5
اقتراح كايل بمساعدتي على الهروب لم يكن يستحق حتى عناء التفكير فيه.
صحيح أن مساعدته ستجعل الهروب أسهل بكثير، وقد يخرجني من السجن حقًا كما ادعى وليس مجرد كذبة، ولكن…
هززتُ رأسي لأطرد هذه الأفكار المعقدة.
وبما أنني لم أستطع تخفيف ضيق صدري، لجأتُ إلى تفريغ توتري في تناول وجبة العشاء التي قُدمت لي.
رحتُ أمضغ الطعام بصوتٍ مسموع وأنا أختلس النظر إلى الزنزانة المقابلة؛ كان ريهارد قد أمال رأسه بعيدًا عن الطعام متجاهلًا إياه.
رغم أن الوجبات لم تكن لذيذة أو عالية الجودة بحكم كونه سجنًا، إلا أن الميزة الوحيدة هنا هي أنك لن تموت جوعًا، والأهم من ذلك أنه طعام مجاني.
لكن يبدو أن الطعام لا يبدو كطعام بالنسبة للبعض، فريهارد لم يلمس عشاءه بعد.
‘تجويع نفسه لن يضر أحدًا سواه.’
لعقتُ طبقي تمامًا حتى لمع وكأنني أستعرض أمامه، ثم مسحتُ على بطني التي امتلأت قليلًا.
“ألسْتَ جائعًا؟”
“سآكل حين أشاء، لذا لا تشغلي بالكِ بي.”
جاء رده هادئًا وباردًا، لكنه كان يفتقر إلى القوة.
‘لا يملك القوة لأنه لا يأكل…’
نظرتُ إليه بأسف قبل أن أدرك حقيقةً مفاجئة.
كانت يدا ريهارد لا تزالان مثبتتين إلى الجدار.
ظننتُه يرفض الأكل بدافع الكبرياء الزائف، لكن الحقيقة كانت أنه لا يستطيع الوصول إلى الطعام بيديه.
“هل نسي السجان فك قيودك؟”
“…”
“أنت جائع الآن، أليس كذلك؟”
بما أنه لم يجب، يبدو أنني أصبتُ الحقيقة.
“انتظر لحظة، سأنادي السجان فورًا ليفك قيودك…”
“لا داعي. لا شهية لي.”
آه، تنهدتُ دون تحفظ.
طالما أنه يملك رفاهية الحفاظ على كبريائه، فهذا يعني أنه لم يجع بما يكفي بعد.
كيف سيصمد أمام التعذيب وهو لا يأكل جيدًا…
لن يدرك واقع الجوع المرير ويستفيق إلا عندما يلتصق جلده بعظمه من شدة الجوع.
أشرتُ بيدي كمن يقول ‘افعل ما شئت’، ثم عدتُ إلى سريري الخشبي واستلقيت.
غفوتُ قليلًا؛ فالسجن تحت الأرض معتم بطبعه، والشبع يجلب النعاس.
عندما استيقظتُ وفركتُ عينيّ المشوشتين، كان الليل قد انتصف.
اقتربتُ بتكاسل نحو القضبان فذُهلتُ حين رأيتُ الطبق كما هو.
“هل يعقل أنك لم تطلب منهم فك قيودك حتى الآن؟”
كان عشاء ريهارد ملقىً على الأرض وحده وقد برد تمامًا.
كان رجلًا عنيدًا بقدر انغلاق فمه.
في النهاية، وبشعورٍ من الهزيمة، كدتُ أنادي السجان لكني توقفت.
فكرتُ أن هذه قد تكون فرصة للتقرب من ريهارد في هذا الموقف.
قمتُ بفتح القفل فورًا وتسللتُ إلى زنزانة ريهارد.
“القضبان مجددًا…!”
“نعم، جئتُ ثانيةً. لا خيار أمامي بما أنك لا تستطيع الأكل.”
هززتُ رأسي بلا مبالاة وأمسكتُ بوجبة العشاء.
