عند سؤال روزيتا، كانت إيميليا قد وضعت الملعقة في فمها وهي تنظر حول المائدة بملامح محرجة.
‘ابنتي صريحة على نحو يبعث على الدهشة.’
ابتسمت روزيتا ابتسامة متكلفة وهي ترى إيميليا التي لا تقول حتى مجاملة بسيطة مثل “إنه لذيذ”. وقد كان من بدد أجواء الحرج بين الأم وابنتها هو آرون، على غير المتوقع.
“إيميليا، هل تعطينني المربى الذي بجانبك؟”
“نعم! أبي.”
قفزت إيميليا بحركة سريعة كالفأر الذي وجد مهرباً.
تجهم وجه آرون وهو يتذوق الخبز والمربى السيئين لدرجة يصعب تصديق أنهما من إعداد طباخ القصر، لكنه ابتلع لقيماته على مضض.
“أحياناً، لا بأس به.”
“أحقاً؟”
تهللت ملامح روزيتا، فأومأ آرون برأسه.
“إنها وجبة تذكرنا مجدداً بمدى أهمية الطباخ.”
عند قوله ذاك، رمقته روزيتا بنظرة صامتة، فيما كتمت إيميليا ضحكاتها المكتومة.
كان فطورهم هادئاً، لكنه سعيد. ورغم رداءة الطعام، لم تفارق الابتسامة محيا إيميليا طوال الوقت.
“هذا لذيذ!”
رفعت روزيتا رأسها نحو آرون عند قوله ذاك، لكن وجهها ما لبث أن غشيه الغيم. فالشيء الذي وصفه باللذيذ لم يكن الخبز أو المربى، بل الفراولة الحمراء الحلوة.
شعر آرون بنظرة روزيتا، فرفع إبهامه وأدخل حبة فراولة مباشرة بين شفتيها.
“آه!”
لم تدرك روزيتا ما جرى إلا وهي تمضغ الفراولة بدهشة.
“أبي، أعطني أنا أيضاً!”
عند طلب إيميليا، اتجه شوكة آرون إلى فراولة حمراء قانية.
“هاه، ما رأيك؟ إنها فراولة اختارها والدك خصيصاً.”
“إنها لذيذة جداً!”
حتى الفراولة العادية الموضوعة في الصحن الأبيض حملت معنى خاصاً.
وضاقت المسافة بين أكتافهم على الطاولة الصغيرة، فكان كلما التقت نظراتهم، انفجرت إيميليا في ضحكات بريئة.
لقد كان صباحاً مسالماً بحق.
“إيميليا، اذهبي الآن واغسلي أسنانك.”
وما إن التقطت روزيتا الصحون الفارغة وقالت ذلك، حتى قفزت إيميليا عن الكرسي وغادرت الصالون بسرعة البرق. فأخرج آرون لسانه في دهشة من خفة حركتها.
مع أنه قضى الأمس معها في أنشطة عدة، إلا أن التعب لم يبدُ عليها إطلاقاً.
وما إن اختفت، حتى وجه آرون نظره إلى روزيتا.
“أظن أنني بحاجة إلى شرح.”
دخلت الخادمة لتجمع الصحون على الصينية وتخرج، بينما وضع كبير الخدم قهوة سوداء أمام الاثنين.
ابتسمت روزيتا بخفة حرجاً من نبرة آرون الجافة.
“هذا من قصة خيالية اسمها ‘بيتنا السعيد’، وهي أكثر قصة تحبها إيميليا.”
رفع آرون فنجانه وارتشف رشفة وهو يرمق روزيتا، مومئاً لها بوجهه أن تكمل.
قبضت روزيتا يدها للحظة ثم أخذت نفساً عميقاً وتابعت:
“هناك مشهد تتناول فيه البطلة حساء البطاطس مع والديها ثم يذهبون للنزهة في الحديقة. وترد فيه جملة تقول:
‘لم أستطع أن أنسى ذلك اليوم. إنه ذكرى مرّ بها كل إنسان مرة على الأقل، فغرست في القلب كشرارة صغيرة، لتظل تلك الشرارة مشتعلة مدى الحياة، حتى حين صارت كاميلا جدة، بقيت تلك الذكرى أسعد ما في قلبها’.”
