حينما ترنّحت إيميليا من ثقل السلة، تناولها آرون وحملها بدلاً عنها. ثم سألها وهو ممسك بالسلة. وبما أنّ المسافة قد ابتعدت، لم يعد يُسمع أيّ حوار يدور بين الأب وابنته.
غير أنّ روزيتا، وهي تراقب إيميليا التي كانت تحرّك يديها بحماس وعينيها تتلألآن، وآرون الذي كان يحكّ مؤخرة رأسه في حرج، شعرت بأن قلبها يلين ويغمره الدفء.
ولمّا ارتسمت على وجهها ابتسامة لا إرادية لرؤيتهما معاً بتلك الألفة، التفت آرون فجأة نحوها ونظر إليها. فلوّحت له روزيتا بيدها ضاحكة، محاولةً تبديد النظرة التي تخلّلها بعض العتب في عينيه. التفتت إيميليا الصغيرة مع آرون، ولوّحت بكلتي يديها نحو روزيتا بحماسٍ شديد، كرفرفة جناحي نحلة ورديّة صغيرة.
وحين جذبت إيميليا يد آرون بمرح، بدا المشهد وكأن الرجل الضخم يُسحب من يد طفلة صغيرة، فظلّت روزيتا تنظر إلى تلك الصورة وتختزنها طويلاً في قلبها.
“مرحباً! أنا إيميليا. آسفة على ما حدث من فوضى في وقت سابق.”
“أوه! لا بأس، لا بأس.”
وكان أوّل من قصدته إيميليا، تلك السيّدة التي كانت قد التمست العذر من حرس العاصمة نيابةً عن آرون قبل قليل.
“أمي قالت لي أن أوزّع الكعك عليكم.”
عندها نظر آرون إلى إيميليا من أعلى. روزيتا لم تقل مثل هذا الكلام، لكنه لم يعترض على ما قالته الصغيرة.
“أوه! إذن أمك هي من قالت ذلك. لنرَ، يا لها من كعكات جميلة! يبدو أن والدتك ماهرة للغاية.”
وحين اختارت السيّدة قطع الكعك الملوّنة بعدد أفراد أسرتها وأثنت على روزيتا، ارتفعت زاوية ابتسامة إيميليا شيئاً فشيئاً.
“إنها أمي!”
“نعم، نعم. سأستمتع بها. أبلغي أمك أنني سأأكلها بشهية. يا لها من ابنة أبرع من أبيها.”
ثم رمقت السيّدة آرون بنظرة جانبية وهي تواصل مسح رأس إيميليا بحنان.
“أعتذر عمّا حدث سابقاً.”
انحنى آرون سريعاً معتذراً وتراجع إلى الخلف.
ومن ثمّ صار يتبع إيميليا أينما ذهبت، وهي توزّع الكعك على روّاد الحديقة. بعضهم كان يلومه، وبعضهم الآخر، بعيداً عن أعين زوجاتهم، كان يربّت على كتفه مشجّعاً إيّاه. كانوا أشخاصاً مختلفين تماماً عمّن اعتاد آرون أن يلتقي بهم.
لكنّهم جميعاً، دون استثناء، استقبلوا إيميليا وآرون بنظرات مليئة بالدفء.
حتى أنّه…
“بحسب القوانين لا يمكنني قبول مثل هذا.”
كان القائل أحد حرس العاصمة، وهو ينظر بأسف إلى الكعكة التي قدّمتها له إيميليا.
“لكنها مجرد كعكة!”
رفعت إيميليا عينيها الواسعتين في دهشة، ثم نظرت إلى الكعكة في يدها وكأنها لم تفهم ما يقصده الحارس. عيناها الكبيرتان كانتا غارقتين بالاستفهام.
“آسف يا صغيرة.”
“أنا اسمي إيميليا.”
“صحيح، إيميليا. لكنني في أثناء عملي الآن، ولا يجوز لي أن أتلقّى أشياءً شخصية من المواطنين.”
قالها الحارس بنبرة آسفة وهو ينظر إلى الكعكة التي تقبض عليها.
“ألست تعمل اليوم وهو يوم عطلة؟”
“أجل، أعمل في العطلة مقابل أن أستريح في يومٍ آخر من الأسبوع.”
“أبي أيضاً يعمل في عطلة نهاية الأسبوع. لكنّه يعمل في أيام الأسبوع أيضاً…”
عند سماع كلمات إيميليا، نظر الحارس إلى آرون بنظرة مشفقة، وكأنّه يقول إنه قد فهم حتى شجاره السابق مع البجعة. عندها عضّ آرون على شفته بقهر.
‘ما الذي اقترفته بحق؟’
ارتجف جسد آرون وقد غمرته قشعريرة، فأخذ يفرك ذراعيه وهو يتهكّم على نفسه. فلولا أن روزيتا تدخّلت وأوقفت الموقف في الوقت المناسب، لكان قد حُرم حتى من رؤية وجه الإمبراطور.
“كنت حقاً آسفة لما حدث قبل قليل! من الآن فصاعداً سأكون صديقة للبط البجعة.”