كان الطعام قد برد تمامًا والتصق بعضه بالطبق، لكن رغيف خبز مستدير وخشن كان لا يزال صالحًا للأكل.
“هيا، افتح فمك. سأطعمك.”
حين قربتُ الخبز من وجهه، ارتجفت حدقتا ريهارد بارتباك.
“لـ-لو وضعتِه في يدي…”
“لن تصل إليه على أية حال. ولا أظنك تريد حشر وجهك في الأرض كالحيوان لتأكل، أليس من الأفضل أن أطعمك بيدي؟”
“…!”
لقد قلتُ الحقيقة المجردة فقط، لكن وجه ريهارد احمرّ وتقطب وكأنه تعرض للإهانة.
لم أقل له أن يأكل كالكلاب، وهو من ظل مقيدًا بسبب عناده، ومع ذلك كانت نظراته نحوي حادة ومرعبة.
رحتُ أهدئه بصوتٍ ناعم وأنا أهز الخبز أمام عينيه بخفة. بدا جائعًا رغم تظاهره بالعكس، إذ كانت عيناه تلاحقان الخبز.
أشعر حقًا وكأنني أطعم حيوانًا بريًا…
“يدي ستتعب. هيا افتح فمك بسرعة.”
“آه…”
أغمض ريهارد المتردد عينيه بشدة.
وظهرت أسنانه المنتظمة ولسانه الوردي من بين شفتيه المنفرجتين.
أدركتُ أنني كدتُ أحشر الرغيف كاملًا بطريقة غير لبقة، فبدأتُ أقطع الخبز قطعًا صغيرة.
بينما كنتُ أضع قطع الخبز الصغيرة في فمه، كانت أطراف أصابعي تلامس شفتيه مرارًا مهما حاولتُ الحذر.
وفي كل مرة، كانت نظراتي تتجه لا إراديًا نحو أجفانه التي ترتعش بخفة.
كنتُ أراقب دون وعي وجنتيه وهما تتحركان وشفتيه الممتلئتين وهما تنطبقان للمضغ، ثم استعدتُ وعيي فجأة.
بما أن الهدوء جعل الأجواء تبدو أكثر غرابة، حاولتُ بدء حديث مع ريهارد.
“استمع إليّ وأنت تأكل. الهروب من السجن له فوائد أكثر بكثير عندما يكون ثنائيًا بدلًا من…”
“لقد شبعتُ، يمكنكِ الذهاب الآن.”
طردني ريهارد بفظاظة بعد أن ابتلع الخبز دفعة واحدة.
‘تشه، هل يطردني لمجرد أنه شبع؟ ظننتُ أننا بدأنا ننسجم قليلًا.’
كلما ذكرتُ الهروب، يقطع الحديث ببراعة، مما أفقدني الرغبة في الكلام.
تقطع الحديث المستمر يجعل من المستحيل فتح أي موضوع براحة.
لولا أنه شريكي المفترض في الهروب، لما كنتُ قد تحدثتُ معه أبدًا بسبب سماجته.
وربما لولا خصوصية السجن، لما كان ريهارد ليتعامل مع شخصية مثلي، لذا فالأمر متبادل على الأرجح.
من الصعب حقًا تخيل ريهارد يتحدث مع مخادعة أو مجرمة. هل يتحملني الآن لأنني “ساحرة”؟
على أية حال، الطرف الأكثر حاجة هو من عليه الانحناء حاليًا.
نفضتُ يدي من بقايا الخبز واستدرتُ للمغادرة دون اعتراض، تلبيةً لطلب صاحب الزنزانة.
“انـ-انتظري لحظة.”
“…لماذا؟”
هو من استوقفني، لكن بمجرد أن توقفتُ، تجنب ريهارد نظراتي بارتباك.
بدا وكأنه لم يقصد مناداتي، بل فعل ذلك بدافع الاندفاع ودون وعي منه.
وبما أنه ظل صامتًا بعد مناداتي، أملتُ رأسي بتساؤل، فعض ريهارد شفتيه بتعبيرٍ معقد.
‘ألم تكن هناك جروح على شفتيه؟ سيتألم إن فعل ذلك.’
