لم يكن في قصر أستريان من يُنكر أنّ ثيل قد كبرت ونمت أكثر بكثير مما كانت عليه من قبل.
فقد تعاقبت الفصول، وتفتحت أزهار الربيع ثم ذبلت، وازدادت البقع على فراء نمر الثلج الناعم وضوحًا، وخلال ذلك كله كانت الفتاة تنمو أسرع من أي أحد آخر في القصر.
خدّان متوردان بلون الخوخ، وأنف صغير مستدير، وعينان واسعتان براقتان، وشعر ناعم الملمس وجدائل مرتبة بعناية… لم يبقَ أي أثر لهيئتها البائسة القديمة في ملامحها.
بعد عودتها من أركاديا، أوفى الإمبراطور بوعده فأذن لثيل أن تقيم في قصر أستريان، كما فوّض ألفيوس إليها منصب سيد الأسرة مؤقتًا.
وبالطبع، لم يكن في نيته أن يُلقي على كاهلها حقًا ذلك العبء الثقيل المسمى ‘سيدة أستريان’، لذلك لم تُعقد مراسم التنصيب الرسمية.
لكن مع ذلك، كانت كل شؤون أستريان تُدار باسم ثيل أستريان، ولم يعترض أحد على ذلك. وكيف لهم أن يعترضوا، وهذه الطفلة الصغيرة قد أنجزت من الأفعال ما يفوق الوصف؟
فقد أنقذت أخاها وهي في السابعة من عمرها، وأنقذت ولي العهد حين كان في خطر داهم، ثم خلّصت شعوب أركاديا من إبادة وشيكة.
من ذا الذي يجرؤ أن يُبدي استياءه؟ حتى كاسوس وبيردي، وهما المقرران أن يكونا ورثة من بعدها، لم يكن لديهما أدنى اعتراض. فما من أحد في الإمبراطورية يمكنه أن يجاهر بالرفض.
لقد أمضى ألفيوس وكاسوس وبيردي ولوديان السنوات الخمس الماضية يحيطون ثيل بحماية لا ثغرة فيها. لم يكن بوسعهم أن يعوضوا طفولتها الضائعة، لكنهم أحبّوا ورعَوا أختهم الصغرى التي وجدوها متأخرًا، بقلوب ملؤها العزم على تضميد ماضيها الأليم.
وبفضلهم، نمت ثيل في أحضان أسرتها نموًا رائعًا.
كانت الفتاة تحدق في المرآة بفستان زهري فاتح، يطابق لون وجنتيها الوردية.
“بالطبع كبرتِ! لقد ازددتِ طولًا ونضجًا أكثر من ذي قبل~”
أجابت ليا مبتسمة برضا، تنظر بعطف إلى الطفلة الصغيرة التي رعتها بيديها.
ابتسمت ثيل بمرح ثم استدارت لتلقي بنفسها في أحضان ليا، التي بادلتها العناق برفق، معتادةً على دلعها.
“هيا، حان وقت الخروج الآن. السيد بيردي والسيد لوديان بانتظارك.”
قالت ليا وهي تثبت على رأسها طوقًا جميلاً للشعر. فأومأت ثيل بحماس:
“نعم! أستودعكِ يا ليا! سأشتري كعكة لذيذة في طريقي للعودة.”
“ههه، لو سمع خبازو أستريان هذا الكلام لشعروا بخيبة أمل كبيرة.”
“لكن كعكاتهم لذيذة جدًّا أيضًا! غير أنّ المرء يحتاج أحيانًا إلى تذوق نكهات جديدة، أليس كذلك؟”
لقد تغيّرت الفتاة كثيرًا خلال السنوات الخمس الماضية، وأكبر تلك التغييرات أنّها أصبحت كثيرة الكلام. فالطفلة التي كانت تخشى التعبير حتى عن أبسط ما تشعر به، تلاشت تمامًا، وحلّت مكانها فتاة تغرّد كل يوم كالعندليب في أرجاء قصر أستريان.