“هاها… حسناً، بلّغي أباك أيضاً أن يتعامل بودّ مع البجعة.”
ثمّ انحنى حارس العاصمة الذي كان مطأطئ الظهر وربّت على رأس إيميليا، قبل أن يغادر. وبعد أن اختفى ما في السلة من الكعك تماماً، استدار آرون وإيميليا. فقد لاقت الكعكات رواجاً أكبر مما توقّعوا، ونفدت بسرعة.
“إيميليا! تعالي سريعاً.”
لوّحت روزيتا من بعيد بكلتي يديها نحوهما، ووجهها مفعم بالابتسامة.
“نعم! أمي.”
تركت إيميليا يد آرون من غير تردّد، وانطلقت تجري نحو روزيتا.
“مهلاً، إيميليا، ينبغي أن نذهب معاً!”
“أووواه!”
لكن الصغيرة انفجرت في ضحكٍ رنّان وهي تسرع في ركضها المفاجئ.
“ستسقطين هكذا! تعالي ببطء!”
قالت روزيتا بوجه مكفهر وهي تحاول ثنيهما عن الركض. وكما خشيت، كادت إيميليا أن تتعثر وهي تندفع من غير أن تنظر أمامها.
“إيميليا!”
في تلك اللحظة، اندفع آرون إلى أحضان روزيتا، وهو ممسك بإيميليا التي كادت أن تقع.
“كاااهاهاها!”
ضحكات إيميليا البلورية دوّت في حديقة هيوم تري الصافية الخالية من الغيوم. فقد كانت محشورة بين آرون وروزيتا، تضحك ببراءة وسعادة.
“لقد فزت!”
صرخت وهي تعانق عنق روزيتا.
“هذا غير صحيح! أنا وصلت أولاً.”
اعترض آرون.
وكان خط النهاية بالنسبة للأب والابنة ليس سوى حضن روزيتا. وبينما كانت إيميليا تغرق في الضحك، كان آرون يدغدغها وهو يبتسم، حتى أن أنفاسه لامست خد روزيتا.
“… روزيتا؟”
ناداها بصوت خافت، فارتجف قلبها بغتةً وكأنّه سقط في مكانه. شعرت وكأنها حيوان قد وقع في فخّ مخفي، مسجون في انعكاس عينيه الزرقاوين.
“أبي! وجه أمي أحمر!”
قالت إيميليا ضاحكة، وهي تنظر بين آرون وروزيتا بالتناوب. عندها أدارت روزيتا رأسها بسرعة بعيداً عنهما، في محاولة للهروب من تلك اللحظة التي انطبعت في كليهما كالنقش.
“هلا انطلقنا الآن؟”
“نعم، أمي!”
قفزت إيميليا من بين ذراعي آرون، ثم أمسكت بيدي الاثنين كأنها تنتظر تلك اللحظة.
وهكذا مشوا جميعاً، يمسكون بأيدي بعضهم، وإيميليا في الوسط. وكان شمس العصر تتبعهم من الخلف متأخّرة.
***
「يوم مع أبي!
في حديقة هيوم تري وقف أبي شجاعاً في مواجهة ملك البجع.
ملك البجع، الشرير الذي سرق خبزي، لم يتراجع أمام سيف الخبز ذاك، بل رفرف بجناحيه الضخمين وأطلق صرخات عالية.
أبي صرخ قائلاً:
“أيها الطائر اللعين! ابتعد عن ابنتي حالاً!”
وقف أبي شامخاً أمام ملك البجع.
وأنا أيضاً، مثلما علّمني أبي بالأمس، وجّهت قطعة الخبز التي كان ملك البجع قد أكل نصفها، نحوه.
لقد كنّا فريقاً رائعاً.
لكن ملك البجع استدعى بجعيرته العالية رجاله. وكانوا حرس العاصمة.
وصاح الفارس، التابع لملك البجع، يطالب أبي بإنزال سيف الخبز فوراً. لكن أبي لم يتراجع.
أبي كان حقاً شجاعاً.
وأنا أيضاً لم أنزل سيفي، اقتداءً بأبي.
لكن فجأة جاءت أمي وضربت ظهر أبي وهي تصرخ: “يا عزيزي! كيف يمكنك اللعب مثل الطفل! يالك من عبء.”
أبي لم يسمع كلمة “عبء” التي قالتها أمي، لكنني سمعتها بوضوح وأنا بجانبها.
كان فمها مطبقاً وكأنها لم تتكلم، ومع ذلك كان صوتها مسموعاً… تلك كانت قدرة أمي الخاصة.
أمي حقاً مدهشة!
ولما سألت أمي، التي أوقفت أبي عن القتال مع ملك البجع الشرس، عن سبب فعلها، أجابتني ألطف أمّ في الدنيا:
“إيميليا، ألم تتعلمي في الأكاديمية؟ يجب أن نكون متصالحين وألّا نتشاجر.”
أمي طيبة جداً.」
كانت روزيتا تقرأ واجب الأكاديمية الذي كتبته إيميليا، بينما الصغيرة قد غفت وهي تصدر أنفاساً منتظمة وصوت شخيرٍ خافت، فما لبثت أن انفجرت بالضحك.
