3
الفصل 3
“أرفض.”
“لماذا؟ ألا تريد الخروج من هنا؟”
بسبب رفضه القاطع، ارتفع صوتي دون قصدٍ مني.
تفقدتُ الرواق مرة أخرى للتأكد من خلوه من المارة، ثم انتظرتُ إجابة ريهارد.
“ما هو سبب تقديمكِ لهذا العرض لي؟ ماذا لو أخبرتُ السجان بخطتكِ؟”
“لن تفعل ذلك.”
“أتثقين بي؟”
“نعم! أثق بك تمامًا.”
“…”
فقد ريهارد القدرة على الكلام أمام ردة فعلي الواثقة التي ترافقت مع هز رأسي تأكيدًا.
في الحقيقة، لم يكن إيمانًا بلا أساس.
فريهارد بنبله الظاهر على ملامحه يملك شخصيةً لا تطيق الوشاية، وفضلاً عن ذلك، ليس من النادر أن يتآمر السجناء فيما بينهم للهروب.
‘لذا، لنحاول الانسجام معًا حتى يحين يوم هروبنا.’
“أعتقد أنه من الأفضل التوقف عن هذا الحديث.”
ربما ظن ريهارد أن التفاهم معي مستحيل، فأنهى المحادثة من طرفٍ واحد.
بعد قليل، ظهر السجان مرة أخرى ومرّ وهو يراقبني بنظراتٍ حادة وأنا واقفة أمام القضبان.
سرقتُ نظرةً إلى ريهارد بعينين يملؤهما الأسف والتمسك بالأمل.
لم أكن أظن بالطبع أنه سيوافق من المرة الأولى.
على أي حال، سيبدأ ريهارد الآن بالتفكير في الهروب.
تراجعتُ عن القضبان وأنا أعد نفسي بمحاولة أخرى في المرة القادمة.
كنتُ أترقب الفرص للتقرب من ريهارد.
لكننا كنا سجينين في زنزانتين منفردتين يفصل بينهما الحديد.
كانت هناك مسافة مادية تمنعنا من الاقتراب أبدًا.
لحسن الحظ، كان الرواق ضيقًا لدرجة أننا قد نتلامس لو مد كل منا يده.
‘والأمر الجيد الآخر هو أننا لا نملك رفيقًا للتحدث معه سوى بعضنا البعض.’
عندما يتسكع المرء لنصف يوم فوق سرير خشبي صلب، فإنه سيضطر للتحدث مع أي شخص هربًا من الملل القاتل.
حين تذكرتُ الأيام المملة التي سبقت سجن ريهارد، قطبتُ حاجبيّ تلقائيًا.
تحدثتُ إليه بعفوية وكأننا كنا نتحدث منذ لحظة:
“بالمناسبة، ما هي الجريمة التي ارتكبتَها حتى انتهى بك المطاف هنا؟”
التفت ريهارد الذي كان يحاول جاهدًا طعن الطعام بشوكةٍ ثلمة الطرف.
يبدو أنه لم يتأقلم مع الشوكة بعد لأنه لم يمضِ وقت طويل على دخوله.
كانت الشوكة المصنوعة لدواعي السلامة حتى لا تُستخدم كصلاح، هي الأسوأ من حيث وظيفتها كأداة للأكل
رغم أنني أصبحتُ الآن قادرة على الأكل بها ببراعة.
“…لا بد أنكِ تعرفين تهمتي بالفعل.”
“لكنني لم أسمع القصة من لسانك.”
“…”
عض ريهارد على شفتيه وكأنه لا يريد الإجابة أكثر من ذلك.
هززتُ كتفيّ.
لم يكن يهم إن لم يجب.
فأنا أعرف بالفعل من خلال الإشاعات أنه سُجن ظلمًا.
أفواه الحراس الثرثارة لم تكن تنضبط أبدًا.
ومع ذلك، سألتُه عن تهمته فقط من أجل إيجاد أرضية مشتركة وبناء الألفة بيننا.
رأيتُ طبق ريهارد الفارغ الذي لم يتبقَ فيه سوى الفتات، فنهضتُ من الكرسي.
واقتربتُ من القضبان حاملةً طبقي بيدي.
“ألا تريد الهروب؟”
“أعُدنا لهذا الحديث ثانية؟”
قطب ريهارد ما بين حاجبيه وهو ينظر إليّ بغرابة.
لكنه لو أنصت جيدًا فسيقتنع.
فادعائي يرتكز على المنطق.
بدأتُ إقناعه بلهجة جادة:
“استمع إليّ، طعام السجن ليس لذيذًا، أليس كذلك؟”
“…هذا صحيح، ولكن.”
