ركض إيلرام ليستقبل ثيل والأطفال والفرسان.
كانت أشعة الشمس تغمرهم بضوئها الساطع، حتى إنّ رؤيتهم من بعيد لم تحتج إلى أحجار مضيئة.
“وااه، إيلرام!”
ابتسمت ثيل ابتسامة مشرقة وهي في حضن إياندرُوس، الذي شدّ ذراعيه أكثر ليحفظها من أن تفلت.
وشعر إيلرام بغصّة تعتصر صدره وهو ينظر إلى وجه الصغيرة الباسم. دموع ساخنة كادت تفيض من عينيه، فاضطر أن يبتلعها، بينما ارتجفت أطراف عينيه المليئتان بالتجاعيد.
كان في جعبته آلاف الأسئلة يودّ أن يطرحها على هذه الطفلة المعجزة، لكن كان هناك أمر أولى أن يقوله قبل ذلك.
“ثيل، حقاً… شكراً لكِ.”
وانحنى إيلرام برأسه. تبعه عدد من أبناء السلالة الذين هرعوا خلفه، فانحنوا جميعاً معها.
كانوا هؤلاء أنفسهم من احتضنوا قبل قليل أحبّتهم وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة.
وقد بات واضحاً بجلاء من أعاد لهم شعلة الحياة بعد أن كانت توشك على الانطفاء.
ارتبكت ثيل قليلاً وهي ترى الجميع ينحني أمامها، فحاولت أن تتحرك بين ذراعي إياندرُوس.
غير أن الأخير شدّ قبضته عليها بلطف وهمس في أذنها بصوت لا يكاد يسمعه سواها:
“في مثل هذا الموقف… يكفي أن تبتسمي وتهزّي رأسك مرة.”
“أهز رأسي…؟”
“نعم.”
أطاعت ثيل كلامه، فأومأت برأسها ثم سألت بخفوت:
“ماذا عن المرضى؟ هل ما زالوا… في حالة سيئة؟”
رفع السلالة رؤوسهم أخيراً بعد أن كانوا مطأطئيها. فأجاب إيلرام نيابة عنهم:
“لقد فقدنا الكثير… لكن بفضلك، ثيل، نجا الكثيرون أيضاً.”
“آه…”
“لو لم تأتي، لهلكنا جميعاً. نحن… مدينون لك بامتنان لا حد له.”
ارتجف صوته وهو يتحدث. نظرت ثيل إليه مطولاً، ثم مدت يدها الصغيرة نحوه.
تردّد إيلرام لحظة، ثم وضع كفه المتجعد فوق يدها.
‘هل تريد أن تمسك بيدي؟’
ولما لم يمنعه إياندرُوس الذي كان يحملها، أيقن أنه لم يخطئ الفهم.
فأمسكت ثيل بكلتا يديها يد الرجل العجوز، وأخذت تمرر أصابعها الصغيرة على راحته بحنو قائلة:
“سعيدة أنني استطعت مساعدتكم… إنه أمر يثلج الصدر. لقد بذلتم جهداً عظيماً، شكراً لكم.”
لقد رأت بأم عينيها خلال مقامها هنا كم كان إيلرام يحرص على أبناء قومه، كم كان يحبهم ويعطف عليهم…
فانهمرت من عينه دمعة ساخنة. كانت دمعة ارتياح وفرح معاً.
مسح عينيه بيده الأخرى، وهو يتمتم بالشكر مراراً.
عندها تكلّم إياندرُوس الذي كان يراقب المشهد بهدوء:
“سترسل الإمبراطورية رجالا قريباً. سيساعدون على استقرار هذه الأرض.”
لقد عاش أبناء السلالة في الظلام زمناً طويلاً، ولم يكن سهلاً عليهم التكيّف فجأة مع الحياة في النور. كانوا بحاجة إلى من يرشدهم ويهيّئ لهم السبل.
