هذا الوجه… إنه غير واقعي.’
في الروايات، يُغدق الكتّاب الجمال على أبطالهم عن قصد، لكنّ ماكسيميليان كان يفوق جميعهم جمالًا وقوّة حضور.
‘إنه جمالٌ يُؤسف أن أكون الوحيدة التي تراه…’
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"