لم يَذُق ماكسيميليان طعمَ النوم طوال الليل، وكان يحدِّق في الصحيفة بعينين غائرتين.
عبرت الحروفُ الكبيرة في الصفحة أمام ناظريه، غير أنّ مضمونها لم يَثبُت في رأسه. ارتشف قليلًا من القهوة يُهدِّئ بها ما يَعتصر صدره من ألمٍ مرير.
‘لا، لا بدّ أنّ هذا خطأ… لا يمكن أن يكون صحيحًا، نعم، هذا ما حدث بلا شك…’
كانت أحداث الليلة الماضية كالكابوس الذي يودّ محوه من ذاكرته. لم تكن سوى شخصٍ واحدٍ فحسب، ومع ذلك فإنّ مجرّد وجود من يراه بتلك الصورة جعله يشعر بالضيق والاشمئزاز.
أحسّ أنّه لن يهنأ بنومٍ هذه الليلة أيضًا إن لم يتأكّد أنّ الصوت الذي سمعه في أعماق قلبها لم يكن حقيقيًّا. وبينما كان يرتشف القهوة بشفاهٍ متورّمة قليلًا من الإرهاق، ظهرت تشيريشي.
“هل انتظرتَ طويلًا؟ أنا تشيريشي ليلشتاين، يا سمو الدوق.”
“آه! لقد جئتِ؟”
رفع عينيه إليها من غير أن ينهض من مقعده، ونظر إليها نظرةً فاحصة. بدا له ابتسامُها المصطنع المتكلّف كريهًا إلى حدٍّ بالغ.
“تفضّلي بالجلوس.”
أشار بعينيه إلى المقعد المقابل له، فجلست حيث أشار. لم يحدث شيء غير مألوف بعد. ابتسم راضيًا وقال لها:
“يبدو أنّي دعوتكِ في وقتٍ مبكرٍ من الصباح. هل تناولتِ فطوركِ؟”
“لا.”
“يا للأسف، ليتنا التقينا في المطعم إذن.”
“لا بأس.”
كانت تلك مجرّد مجاملة، وقد أعدّ في ذهنه أن يدعوها إلى مطعمٍ فاخرٍ على الغداء. لكن حينها، دوّى صوت تشيريشي في أذنه… صوتها الداخلي.
[أما كان أولى أن نلتقي في مكانٍ يُقدَّم فيه الخبزُ على الأقل؟]
تجمّدَت يده وهي تمسك بفنجان القهوة. توقّف في منتصف الهواء ونظر إلى وجهها.
كانت ما تزال تبتسم بالابتسامة ذاتها، تلك التي لا يمكن أن تخرج عنها مثل تلك الكلمات. شعر بدقّات قلبه تتسارع، وارتجفت يده التي تمسك بالفنجان.
أحدث صوتُ اهتزاز الفنجان على الصحن طنينًا خافتًا جعله يصرف النظر عن الشرب.
“لنطلب الشاي إذن.”
خرج صوته مبحوحًا بعض الشيء، وناولها قائمةَ المشروبات. خفضت رأسها تتفحّص القائمة، وحجبها الورق عن ناظريه، فلم يعرف ملامح وجهها في تلك اللحظة.
حلّ صمتٌ مهيب، كان بالنسبة لماكسيميليان وقتًا مباركًا، إذ أحسّ أنّ خفقان قلبه قد بدأ يهدأ. غير أنّه ما كاد يطمئنّ حتى سمع مجدّدًا صوت تشيريشي في أعماق أذنه:
[يا للغلاء الفاحش! لا بدّ أنّنا في منتجع سياحي!]
صرّت مفاصل أصابعه من شدّة انقباض قبضته. لم يصدّق أُذُنيه.
‘غلاء فاحش؟ بأيّ وجه؟!’
أراد أن يخفي اضطرابه، لكن عضلات وجهه لم تُطِعه. ولحُسن الحظّ أنّها ما زالت منحنية الرأس، تتأمّل القائمة كأنّها في غمار تفكيرٍ عميق.
كان الطابق الأوّل من المقهى ملكًا له كما القصر ذاته، ولم يحدُث أن رأى أسعار مشروباته باهظة يومًا. بل عادةً ما كانت النساء اللواتي يجلسن أمامه يَخطر في أذهانهنّ أشياء من قبيل:
[يا إلهي، قلبي يكاد يقفز من صدري!]
[هل أطلب الشيء نفسه الذي طلبه الدوق؟ لعلّنا نتشارك الذوق ذاته.]
