بدأت بيلاتريشيه بقراءة الرسالة بوجهٍ يملؤه الاستغراب.
كان في الرسالة ما يفيد بأن الدوق ماكسيميليان نفسه سيتكفّل بإرشادهم في جولتهم داخل الدوقية.
غير أنّ اسم ميستيكو لم يُذكر فيها إطلاقًا. والمشكلة أنّ الشخص الذي أراد الدوق أن يرافقه هو تشيريشي ليلaتاين وحدها، دون أن يُبيَّن أي سببٍ لذلك.
“هل يقصد أن يُرشد تشيريشي وحدها؟”
“يبدو أنّ هذا ما فهمتِه أنتِ أيضًا.”
“وأنتَ فهمت الأمر هكذا؟”
“نعم.”
أومأ الماركيز ماركوليشيه برأسٍ مثقل بالهمّ.
نادته بيلاتريشيه بصوتٍ يفيض بالقلق.
“عزيزي…”
كان وجه الماركيز شبيهًا بوجهها، يغشاه القلق ذاته الذي احتلّ عقليهما معًا.
“هل يُمكن أن يكون الدوق ماكسيميليان قد أبدى اهتمامًا بابنتنا تشيريشي؟”
عندها طفت إلى سطح ذهنيهما الشائعات التي سمعاها عن ماكسيميليان.
فعلى الرغم من أنه يعيش في الجنوب، إلّا أنّ سمعته بلغت العاصمة منذ زمن.
كان مشهورًا بكونه يفتن الفتيات دون أن يرتبط بأيٍّ منهن، ولهذا عُدّ عدوًّا مشتركًا لجميع الآباء والأمهات تقريبًا، غير أنّه كان استثناءً عند هذه الأسرة.
“ربّما ينبغي أن نفرح إن أبدى اهتمامه بها؟”
“حين أفكر بتشيريشي… فربّما يجب ذلك.”
أجاب الماركيز بنبرةٍ هادئة. فمنذ أن فسخت تشيريشي خطوبتها من موريس، بدأت تظهر لديها قُوى خارقة، وأخذت بعدها تُبدي هوسًا بفكرة الزواج.
كانت في الحادية والعشرين من عمرها، وهو سنٌّ يُعدّ صغيرًا بعض الشيء للزواج، لكنها تصرّفت وكأن الزواج هو الغاية الوحيدة من حياتها، راغبةً دومًا في مغادرة القصر لتتزوج.
بدت كمن يظنّ أن الزواج سيُخفي قواها الخارقة.
لم يكن واضحًا ما إذا كانت تسعى إلى الزواج لتُخفي قدراتها، أم لتنتقم من موريس ويرينا، لكنّ الماركيز بذل قصارى جهده لتزويج ابنته.
ورغم أنّه كان يتساءل في قرارة نفسه: هل حقًّا من الصواب أن أُرسل ابنتي إلى الزواج هكذا؟
إلّا أنه لم يكن يملك خيارًا آخر، فهي لم تكن تُغادر غرفتها إلا عند لقاءات الخطّاب.
بعد فشل اللقاء الأول، استمرّ الماركيز وزوجته في ترتيب لقاءاتٍ أخرى.
لكن بعد أن رُفضت مرتين متتاليتين، صار من الصعب العثور على خطّابٍ جدد في الوقت الحالي.
وفي حين كان من المتوقع أن تعود تشيريشي إلى عزلتها في غرفتها، فوجئ الزوجان بابنتهما تخرج فجأة وتُعلن رغبتها في السفر.
شعرا بالدهشة من هذا التحوّل المفاجئ، لكنّهما لم يُظهرا فضولهما خوفًا من أن تُغلق على نفسها من جديد إن أحسّت بضغطهما.
“ما رأيك، ألن يكون جميلًا لو أنها توطدت علاقتها بالدوق هذه المرّة؟”
“ما الذي تقولينه؟!”
صرخ الماركيز بوجهٍ احمرّ من الغضب.
فهو يعلم تمامًا أنّ ماكسيميليان ليس رجلًا جادًّا في أمور الزواج، بل مجرد رجلٍ يلهو بقلوب النساء.
خشي أن تُصاب تشيريشي بالأذى إن تورّطت معه.
لم يفكّر هو ولا زوجته قطّ في فكرة زواجٍ عن حبّ، لا سيّما بعد إخفاقاتها السابقة، لكنّ فكرةً صغيرة أخذت تلوح في ذهن المركيز: ألا يُمكن أن تكون ابنتي استثناءً؟
ورغم صوته العالي ووجنتيه المحمرّتين، إلا أنّ شيئًا في تصرّف الدوق بدا غريبًا له، فها هو من بادر بنفسه إلى عرض الإرشاد.