سردت روزيتا المقطع بلهجة هادئة. فقد كانت قد قرأته لإيميليا مراراً حتى حفظته عن ظهر قلب.
“وما شأن ذلك؟”
قال آرون بعد أن استمع بصمت، وقطّب جبينه وهو يحتسي قهوته.
“إيميليا سألتني إن كان من الطبيعي أن يتناول الأب والأم حساء البطاطس معاً ثم يذهبون إلى الحديقة.”
“…….”
“قالت إنها لم تفعل ذلك قط، وسألتني متى ستجربه هي أيضاً.”
نظرت روزيتا إلى آرون.
كان وجهه متيبساً كمن صعقته صاعقة، ولم يفكر حتى في إنزال فنجان القهوة من يده.
ارتشفت روزيتا قهوتها بصمت.
لقد أخذ منها الإرهاق مأخذه منذ الصباح، حين قضت الوقت في تقشير البطاطس وإعداد الحساء بدلاً من النوم.
في هذه الأثناء، عادت إيميليا مسرعة إلى الصالون بعد أن فرغت من غسل أسنانها.
“هيا! لنذهب كلنا إلى الحديقة في نزهة.”
رفعت يدها عالياً وهي تقول ذلك.
في الأكاديمية، كان لابد من رفع اليد عند التعبير عن الرأي، وقد كانت إيميليا تجيد استغلال ذلك أكثر من أي أحد.
هزّت روزيتا رأسها موافقة، وكأنها كانت تعلم ما ستقوله سلفاً، ثم قالت:
“يجب أن تسألي والدك أولاً، يا إيميليا.”
استدارت إيميليا بسرعة نحو آرون.
“أبي، أريد أن أذهب إلى الحديقة!”
رفعت يدها عالياً كما هي، وألحت على آرون بعينين تشبهان عيني دائن جاء يطالب بماله. فأطلق آرون ضحكة محرجة.
ولأنه كان قد سمع من روزيتا عن القصة كلها، بدا له طلب إيميليا اليوم مؤثراً أكثر من أي وقت مضى.
لم يستطع رفض طلبها، فأومأ ببطء.
“…… ما رأيك لو نطلب أولاً من الطباخ أن يجهز لنا الغداء؟”
ثم التفت نحوها مستحضراً كلمات القصة التي روتها روزيتا.
“إن لم يكن لديك مانع، أود أن نتناول الطعام في الخارج اليوم!”
هزّ آرون رأسه موافقاً على طلب إيميليا من دون أدنى تردّد، وكأنه مسحور قد سُلب وعيه تماماً.
حتى أثناء انشغال روزيتا وآرون بالتحضير، لم تستطع إيميليا كبح استعجالها. لم تكن ترغب بأن يضيع أي جزء من الأربع والعشرين ساعة التي تقضيها مع والدها سدى.
ولم يكن أمام آرون وروزيتا إلا أن يُدفَعا دفعاً لمغادرة القصر.
“يقولون إنه في الحديقة العامة هناك كثير من الرسامين الذين يرسمون البورتريهات!”
“أها، حقاً.”
أومأ آرون برأسه مراراً.
داخل العربة أيضاً لم تكفّ إيميليا عن الثرثرة، مما جعل ذهنه مشوشاً تماماً. كان الطقس مشرقاً والسماء عالية. وكانت زرقة السماء تشبه عيني إيميليا تماماً.
“هل ستطلبين أن يرسموا لكِ صورة يا إيميليا؟”
سألتها روزيتا برفق وهي تصلح لها القبعة.
“همم… بل أريد أن أتذوّق غزل البنات!”
“أوه! فكرة رائعة.”
سرّت روزيتا بكلامها ورددت موافقة.
وأخذ آرون يرمق الأم وابنتها بعينين راضيتين وهما تجلسان متجاورتين تتحدثان بحماسة عن الأشياء التي سيفعلانها في الحديقة.
“أبي، عندما نصل إلى الحديقة اشترِ لي غزل البنات.”
“سأشتري لك اثنين!”
قال آرون وهو يلوّح بإصبعه.
“واو! هذا رائع!”
هتفت إيميليا وهي تقفز فرِحة.