وكانت ليا، التي أحبت هذا التغيّر العذب في مولاتها، تستجيب بحماس لكل كلمة تنطق بها ثيل.
“صدقتِ، النكهات الجديدة مهمة. وأنا متشوقة لأعرف أي كعكة ستجلبينها اليوم. أطلبي من السيد بيردي والسيد لوديان أن يشتروا لك الكثير منها!”
“بالطبع! يجب أن أشتري كثيرًا، فإخوتي سيأكلون نصفها حتمًا.”
ضحكت ثيل وهي تخرج مع ليا من الغرفة، لكن في تلك اللحظة اختطفها أحدهم فجأة من على الأرض ورفعها عاليًا.
صرخت ثيل بخفة “آه!” من المفاجأة، بينما ضحكت ليا وتراجعت خطوة.
“ثيل، ما الذي يسعدك هكذا؟ كيف تتركين إخوتك ينتظرونك كل هذا الوقت؟”
كان من رفعها بالطبع بيردي أستريان.
“أخي بيردي! ألم أقل لك ألا ترفعني هكذا فجأة؟ لقد بلغت الثانية عشرة الآن…!”
احتجت ثيل بصوت ممتعض، لكن بيردي تجاهلها تمامًا وهو يحملها بخطوات واثقة.
وتقدّم خلفه لوديان، فأخرج من جيبه كيسًا صغيرًا وأدخل قطعة حلوى في فم ثيل.
“حتى لو بلغتِ العشرين، ستبقين صغيرة وخفيفة كدمية، وسأظل أحملك هكذا. فاستسلمي للأمر!”
“يا إلهي…”
نظرت ثيل إلى لوديان بغير رضا، لكنها لم تجادله أكثر، واكتفت بتقليب الحلوى في فمها بلسانها، فيما تُصدر طرقعات خفيفة بين أسنانها.
نزل بيردي ولوديان السلم الحلزوني وهما يحملان ثيل خارج القصر، والابتسامة تعلو وجوه الخدم وهم يتأملون إخوة مترابطين بهذا القرب.
“إلى متى تدوم العطلة؟ متى تعودان إلى الأكاديمية؟”
“شهر واحد فقط. قصير، أليس كذلك؟ لذلك لا تفكري في كتابة رسائل لإياندروس، بل اقضي وقتك باللعب معنا نحن إخوتك.”
قال بيردي بنبرة تحمل شيئًا من الاستياء.
كان بيردي مستاءً من تبادل ثيل الرسائل مع إيان. في الحقيقة، لم يكن بيردي وحده منزعجًا من ذلك، بل لوديان أيضًا.
منذ ذلك اليوم، دأبت ثيل على مراسلة إيان بشكل دوري، إلا أنّ الرسائل لم تكن تحمل مضمونًا ذا خصوصية أو أمرًا مهمًا.
فمعظمها كان يدور حول الكعك الذي تناولته في ذلك اليوم، أو فطائر، أو البسكويت الحلو، وأحيانًا، في أيام المطر أو الثلوج، كانت تكتب شيئًا عن الطقس.
بين الحين والآخر، كانت تكتب في الرسالة ‘أفتقدك’، لكن ذلك كان يحدث فعلًا على فترات متباعدة جدًا. وثيل أقسمت أمام الحاكمة لوسيت أن رسائلها لإيان لا تحوي ما قد يثير الشبهة.
أما إيان فقد أوفى بوعده، فكان يبعث بردّ على كل رسالة بلا انقطاع. بل إنه في بعض الأحيان كان يبادر بإرسال الرسائل أولًا. وفي اليوم الذي كتبت له ثيل فيه أنها تفتقده، جاء لزيارتها، وتناولا السندويشات سويًا عند ضفة البحيرة.
وهذا بالتحديد هو ما لم يرق لِبيردي ولوديان. فهما كانا في الأكاديمية خلال الفصل الدراسي، ولا يُعلم كيف وصلهما ذلك الخبر.