“همم، ربما تكون فرصة جيدة…”
“أليس كذلك؟”
قالت بيلاتريشيه بعينين تلمعان بالأمل.
“فلنفكّر بالأمر بإيجابية.”
“نعم، فلنفعل يا عزيزتي.”
تبادل الزوجان نظراتٍ فيها عزمٌ خفي.
وفي تلك الأثناء، كانت تشيريشي…
***
“آه، يا له من نومٍ عميق!”
تمدّدت وهي تتثاءب بارتياح.
هل لأن السرير مريح؟ أشعر أني نمت أفضل من نومي في البيت.
نظرت بإعجابٍ إلى السرير الفخم الذي نهضت عنه.
وحين فتحت باب الشرفة وخرجت، لامست أنفها نسمة الصباح النقيّة التي ملأت صدرها انتعاشًا.
رائحة البحر… جميلة فعلًا.
تنفّست بعمقٍ وهي تُحدّق في الأفق حيث يمتدّ البحر أمامها، فأحسّت بالهواء ينساب في جسدها حتى أطرافها.
كان صوت الأمواج المتواتر يهدّئ اضطرابها الداخلي ويمنحها سكينةً مهيبة.
كم هو مريح هذا الهدوء…
لكنّ خاطرًا حزينًا سرعان ما تسلّل إلى نفسها: هذه السعادة لن تدوم طويلًا.
أحسّت بشيءٍ من الكآبة إذ بدأت الرحلة تقترب من نهايتها.
من المؤسف ألا أحتفظ ولو بصورة واحدة كذكرى. فهي تعلم أن العودة إلى الواقع ستكون قاسية، وكلّما كانت الرحلة أجمل، كان أثرها الأشدّ مرارة بعد انتهائها.
ماذا لو رأيت ميستيكو ولم أرغب في العودة بعدها؟
ضحكت بخفةٍ على أفكارها تلك. وفي تلك اللحظة، طرق أحدهم الباب.
فتحته، فإذا بخادمٍ يحمل صينيةً عليها ظرفٌ أبيض. أخذته على عجلٍ وفتحت الخطاب لتقرأ:
[إلى الآنسة تشيريشي ليلشتاين،
نرحّب بقدومك إلى نوطوباي،
ويسرّني، تعبيرًا عن ترحيبي، أن أُرافقك بنفسي في جولةٍ داخل الدوقية.]
كان محتوى الرسالة بسيطًا للغاية. الدوق يُريد أن يكون دليلها الشخصي.
لكن لماذا؟ تساءلت وهي تُميل رأسها.
أعادت قراءة السطور القصيرة، فلم تجد فيها كلمة ميستيكو إطلاقًا.
شعرت بأنّ في الأمر شيئًا مريبًا.
‘ما هذا؟ أهو يحاول أن يُخفي ميستيكو عني بحيلةٍ ما؟’
تملّكها الغضب. بدا لها وكأنهم يحاولون خداعها وإرضاءها بجولةٍ بديلة.
‘ألم يقولوا إنّ هذه بعثةٌ بطلبٍ من الإمبراطور؟ ما الذي يحدث هنا؟’
انطلقت مسرعةً إلى الغرفة التي ينزل فيها والداها، وكانت قريبة من غرفتها.
وما إن فتحت الباب حتى فوجئت بالمشهد أمامها.
كانا يحزمان أمتعتهما.
“تشيريشي! جئتِ؟”
رحّب بها والدها بابتسامةٍ متكلّفة، بينما استقامت والدتها من انحنائها وقالت بابتسامةٍ مشابهة: “هل تناولتِ فطوركِ يا عزيزتي؟”
“ما هذه الحقائب كلّها؟”
سألت وهي تنظر إليها بشكّ.
اقتربت والدتها منها خطوة وقالت:
“لقد تلقّى والدك رسالةً تفيد بأن لديه أمرًا عاجلًا، علينا العودة فورًا.”
“ماذا؟”
“سنعود قبلك يا صغيرتي.”
اقترب والدها منها أيضًا وقال:
“أنتِ تعلمين أنّ جدول هذه الرحلة كان مزدحمًا بعض الشيء. ونحن مضطران للعودة، لكنّكِ تلقيتِ رسالةً من الدوق، أليس كذلك؟”
“ن… نعم، ولكن…”
تلعثمت وهي تجيب، إذ بدأت تفهم أنّ تلك الرسالة كانت تمهيدًا لما يجري الآن.
هل يعقل أنهما سيغادران ويتركانني هنا وحدي في الجنوب؟
شعرت بالخوف يجتاحها.