إضافة إلى ذلك، فقد خسروا عدداً هائلاً من الأرواح، وكان لا بد من دفن الموتى بكرامة.
فرسان إياندرُوس مع فرسان آرنيه شرعوا بالفعل في أداء هذا الواجب، لكنه لم يكن كافياً.
فاستقرار الأرض يحتاج إلى رجال كُثُر، وإلى وقت طويل، وإلى موارد طائلة.
ومن الطبيعي أن تأخذ إمبراطورية كراشيون بهذا الدور.
انحنى إيلرام ثانيةً أمام إياندرُوس تعبيراً عن الامتنان.
“أشكرك يا صاحب السمو على نعمتك.”
“هذا أمر بديهي.”
ابتسم إيان ابتسامة خفيفة، وكأنّ الأمر في نظره حقاً ‘بديهي’. ثم ألقى نظرة على ثيل وكارل، قبل أن يوجّه بصره نحو إيلرام قائلاً:
“لكن… لدي ما أودّ مناقشته، ويبدو أن هذا المكان غير مناسب للحديث.”
أومأ إياندرُوس برأسه.
فقال إيلرام: “تفضلوا من هنا، سأقودكم إلى مكان هادئ.”
فتفرّق باقي أبناء السلالة. وأخذ إيلرام يقود إياندرُوس ومعه ثيل، ولوديان، وبيردي، نحو بيته.
أما أوليفيا وكليمنس، فقد أبدتا عدم اهتمام بحديث إياندرُوس، وقالتا إنهما ستقضيان الوقت في التجول، متسائلتين ما إذا كان بوسع كليمنس إعادة إنبات النباتات الذابلة في هذه الأرض باستخدام قدرتها.
وكان إيان نفسه فضولياً في ذلك، فأذن لهما بالتجول.
وفي تلك اللحظة…
“أنت هناك، تعال معنا.”
أوقف إياندرُوس كارل الذي كان يحاول التسلل ليلحق بأوليفيا وكليمنس.
“مَن… أنا؟”
“نعم، أنت. تعال.”
نظر كارل نحو إيلرام، الذي أشار له بيده كي يلتحق بهم، فمشى الفتى صامتاً برفقتهم.
“تفضلوا.”
قادهم إيلرام إلى نفس المكان الذي اجتمعوا فيه أول مرة، لكن بزوغ الشمس جعله يبدو مختلفاً كلياً عن السابق.
دعاهم إلى الجلوس على الأرائك الخشبية، ثم جلس هو الآخر. جلس إياندرُوس أولاً، ووضع ثيل بجانبه.
وجلس بيردي ولوديان بمحاذاتهم، بينما جلس إيلرام وكارل في الجهة المقابلة.
قال إياندرُوس مباشرة:
“سأدخل في صلب الموضوع. أعلم أنّ هذا الصبي هو وريث إيفرارد.”
“…….”
التفت إيلرام بصمت نحو كارل. فارتجف الفتى فجأة، ثم لوّح بيديه مرتبكاً قائلاً على عجل:
“لستُ… لم أكن أقصد استخدام قدرتي عمداً، أنا فقط…”
فقاطعه إياندرُوس: “لا حاجة لتبرير نفسك يا كارل. لن ألومك.”
ابتسم إيلرام نحو الفتى بعطف، ومدّ يده الكبيرة ليضعها على رأسه.
أغمض كارل عينيه للحظة، بينما راحت يد الرجل العجوز تمسح بخفة على شعره المائي اللون.
وكانت أشعة الشمس تجعل خصلاته اللامعة تزداد صفاءً، وكأنها مياه صافية تتماوج تحت يد إيلرام.
“كنتُ أتوقع أنكم ستكتشفون الأمر.”
“منذ متى؟”
“منذ أن عادت المياه لتجري في القناة.”
“…أيها العم.”
رفع كارل عينيه إلى إيلرام، فابتسم الأخير له ابتسامة دافئة، ثم التفت نحو إياندرُوس وقال:
“هل تعرف السبب الذي أدى إلى إفناء بيت إيفرارد؟”
“إلى حدّ ما.”