“ما دمتَ داخل السجن، سيتعين عليك أكل هذا الطعام باستمرار. لذا، عليك الهروب من هنا، صح؟”
تنهد ريهارد بتعبيرٍ يوحي بأنه يلوم نفسه لإنصاته إليّ ولو للحظة.
‘قد يبدو كلامي سخيفًا الآن، لكن من الآن فصاعدًا، في كل مرة تأكل فيها طعامًا سيئًا، ستتذكر كلماتي.’
ابتسمتُ ابتسامة النصر، ومددتُ حبة بطاطس متبقية في طبقي من بين القضبان الحديدية.
“لا بد أن الطعام لم يكفكَ، كُل هذه. لم ألمسها.”
“لا داعي.”
“ألا تحب البطاطس؟”
“ليس الأمر كذلك… حسنًا، سآخذها شاكرًا.”
تردد ريهارد قليلًا ثم مد يده عبر القضبان وأخذ البطاطس.
بدا وكأنه لا يدرك بعد؛ أن البطاطس هي الحب.
صريييير.
مع صوت فتح الباب الحديدي الثقيل، عاد ريهارد إلى الزنزانة المقابلة.
بعد تثبيت السلاسل بضجيج وإقفال القفل بصوتٍ مدوٍ، اختفى أثر الحراس.
كنتُ منكمشة فوق السرير الخشبي، فخطوتُ ببطء واقتربتُ من القضبان.
كنتُ أعتزم الحديث معه، لكنني تسمرتُ في مكاني.
كان جسد ريهارد المستند إلى الجدار بوهن وكأنه فاقد للطاقة، مغطى بالكامل بالجروح.
طقطقتُ بلساني وأنا أرى ذلك المنظر.
‘تسك، كان عليك أن تقاوم باعتدال. هذا الرجل لا يملك أي دهاء.’
‘هل كان هذا هو شعور كايل عندما يراني؟’
لا أريد الاعتراف بذلك لكنني بدأتُ أتفهم شعوره قليلًا.
لكنني، على عكس ريهارد، أعرف متى أمد قدمي وأين أضعها.
فكايل لا يضربني ولا يجرحني.
بمجرد تفكيري هكذا، شعرتُ بالغرابة كأنني أفتخر بأن وضعي أفضل قليلًا، ولكن على أية حال.
تحدثتُ إلى ريهارد بحذر:
“أعدتَ من جلسة تعذيب؟”
“آه…”
رفع ريهارد عينيه قليلًا لتلتقي بعيني، وتسربت من فمه أنةٌ لم يستطع إخفاءها.
“هل أنت بخير؟ هل إصاباتك بليغة؟”
“…”
بينما كنتُ أتفحص جروحه بقلق، كان ريهارد ينظر إليّ بعينين غائمتين وذاهلتين.
ترددتُ للحظة ثم اتخذتُ قرارًا صغيرًا وهمستُ:
“انتظر قليلًا. سأجد طريقة.”
“ماذا…”
لم يستطع ريهارد إكمال كلماته.
لأنني استدرتُ وتراجعتُ إلى داخل زنزانتي.
نظرتُ بجدية إلى غرضٍ كنتُ قد خبأتُه في الزاوية المظلمة تحت السرير.
‘لقد سرقتُه تحسبًا للحالات الطارئة، ولكن بما أن الأمر وصل إلى هذا الحد، فلا مفر.’
‘سأتقاضى الثمن لاحقًا عن طريق الهروب.’
مددتُ يدي تحت السرير بنيةٍ خبيثة تشبه نية المرابين.
لمست أطرافي زجاجة صغيرة.
بمجرد صعود الحراس للطابق العلوي وبقاء حارس واحد فقط، وقفتُ بهدوء وأنا أستمع لخطوات دورية الحراسة.
لن يظهروا هنا لفترة على الأرجح.
صنعتُ شكل إنسان تحت اللحاف الخفيف باستخدام الوسادة والمنشفة وملابس السجن، ثم اقتربتُ من القضبان.
“أوه…”
سمعتُ صوت أنين ريهارد يزداد ارتفاعًا.
أمسكتُ بسيخ حديدي رفيع وبدأتُ أعبث بالقفل.
وبعد فترة طويلة من التركيز المترافق مع تصبب العرق، انفتح القفل أخيرًا.
خرجتُ ببطء محاولةً عدم إصدار أي صوت.
كررتُ نفس الفعل مع زنزانة ريهارد، وهذه المرة فتحتُ الباب بسرعة أكبر قليلًا.