لا يمكن! إن لم أعد إلى البيت، فلن أستطيع العودة إلى حياتي الأصلية!
قالت على عجلٍ: “لا، لا يمكن!”
ربّت الماركيز على كتف ابنته وقال بلطف:
“الدوق سيتولّى الإرشاد بنفسه، فاطمئنّي واستمتعي بوقتك.”
“ماذا؟”
وانضمّت إليه زوجته وهي تُخرج بطاقةً سوداء ناولتها لابنتها.
عرفت تشيريشي ما هي فورًا — بطاقة الدفع الخاصة بالمقاطعة، والتي كانت تستعملها كثيرًا في تجربتها الثانية.
“لا تقلقي بشأن المال. اشتري كل ما تحتاجينه.”
“لكن…”
“سنرسل عربةً لتعيدك بعد انتهاء الرحلة، فلا تقلقي.”
كانت كلماته الأخيرة كفيلة بإخماد احتجاجها، لكنها لم تستطع كبح قلقها تمامًا.
فكّرت قليلًا… كل شيءٍ كان يجري كما كانت تتمنّى في البداية:
أن تسافر وحدها، أن تُحلّ مسألة المال والعودة، حتى الدليل الشخصي صار هو الدوق نفسه.
“الدوق سيتكفّل بإرشادكِ جيدًا.”
في الظاهر، كان الأمر مثاليًا.
لكن لماذا أشعر بهذا القلق؟
كان كل شيء يسير كما تشتهي، ومع ذلك انتابها شعورٌ غامض بالريبة.
“يبدو أننا انتهينا من التحضير، فلننطلق.”
“نعم، لنفعل.”
قال الزوجان وهما يلتقطان حقائبهما.
إذن، هكذا تكون النهاية؟
أحسّت بمشاعر متناقضة؛ فرِحةٌ وحزينة، مطمئنةٌ ومضطربة في آنٍ واحد.
“تشيريشي، الدوق ينتظركِ في مقهى الطابق الأول، اذهبي إليه.”
لم تجد بُدًّا من الامتثال، فنزلت إلى الطابق الأول.
***
يا إلهي، ما الذي يحدث حقًّا؟
تمتمت وهي تمشي نحو المقهى، تعلو وجهها علامات الحيرة.
كان شعورها وكأن مسرحيةً انتهت لتبدأ أخرى فجأة.
أمرٌ مريب… مريب فعلًا.
كلّ شيءٍ يسير كما خُطّط له، ومع ذلك يُخيَّل إليها أنّ التعاسة تتربّص بها عند المنعطف التالي. لكن ما من شيءٍ بوسعها فعله الآن.
دخلت المقهى حيث يُفترض أن ينتظرها الدوق. كان القصر أشبه بفندقٍ ضخم، وفي طابقه الأول ردهةٌ فسيحة ومقهى وبعض المرافق الأخرى.
وكان المقهى ينسجم تمامًا مع التصميم الداخلي للقصر — طابعٌ عصريّ أنيق بالأبيض والأسود جعلها تتردّد لحظةً: أهي في عالم الرواية، أم في مقهى فاخر من عالمها الحقيقي؟
سرعان ما وقع بصرها عليه.
ها هو هناك.
كان يجلس في ركنٍ مطلٍّ على أجمل المناظر، ساقاه الطويلتان متشابكتان، يقرأ الصحيفة بوقارٍ تام.
انبعث منه هدوء النخبة الذين لا ينقصهم شيء.
ابتلعت لعابها لا إراديًّا.
كيف يمكن لرجلٍ أن يكون بهذا القدر من الوسامة منذ الصباح؟
حقًّا، إنه تجسيدٌ حيٌّ لسمعة “لعوب الجنوب”.
اهدئي يا تشيريشي، هو يفعل هذا بناءً على أمر الإمبراطور ماريون فحسب، لا أكثر.
أقنعت نفسها بذلك، محاولةً كبح خفقان قلبها. لا مفرّ من مواجهته، فبدونه لن أرى ميستيكو.
وبما أنّ زمام الأمر بيده، رسمت على وجهها ابتسامةً ودودة وتقدّمت نحوه.
“هل انتظرتَ طويلًا؟ أنا تشيريشي ليلشتاين، يا صاحب السمو الدوق.”
رفع رأسه مبتسمًا، وقال: “آه، لقد وصلتِ.”
وفي اللحظة التي التقت فيها عيناها بعينيه، شعرت بأنفاسها تختنق.
كان في عينيه العسليّتين اللامعتين لمحةُ نارٍ تُلهب القلب… إنه الفتنة مجسّدة، بجمالٍ آثم لا يُقاوَم.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"