فالبجعة التي كانت تعبث عند ضفة بحيرة هيوم تري تحوّلت في سطورها إلى ملك البجع، وأما آرون، بطل الحرب، فقد صار في القصة أحمقاً ما له نظير في الدنيا.
“ككك.”
لم تستطع كبح الضحكة التي تنفجر رغماً عنها.
‘اسمعني يا دوق، الأمر خطير! ابنتك تنوي أن تفضح أمام العالم أجمع جريمتك التي منعتها بيدي!’
وكان الواجب مرفقاً برسوم مضحكة، حتى أنّ عين روزيتا، وهي ليست خبيرة، رأت أنه يستحق العلامة الكاملة.
لقد اكتشفت روزيتا موهبة جديدة لدى إيميليا، فانطلقت تدندن بأنغامٍ خفيفة وهي تجمع حقيبتها. ولم تنسَ أن تخفي الدفتر بعناية كيلا تلتقطه عين الخدم أو كبيرة الخادمات أو حتى المربية.
فالأم دائماً ما تضع الابنة قبل الزوج.
***
“ملابسي صارت أخف!”
قالت إيميليا وهي تحدّق بعينيها الواسعتين بعدما خلعت الجاكيت السميك، وارتدت بدلاً منه كنزة رقيقة وقميصاً وتنورة.
ورغم أنّ الشريط الأحمر الفاقع الذي لا يليق أبداً بشعرها الزهري ما يزال يزيّن رأسها، إلا أنّ ذوق روزيتا لم يعترض هذه المرة، ولم يبدُ سيئاً في نظرها.
“لقد أقبل الربيع الآن.”
شمّت إيميليا الهواء، وقد داعب النسيم الرقيق طرف أنفها.
“يبدو لي أن رائحة الربيع تملأ الجو! رائحة محمّصة وحلوة!”
أخرجت وجهها من نافذة العربة، وأخذت تستنشق الهواء طويلاً، ثم شدّت قبضتيها بحماس وقالت. كانت عيناها المتألقتان تلمعان كسماء صافية بلا غيوم.
“إيميليا، تلك ليست رائحة الربيع، بل رائحة الخبز.”
قالت روزيتا كاتمةً ضحكتها.
فالطريق المؤدي إلى الأكاديمية كان يعجّ بالحركة، والعربة التي تقلّهما قد مرّت لتوها بمخبز.
“آه!”
ومثل أي طفلة في طور النمو، كانت إيميليا تكبر يوماً بعد يوم بسرعة. ومع أنّها لم تتناول إفطارها منذ وقت طويل، إلا أنها بدأت بالفعل تفرك بطنها كأنها جائعة.
فنظرت إليها روزيتا، وقد نفخت وجنتيها محاولةً كتم الضحك المتسرّب. وفي تلك الأثناء وصلت العربة إلى بوابة الأكاديمية.
وكما هي عادتها، ما إن انفتح الباب حتى همّت إيميليا بالقفز والاندفاع، لكنها أطلقت فجأة صرخة قصيرة.
“ما الأمر يا إيميليا؟”
جذبتها روزيتا نحوها وقد رأت الصغيرة واقفة مذهولة عند الباب، ثم نظرت هي بدورها إلى الخارج.
“مرحباً بعودتك، يا آنسة.”
كان هنالك فتى أشقر الشعر وذهبي العينين، يشعّ كأشعة الربيع، يحيّي إيميليا بتحية البلاط الرسمية بكل أناقة. وكان يرتدي زي الأكاديمية المنمق ويؤدّي التحية بمثل تلك الأبهة، حتى خُيّل لروزيتا لوهلة أنّها في قاعة حفلة راقية.
“يا صاحب السمو!”
“آنستي!”
وضعت إيميليا يدها فوق فمها متفاجئة، ثم مدّت يدها الصغيرة فجأة نحو يد تيسكا الممدودة، وكأنها ستصفعه بضربة كفّ.
توقّفت على آخر درجة من سلّم العربة، ورفعت عينيها المتلألئتين إلى تيسكا. كان لقاؤهما هذا أول لقاء منذ وقت طويل، بعد أن فرّق بينهما آرون قسراً. والآن، وهما يتبادلان النظرات، كاد العسل يقطر بين أعينهما.
“أمم… عذراً على الإزعاج، لكن، إيميليا، ألا تفسحين لي الطريق قليلاً؟”
قالت روزيتا بابتسامة محرجة، فما كانت ترغب أن تفسد لقاءهما المفعم بالحمرة الوردية، لكنها أيضاً لا تستطيع أن تبقى محبوسة في العربة إلى الأبد.
“آه! المعذرة.”
قفزت إيميليا عن الدرجات، وحينها فقط استطاعت روزيتا، التي كانت تقف خلفها متردّدة، أن تنزل من العربة.
“ومن هذه السيدة؟”
“إنها أمي يا صاحب السمو!”
قالت إيميليا بفخر، وهي تنتفخ صدرها، بينما تيسكا يحدّق في روزيتا الواقفة خلف ابنتها بوجه مذهول.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 29"