لم يكن ثمة أحد في القصر ينقل أخبار ثيل وإيان إلى بيردي ولوديان······
“لقد كتبت إليك أيضًا يا أخي! فلا تغر من السيد إيان!”
“من الطبيعي أن تراسليني، فأنت شقيقتي، وأنا أخوك.”
“صحيح. إيان ذاك ليس إلا ‘وليّ عهد عادي’ لا أكثر.”
‘ولي عهد عادي؟ كيف يمكن أن تجتمع كلمة عادي مع ولي عهد في جملة واحدة؟’ تساءلت ثيل في داخلها بدهشة.
صحيح أن مجتمع السوين يقوم على قوة كل أسرة ونفوذها، وأن سلطة العرش فيه أضعف نسبيًا، لكن يظل إيان ولي عهد الإمبراطورية······ ومع ذلك، كان بيردي ولوديان، رغم تقدمهما في السن، لا يريان فيه سوى ‘الوضيع الذي سرق شقيقتهما الصغيرة’.
ولهذا السبب، لم تكن مخاوف ألفيوس قليلة، غير أنّ كاسوس لم يتدخل في عادة ولديه الكلامية.
صعد بيردي ولوديان وثيل معًا إلى العربة. وبمجرد أن استقروا داخلها، حرّك السائس العربة برفق بعدما عرف وجهتهم مسبقًا. وأطلقت الخيول صهيلًا طويلًا.
كانت وجهتهم شارع غْرِم، أكثر الأماكن ازدهارًا في أراضي أستريان. وهناك كانوا ينوون شراء فستان جديد لثيل، ثم تناول بعض الكعك اللذيذ، قبل أن يعودوا إلى القصر.
صحيح أنّ إيان كان يرسل لثيل بين الحين والآخر فساتين جديدة، لكن بيردي ولوديان أصرّا على أن يشتريا لها بأنفسهما.
وكان ألفيوس وكاسوس يشاركانهما الرأي، حتى غدت خزانة ثيل مكدّسة بالفساتين إلى درجة أنها لا تستطيع ارتداءها جميعًا ولو بدّلت ثوبها كل يوم طوال العام.
وثيل، التي أصرت على أنّها لم تعد بحاجة إلى مزيد من الفساتين، لم تستطع هذه المرة ردع أخويها، فقد أصرّا بشدة على أن يشتريا لها بقدر ما كان إيان يشتري. وهكذا خرجت معهما رغمًا عنها.
وكانت ثيل تتساءل أحيانًا: ‘هل هما من يلاعبانني، أم أنني أنا التي ألهيهما؟’
في تلك اللحظة، أشار بيردي برأسه نحو كتفها وسأل:
“ثيل، هل ستظلين تحملين معك هذه السمكة دائمًا؟”
أدارت ثيل رأسها نحو السمكة اللامعة، التي أمالت رأسها يمينًا ويسارًا كأنها فهمت سؤال بيردي، فيما لمع بريقها دون توقف.
لقد كبرت سمكة ثيل مع مرور السنوات الخمس الماضية، حتى غدت فعلًا أقرب إلى شكل السمكة الحقيقية.
فزعانفها طالت أكثر مما كانت عليه حين ظهرت لأول مرة مع قدرتها الخاصة، وخطوط جسدها غدت أكثر انسيابية، كما أنّ حجمها ازداد أيضًا.
“إنها تحب أن تكون بالخارج. تريد أن ترى العالم، فكيف لي أن أحبسها؟ في الخارج ستجذب الأنظار، لكن داخل العربة الأمر لا يضر، أليس كذلك؟”
ابتسمت ثيل بهدوء وربّتت بخفة على مقدمة أنف السمكة. فاستدارت السمكة في مكانها عدة مرات، كما لو كانت تستجيب لكلماتها.
ظل بيردي ولوديان يحدّقان في ثيل صامتين. لقد كان واضحًا أنّ ثيل لم تكبر جسديًا فحسب خلال السنوات الخمس الماضية، وإنما تطورت قدراتها أيضًا بشكل مذهل.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "129"