دخلتُ ونظرتُ إليه، ففتح عينيه بذهول.
“كيف دخلتِ إلى هنـ…!”
“ششش! اصمت، لا يجب أن يُكشف أمرنا.”
وضعتُ إصبعي على فمي، فصمت ريهارد.
جلستُ على ركبتي أمامه وبدأتُ أخلع ملابس سجنه دون تردد.
حين فتحتُ الأزرار، تلاقت نظراتي مع عينيه الحادتين اللتان بدتا وكأنهما ستنهشانني.
جلجل! ارتعش جسدي تلقائيًا بسبب صوت الحديد السريع والحاد.
لقد شُدّت السلاسل المتصلة بالجدار إلى أقصى حد.
‘واو، كما هو متوقع من فارس.’
لحسن الحظ كانت هناك سلاسل.
أكملتُ خلع ملابسه باطمئنان، فازدادت مقاومة ريهارد.
“كحه، ماذا تفعلين؟ توقفي فورًا!”
كانت نظرات ريهارد المصبوغة بالخزي والغضب حادة.
حاول مرارًا تجنب لمساتي، لكن السلاسل التي تقيد معصميه والمثبتة في الجدار منعت حركته من أن تكون حرة.
سرعان ما أدرك ريهارد أن تخبطه لا فائدة منه، فتقطب وجهه.
الرجل الذي لم ينكسر أمام التعذيب القاسي، كان يرتعب و يثير الجلبة لمجرد أنني خلعتُ بعض ملابسه.
“سأعقم لك الجروح. النظافة مهمة جدًا داخل السجن. نحن هنا تحت الأرض، ولو نظرت جيدًا ستجد العفن والطحالب في الزوايا.”
“ليس من شأنكِ!”
‘يا له من فظ.’
لكنني كنتُ قديسة حتى لو كنتُ مزيفة.
كنتُ قد أدركتُ بالفعل أن المرضى الذين يرفضون العلاج يضعفون أمام الشعور بالذنب.
“لقد جئتُ إلى هنا مخاطرةً بنفسي من أجلك، ألن تتلقى العلاج حقًا؟”
نظرتُ إليه بعينين حزينتين ككلبٍ أصابه المطر، فارتفع صدر ريهارد وانخفض، لكنه لم يستطع نطق كلمات الرفض. وفي النهاية، أمال رأسه بعيدًا على مضض.
“…افعلي ما تشائين.”
‘أعلم أنك وافقت.’
فتحتُ قميص سجن ريهارد وتفحصتُ الجروح التي تنبعث منها الحرارة.
كان جسده ملطخًا بجروحٍ أسوأ مما كنتُ أتخيله من بعيد.
كان جلده محمرًا بسحجاتٍ ناتجة عن احتكاك الحبال الخشنة، وظهرت جروح وخدوش في أماكن متفرقة، ربما بسبب اصطدامه بالأشياء أثناء مقاومته.
كان من الواضح تمامًا أنه لم يكن مقيدًا إلى الكرسي بهدوء.
تنهدتُ قليلًا، ثم أملتُ زجاجة الدواء الصغيرة وبدأتُ في مسح المعقم.
كان جسد ريهارد ينتفض في كل مرة تلمس فيها أناملي جروحه، وكأنها تلسعه.
“هل يؤلم كثيرًا؟”
“لا يؤلم كثيرًا…”
‘إذًا هل تشعر بالدغدغة؟’
بدافع العبث، رسمتُ ببطء بأطراف أصابعي فوق جلده، فزمجر ريهارد مرة أخرى:
“لا تعبثي.”
“أنا فقط أضع الدواء.”
“لقد تعقم بما فيه الكفاية، لذا توقفي الآن و…”
توقف ريهارد عن الكلام وهو يراني أبدأ بالنفخ على الجروح.
كلما نفختُ بفمي، كان جلده يزداد احمرارًا وكأنه يشتعل. لماذا يزداد احمرارًا؟
رفعتُ رأسي فرأيتُ وجهه وقد صُبغ باللون الأحمر حتى عنقه. عض ريهارد شفتيه كأنه يتحمل شيئًا ما، ثم قطب وجهه عندما لمست أسنانه جرحًا في غشائه المخاطي.
أها، لمعت فكرة بسيطة في رأسي.
‘هل هو ضعيف أمام إغراء الجميلات؟’
إن كان الأمر كذلك، فلا يوجد سبب لعدم استغلاله.
إن سلب لُبّ رجلٍ يحمر وجهه لمجرد التقاء الأعين، سيكون أسهل من محاولة إقناعه بالحوار.
التعليقات لهذا الفصل " 3"