وبينما هم كذلك، وصلت العربة إلى أكبر حدائق العاصمة. كان الطقس دافئاً على غير العادة، فغصّت الحديقة بالناس الذين خرجوا في نزهة.
“أريد هذا أيضاً، ذاك الشيء هناك.”
بدت كل الأشياء عادية في عيني آرون، لكن عيني إيميليا تلألأتا فضولاً بكل ما يباع حول الحديقة.
وأخيراً، ما إن أمسكت بيد غزل البنات وباليد الأخرى خبز باغيت ضخم، حتى ركضت نحو البجع العائم في البحيرة. عندها فقط تمكن آرون وروزيتا من الجلوس على مقعد للراحة.
“إيميليا حقاً مذهلة.”
ربت آرون على كتفه، واثقاً أن تدريبات فرسان الفيلق لم تكن أشد مشقة من هذا. لم يظن قط أنه سيجد نفسه ينفذ بجد كل ما تأمر به إيميليا منذ الصباح.
وكان ينظر إلى روزيتا بعين أكثر دفئاً من أي وقت مضى. لقد كان تحولاً في علاقتهما كزوجين، بدأ دون أن يلحظه بنفسه.
“ما شعورك وأنت تعيش اليوم كما تتمنى إيميليا؟”
عند سؤال روزيتا، اعتدل آرون في جلسته ونظر إلى إيميليا.
كانت ترتدي قبعة قش كبيرة وتضحك ضاحكة وهي تتجول قرب ضفاف البحيرة، كأن المشهد لوحة انتُزعت من قصة خيالية.
جمال المنظر دفع ابتسامته للارتفاع من غير قصد، ثم خفتت سريعاً.
“أنا سعيد… لكن الأمر مرهق.”
“هاه.”
انفجرت روزيتا ضاحكة عند جوابه الصادق.
“لا تُبالغ، فأنا أعيش مثل هذا كل يوم.”
أطلقت تنهيدة عميقة. ومع ذلك، فقد خفّت مشاحنات الصباح في الآونة الأخيرة. لم يكن ذلك لأن ذوق إيميليا تغيّر، بل لأن روزيتا كفّت عن مجاراتها.
“أنتِ مذهلة بحق.”
هزّ آرون رأسه. وبعد أن قضى معها يومين كاملين، تيقن أن روزيتا لم تكن تبالغ في قولها.
فلإيميليا ذوق واضح لا يتزحزح، وإصرار قوي على فعل ما تشاء.
‘إنها ذكية جداً… لا عجب، فهي ابنتي.’
وبعد أن انتهى من مديح نفسه في ذهنه، نظر مجدداً إلى روزيتا.
“إنها شروط العقد، ولا حيلة لي فيها. لا أستطيع التوقف فقط لأنني لا أرغب.”
بمجرد سماع هذه الكلمات، اختفت الابتسامة عن وجه آرون. فقد كان هو من عرض الزواج بعقد منذ البداية. صحيح أنه كان اتفاقاً قائماً على المعاملة كما قالت، لكن ما إن نطقت روزيتا بكلمة “العقد”، شعر وكأن شيئاً في صدره قد انهار.
“شروط العقد، إذاً.”
أخذ آرون يردد كلمات روزيتا في ذهنه.
لقد بدت وكأنها تقول إنه حين ينتهي العقد، يمكنها أن تغادره هو وإيميليا في أي وقت.
جلست روزيتا على مقعد الحديقة مرتاحة، تلفّ شالاً حول كتفيها، ولم ترفع عينيها عن إيميليا. بل حتى لوّحت لها بين الحين والآخر، في هدوء.
أما آرون، فقلّما نال منها مثل هذه النظرات. وبينما تردّد للحظة، تابعت روزيتا كلامها:
“لقد انتظرت إيميليا والدها طويلاً.”
“ماذا تقصدين؟”
“الطفلة لا يربيها الأم وحدها يا دوق. إيميليا تحتاج إلى أم، لكنها تحتاج أيضاً إلى أب. ولا سيما في عائلة مثل عائلتنا.”
قالت روزيتا ذلك وهي تحدق مباشرة في عينيه.
كان زواجهما مجرد تلبية لرغبة طفلة صغيرة تتمنى أن يكون لها أم.