[ليتني كنتُ قهوةً في فنجانه، أدور تحت ملعقته برِقّة…]
وكان هو، حين يسمع تلك الخواطر، يبتسم ابتسامته الناعسة المألوفة، ثمّ يوصيهنّ بتجربة قهوة المقهى المميّزة أو يبدأ بالحديث عن كيفية استيراد أوراق الشاي النادرة، فيأسر ألبابهنّ كليًّا.
لكنّ اليوم مختلف. فالذي تُسلب روحُه الآن هو هو نفسُه.
ظلّ يحدّق في قمة رأسها ذات الشعر الزهريّ المصقول، متسائلًا: كيف يمكن لمثل هذا الرأس الصغير تحت تلك الخصلات المرتّبة أن يُنتِج مثل هذه الأفكار؟ أخذ يشكّ في قدرته مجدّدًا.
‘هل تعطّلت قواي؟ ما الذي يحدث لي؟’
أخذ يتلفّت حوله متسائلًا إن كان ما سمعه ليس من ذهنها بل من أحدٍ آخر. لكن المقهى كان شبه خالٍ في هذا الوقت المبكر، ولم يكن أحد قريبًا بما يكفي.
كانت قدرته على سماع أفكار الآخرين لا تتعدّى شعاع مترين. أبعد من ذلك، يبهت الصوت حتى يكاد يختفي. أي إنّ الأفكار القريبة يسمعها بوضوح، أمّا البعيدة فخافتة جدًا.
ولهذا كان معتادًا على الاقتراب من النساء أكثر من اللازم، إذ يظنّ أنّه بذلك يُصغي أفضل إلى أصوات قلوبهنّ، بينما كانت أولئك النسوة يَعتبرن قربه المفاجئ لحظةً تُزلزل أفئدتهنّ.
حاول ماكسيميليان أن يُنكر ما سمعه للتوّ، وضغط بخفّة على القائمة التي كانت تُمسكها لتعود وتنبسط على الطاولة، كاشفًا وجهَها. كانت تحدّق فيه بعينيها الكرزيّتين المتألّقتين.
“هل لي أن أُرشِّح لكِ نوعًا إن وجدتِ صعوبةً في الاختيار؟”
“آه، بالطبع.”
في الحقيقة، كانت متردّدة بين طلب القهوة الأغلى ثمنًا أو العدول عنها. فقد كان الإمبراطوريّة ميروزين تستعمل العملة ذاتها كما في الرواية الثانية التي تَقمّصت فيها، وأسعارها متقاربة.
‘أحسنتِ، تشيريشي! اختيار تلك الرواية كان صائبًا حقًّا.’
إذ إنّ رواية الطريق الإمبراطوريّ الذهبيّ كانت نسخةً مطوَّرة من طريق الزهرة للأميرة، فبدت لها العالمان كأنّهما مملكة واحدة تقريبًا.
أمّا ماكسيميليان فلم يكن ليستطيع قراءة هذا القدر من أفكارها، إذ إنّه حين يغوص في تفكيره الخاص يفقد قدرته على سماع الآخرين.
كانت قوّته لا تعمل إلّا في حدود مترين حوله، حين يُركّز وعيه تمامًا. أمّا إن غفل أو شرد ذهنه، فلن يسمع شيئًا ولو كان المتحدَّث على بعد شبرٍ منه.
وبعد أن هدّأ نبضه المتسارع، عرض عليها أن يختار لها نوع القهوة. وكان قد نوى أن يوصيها بتجربة القهوة المميّزة التي يشربها هو الآن.
“هل لكِ ذوقٌ معيّن؟”
“لا.”
“إذن جربي ما أُوصي به. نكهةٌ فريدة لن تجدي مثلها في هيتيس.”
“حسنًا، فلنجربها.”
هيتيس هو اسم العاصمة. أشار بأصبعه للنادل، فتقدّم يأخذ الطلب. وكانت القهوة ذاتها التي تمتمت تشيريشي في سرّها بأنها باهظة الثمن.
‘كيف يمكن أن يبلغ سعر القهوة ثمنَ قطعةِ لحمٍ مشويّ؟ يا للعجب!’
كانت تلك الفكرة سبب تردّدها في الطلب. ففي حياتها السابقة، كانت تقتصد في كل شيء ولا تشتري سوى قهوةٍ باردةٍ من العلامات الرخيصة.