تردد ريهارد قليلًا، ثم حرك شفتيه الحمراوين وكأنه لا يملك خيارًا آخر. أصبحتُ أنا أيضًا جادة وأرهفتُ السمع له بتركيز.
“شكر…”
“نعم؟”
لم أسمع ما قاله جيدًا فاقتربتُ منه، فتنحنح ريهارد وقال بصوتٍ أوضح قليلًا:
“أعتقد أنه يجب عليّ شكركِ.”
“آه، لأنني أطعمتك بيدي؟”
“…أقصد لأنكِ اهتممتِ بوجبتي. وعلاجكِ لي كان مفيدًا أيضًا.”
فكرتُ في أن المعنى واحد، لكن ريهارد صحح كلماته بنبرة حازمة.
نظرتُ إلى الجروح التي وضعتُ عليها المعقم بعد سماع كلماته، وكانت تلتئم جيدًا دون مضاعفات.
رغم أنني لم أتمكن من فحص الجروح المخفية تحت ملابس السجن.
ارتعش ريهارد أمام نظراتي التي بدت وكأنها تريد التلصص تحت ثيابه، وأظهر حذره بعينيه.
رغم فضولي، لم أكن أنوي خلع ملابسه لتفحصه؛ فلو فعلتُ، لشعرتُ أنه سيعضني.
على أية حال، تلاشت مشاعر الضيق التي كانت بقلبي لمجرد كلمة شكر واحدة.
يا إلهي، مشكلتي أنني سهلة المراس جدًا.
‘لم أجبره على شكري، هل ظن أنني استأت؟ يبدو أنه لا يتجاهل وجودي تمامًا…’
أخفيتُ شعوري بالرضا وهززتُ كتفي كأن الأمر لا يهمني.
“حسنًا، لم يكن شيئًا يذكر. سآتي إليك كثيرًا إن كان هناك ما أساعدك به مستقبلاً.”
فزع ريهارد عند سماع “سآتي كثيرًا” وهز رأسه رافضًا:
“هذا أمر لا مفر منه! هذه زنزانتي، وقد يكتشف السجان أمركِ.”
رغم أنه رجل بجمس ضخم ومهيب، إلا أن رؤية عينيه اللتين اتسعتا جعلتني أشعر أنه لطيف بشكلٍ غير متوقع.
ربما لأننا في سجن لا يوجد فيه سوى السجانين والمجرمين، فبدأتُ أشعر بالألفة.
رؤيته ينفر هكذا تزيد من رغبتي في مضايقته، لكني خشيتُ أن يرفض زياراتي تمامًا.
كتمتُ رغبتي في العبث معه، وفرجتُ بين أصابعي قليلًا.
“إذًا… أحيانًا؟”
“…أعتقد أن الأمر سيكون مقبولًا في الحالات الضرورية فقط.”
“حسنًا.”
ابتسمتُ بصفاء وهززتُ رأسي موافقةً.
‘أنت من سمح بذلك بالتأكيد.’
تجاهلتُ بقية كلامه وقبلتُ فقط كلمة “مقبول” كما يحلو لي.
نظر ريهارد بقلق إلى زاوية فمي التي ارتفعت قليلاً.
كنتُ قريبة من القضبان، فعدتُ للاقتراب من ريهارد ثانيةً.
وحين قربتُ إصبعي من شفتيه الحمراوين، سحب رأسه فجأة.
نفضتُ بقايا الخبز عن زاوية فمه بخفة وأنا أبتسم بعينيّ.
“هذا النوع من التلامس مقبول، أليس كذلك؟ لأنه ضروري.”
“آه…!”
وقبل أن ينطق ريهارد، الذي احمرت وجنتاه، بأي كلمة رفض أخرى، انسحبتُ أولًا.
لوحتُ بيدي مودعةً، فحرك ريهارد شفتيه ثم أطبقهما.
“طابت ليلتك إذًا.”
كما خططت، كان ريهارد يكسر حواجز حذره تجاهي تدريجيًا.
التعليقات لهذا الفصل " 5"