لقد أرادت روزيتا بصدق أن يدرك آرون حماقته في اعتقاده أن وجود الأم وحده سيكفي ليبدد وحدة إيميليا.
“عائلة مثل عائلتنا، تقولين؟”
“نعم. فأنا زوجة أب. وإيميليا، من خلال حياتها في الأكاديمية، تدرك أن عائلتنا مختلفة عن غيرها.”
لزم آرون الصمت.
كان يحب إيميليا، لكنه لو سُئل الآن: هل يعرفها أكثر من روزيتا؟ لما وجد في نفسه الجرأة على الإجابة بالإيجاب.
“يبدو أن هناك أموراً جهلتها.”
“في الأكاديمية تنتشر كل أنواع الشائعات. همس الطلاب قد لا يصل إلى أسماع المعلمين، لكن من يتلقى الأذى في النهاية هي إيميليا.”
تنهدت روزيتا بصوت منخفض. ولم يزل يتردد في ذهنها مشهد إيميليا الصغيرة وهي تبكي متوسلة أن تصبح طفلة طيبة.
“أتقصدين أن إيميليا تتعرض للتنمر؟”
“…….”
تذكرت روزيتا حادثة حفل الشاي عند إيرينا، فأطبقت شفتيها دون رد. عند صمتها، نهض آرون فجأة من مكانه.
‘ابنتي تُنبذ؟!’
اشتعل الغضب في صدره.
“الأطفال يُربَّون معاً. إذا استمررتَ في ترك الأمر كله على عاتقي، فستتلقى إيميليا جراحاً أكبر.”
بهذا الرد القاطع، جلس آرون منهاراً على المقعد.
لقد ظن أن منحه إيميليا أماً بالزواج كفيل بأن يحل كل شيء.
تنهد تنهيدة عميقة، يلوم نفسه على غبائه.
عندها بادرت روزيتا بالكلام:
“إنها لحظة تحتاج فيها إيميليا إلى أبيها.”
وبمتابعة نظراتها، رأى عند ضفة البحيرة كثيراً من الآباء ممسكين بأيدي بناتهم أو أبنائهم، يحمونهم من قطرات الماء المتناثرة حين تخفق أجنحة البجع.
“…….”
“هيا.”
قدمت له روزيتا خبز الباغيت الطويل الذي كانت تحمله.
تردد آرون لحظة، ثم قبض عليه ولوّح به كأنه سيف، واندفع نحو إيميليا.
“أيها الطائر اللعين! ابتعدي عن ابنتي!”
ركض صوب البجعة التي كانت تخفق بجناحيها مهددة، محاولةً خطف الخبز من يد إيميليا.
“ظننت أن فن السيف لا يُستعمل لمثل هذا.”
تمتمت روزيتا وهي تنظر إلى ظهر آرون، الذي اختفى بسرعة من أمامها، فوجدت نفسها تلوّح بيدها من غير وعي.
“أبي!”
صرخت إيميليا فرِحة حين اندفع والدها بشجاعة، ثم قفزت بين ذراعيه تعانقه. لقد كان مشهداً مألوفاً تماماً لسعادة بين أب وابنته.
“حسناً… عيشا معاً سعيدين إلى الأبد، وأخرجاني من الصورة.”
هزّت روزيتا رأسها وهي تنظر إليهما، فيما تعالت ابتسامات وتصفيق من الناس حولهما إعجاباً بالمشهد.
لكن لم يكن هناك مكان لروزيتا، التي تلعب دور زوجة الأب.
تلك هي المكانة التي كُتب لزوجة الأب أن تحتلها، في القصص كما في الواقع.
وبينما كانت روزيتا تبتسم ابتسامة مُرّة وهي ترى آرون وإيميليا غارقين في سعادتهما، إذ بإيميليا ترفع يدها فجأة ملوحة لها:
“أمي!”
“ما الأمر، إيميليا؟”
“أبي يقول إنه سيكسر عنق البجعة! تعالي بسرعة وأوقفيه!”
“ماذا؟!”
قبل قليل فقط كانا يحتضنان بعضهما ويضحكان، فمتى تغيّر الحال؟
نهضت روزيتا من مكانها على عجل.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 26"