ولذا، حين جاء وقت أن تدفع هي بنفسها ثمن القهوة، وجدت نفسها متردّدة: هل يستحقّ الأمر كل هذا المبلغ؟
‘ها قد قدّموا لي كل شيء، ومع ذلك لا أستطيع التمتّع به.’
لم تتوقّع أن يكون التخلّي عن عاداتها الاستهلاكيّة القديمة أمرًا بهذا الصعوبة. تنفّست بحسرةٍ على نفسها، وذلك ما جعلها تغرق طويلًا في النظر إلى القائمة. وكأنّ ماكسيميليان قرأ أفكارها تمامًا، إذ طلب لها القهوة الأغلى في المقهى.
بعد قليلٍ جاءت القهوة، فحدّقت فيها كما لو كانت تحدّق في طبقِ ستيكٍ فخم، وابتلعت ريقها ببطء.
كان عبيرٌ لطيف من الفواكه الاستوائيّة يتسلّل من الفنجان، ممزوجًا بعطر القهوة المرّ في توليفةٍ غريبةٍ فاتنة.
رفعت الفنجان بحذرٍ وتذوّقت رشفة. حتّى الكوب نفسه، بزخارفه الذهبية الدقيقة، كان مدهشًا في فخامته.
‘يا للعجب! كيف يمكن لقهوة أن تحمل طعمًا بهذا الثراء؟’
لقد كان طعمًا يُوقظ الحواسّ. مزيجٌ من النكهة الغنية المائلة إلى المرارة، والعطر الفاكهيّ الرقيق، والملمس الحريريّ الذي ينساب على اللسان برقةٍ مترفة. لم يسبق لها أن ذاقت شيئًا كهذا. ولم تكن يومًا تشرب القهوة إلا باردة، ومع ذلك فإنّ رشفةً واحدة من هذه القهوة الدافئة جعلت صدرها ينشرح كأنّه انفتح على نسمةٍ عليلة.
رفعت رأسها تنظر إلى الدوق ماكسيميليان الذي أوصى لها بها. كان طرفُ فمه مرفوعًا بابتسامةٍ راضية.
وحين رأى الدهشةَ في عينيها، استعاد أخيرًا سكينته، لأنّ ردّ فعلها كان كذاك الذي اعتاد عليه من سائر السيدات.
[لو أُصبحتُ زوجةَ الدوق، لشربتُ مثل هذه القهوة كلّ يوم، يا لَلسعادة!]
[إنّه طعمٌ ساحر… تمامًا مثله، مرٌّ وعطرٌ في آنٍ واحد، يُذيب القلب…]
[أشعر أنّني سأُدمنه… لا، بل سأُدمنك أنت!]
كان يتوقّع أن يسمع مثل تلك العبارات المعتادة بعد كلّ رشفة.
كان يستمتع أشدّ الاستمتاع حين تتحوّل ثناؤهنّ من القهوة إلى شخصه هو. لم يشكّ لحظةً أنّ في خاطر تشيريشي الآن إطراءً كهذا أيضًا.
لكن بدلًا من ذلك، سمع:
[واو! لو فتحتُ مقهًى بهذه الوصفة لحقّقتُ ثروة!]
“كحح! كحح!”
كاد ماكسيميليان أن يبصق القهوة التي في فمه، فابتلعها بعجلةٍ، لتصدم حلقه وتثير سعاله حتى لسعت حرارتها أنفه.
“أوه، هل أنت بخير؟”
ناولته منديلاً بقلق، فمسح فمه ووضع الفنجان على الصحن بصوتٍ مرتفعٍ مزعج.
‘هل تنوي سرقة الوصفة؟!’
ارتعشت يده التي تمسك بالمنديل. لم يحدُث أن قالَت له إحدى السيدات مثل هذا قطّ. ففتياتُ النبلاء في الإمبراطوريّة كلهنّ من بيوتٍ ثريّة، لا يشغلهنّ سوى الزواج وشؤون الغرام. أما فكرة كسب المال فتكاد تكون غريبةً عليهنّ.
لكن تشيريشي لم تكن تقصد ذلك مطلقًا؛ كانت تفكّر فحسب أنّها لو عادت إلى حياتها السابقة وافتتحت مقهًى بهذه الوصفة لحقّقت نجاحًا باهرًا. غير أنّ ماكسيميليان لم يسمعها بذلك المعنى، وهنا بدأت المشكلة.
وبينما كان يمسح ما تناثر من القهوة على الطاولة بالمنديل، نظر إليها وسألها —
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"