“في الحقيقة، ما خفي عن الناس بخصوص إيفراد وأركاديا أكثر مما هو معروف. عائلتي كانت منذ أجيال طويلة من البيوت الخادمة المكرّسة لحماية إيفرارد.”
تحدث إيلرام بنبرة ثابتة. اتسعت عينا كارل وهو يصغي، فهذه أول مرة يسمع فيها هذه القصة. وكذلك فعلت ثيل.
أصغى الجميع باهتمام إلى حديثه.
وتابع إيلرام قائلاً بلهجة خالية من الانفعال:
“السبب في أن أركاديا فقدت نورها واسمها، كان شخصاً من آل إيفرارد.”
“نعم، أعلم ذلك.”
“…لكن لم يكن ذلك خطأ العائلة كلها. لقد فعلوا كل ما بوسعهم لتدارك الكارثة. ودفعوا الثمن… بإفناء نسلهم كله.”
كان هذا كله قد جرى قبل مولد إيلرام بزمن بعيد، لذلك خرج صوته محايداً، جافاً كقارئ كتاب.
لكن رغم ذلك، بدا في نبرته صلابة لا تقبل الشك في ما يرويه.
“المشكلة أن السُّوين في هذه الأرض لا يعرفون الحقيقة. إنهم يظنون أن إيفرارد هو من جلب الخراب. يعتقدون أن سلب الصباح، ومحو الاسم… كان كله بسبب إيفرارد.”
“وذلك طبيعي، فصاحب اسم إيفرارد هو حقاً من استدعى الكائن الشرير.”
“لكن بقاء هذه الأرض مرهون بوجود إيفرارد. فجميع السُّوين المقيمين هنا لا يعيشون إلا تحت سلطان الماء… والماء لا يقوم إلا ببيت إيفرارد.”
جذب إيلرام كارل إليه برفق، فغاص جسد الفتى النحيل بين ذراعيه العريضتين.
“لهذا السبب أبقى آخر سيد من آل إيفراد ابنه لِمَن يأتي بعده… مستخدماً الطريقة الموروثة جيلاً بعد جيل في بيت الماء، بيت إيفرارد.”
“…ماذا؟”
“كارل هو ابن ريناتو فيرهيليو إيفراد، آخر سيد من آل إيفراد الذي أُبيد قبل مئات السنين.”
—
[فوق ما توقعت… لم يخطر لي أن وريث إيفراد ما زال حياً.]
تردّد الصوت في أعماق الظلمة، غليظاً مجلجلاً، لكن دون نبرة غضب. كان السواد يتشقق ثم يعود ليتجمع، في موجات متلاحقة.
[غير أن الغاية قد تحققت. ما خسرناه مؤسف، لكن لا حاجة للأسف.]
تكوّر الظلام من جديد، واتخذ هيئة يد هائلة. امتدت اليد السوداء تتحسّس بشرةً شاحبة متجمدة.
وهناك، في عمق العتمة، وقفت امرأة كأنها جثة منسية.
شَعرها الذهبي يلمع بوميض باهت، وعيناها الخضراوان كزمرد خامد. ملامحها الحادة، وشفاهها المنطبقة، تشي بأصل نبيل؛ لكن وجنتيها الغائرتين بلا دماء لم تنقصا من جمالها البارد.
كانت تحدّق في السواد بعينين زجاجيتين لا بصر فيهما.
وقال الصوت، والظلام يمسح على خديها كمن يُدلل طفلاً:
[ستحتاجين إلى وقت لتستعيدي قوتك. لم تتمكني من قتل ذلك الصغير… لكن لا ضير. حين تملكين قوتك كاملة… لن يكون ذلك الغلام نداً لك.]
وانفجر في الظلام ضحكٌ ممزق، يخترق العدم كالسكاكين.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "122"