“…تبا! إن البقع تنتشر بسرعة كبيرة. إن استمر الأمر على هذا النحو….”
تمتم إيلرام وهو يتفحص حالة الفتاة الصغيرة التي كان يحتضنها بين ذراعيه. فقد امتدّت البقع حتى عنقها بالفعل.
وسرعان ما سيغطي ذلك المرض جسدها بأكمله. ارتجفت يد إيلرام وهو يضمها إلى صدره.
لم يكن بوسعه أن يفعل شيئاً.
لم يكن أمامه سوى أن يمسك بيدٍ تتلوى من الألم، لا أكثر. اجتاحته موجة خانقة من العجز واللا جدوى.
‘هل هذا هو المصير؟ هل هذه الأرض ستتجه إلى زوال؟’
كانت على جسد إيلرام هو الآخر بقع داكنة. صحيح أنها لم تنتشر بسرعة كتلك، لكن عاجلاً أم آجلاً ستزحف هي أيضاً لتغمر كامل جسده.
ارتفعت من هنا وهناك أنينٌ مكتوم. وتخلله بين حين وآخر صراخٌ يائس، صراخ من فقدوا أعزّ الناس إليهم.
لقد كانت ساحة فوضى وجحيمٍ حيّ.
حلّ على رؤوسهم يأسٌ أثقل من الظلام، وظلمة خُيّل لهم أنها لن تنقشع أبداً.
وفي تلك اللحظة…
“إي… إيلرام سيدي!”
ناداه صوتٌ من بعيد. رفع بصره بصعوبة عن وجه الفتاة، والتفت.
وانفتحت عيناه بدهشة عارمة.
“ك… كيف….”
انسدلت على وجهه أشعة شمسٍ ندية كنسيم الصباح.
ومن وراء التلة، أخذ الضوء يمتدّ رويداً رويداً حتى غمر السوين.
كانوا جميعاً ممن عاشوا حياتهم في الظلمات، لكنهم لم يجدوا في أنفسهم القدرة على تجنّب النور أو غض الطرف عنه، بل ظلوا يحدّقون مأخوذين في قرص الشمس الصاعد.
كادت أعينهم تعمى، ومع ذلك لم يستطيعوا صرف النظر عنه.
عندها…
“ا… انظروا هناك!”
التفت إيلرام ثانيةً نحو مصدر الصوت. كانت الإشارة إلى القناة القديمة، تلك التي جفّت منذ زمن بعيد.
في عهد إيفرارد، حين ازدهرت هذه الأرض، كانت تلك القناة شريان حياة… أما الآن فقد صارت تراباً قاحلاً.
ومع ذلك، فقد عاود الماء الجريان فيها. ضحلةٌ كانت، نعم، لكنها مياه حقيقية.
ارتدّ بريق الشمس على سطحها، فتألّقت كالجواهر المتناثرة، ولمع البريق في آلاف الموجات الصغيرة.
شُدّ إيلرام بالمنظر حتى غاب عن وعيه لحظة، ثم وبلا شعور ضمّ الفتاة الصغيرة إلى صدره أكثر.
حرص أن يحجب جسدها عن أشعة الضوء حتى لا تلامس بشرتها.
فأهل هذه الأرض مسّهم داءٌ غريب، إن رأوا النور قضوا نحبهم.
صحيح أن طلوع الصبح بدا كالمعجزة، لكن كان لا بد من نقلهم سريعاً إلى مكان آمن لا تنفذ إليه أشعة الشمس.
“إيرين! علينا نقل المرضى حالاً!”
“سأساعدك!”
حمل إيرين أحد المصابين المغمى عليهم على ظهره. أما إيلرام فخلع سترته ليغطي بها وجه الفتاة، فلا يصيبه النور.
وانقسم الباقون إلى فريقين: فريقٌ هرع مثل إيلرام منكمشاً بجسده نحو الداخل، وفريق آخر جلس مذهولاً في مكانه يحدق في الشمس المشرقة.
“حتى لو أفقدني بصري… فلا بأس…”
تمتم أحدهم بهذه الكلمات. شعر إيلرام أن صوته يردّد ما في قلبه. فهم جميعاً كانوا ينتظرون هذا المشهد منذ أمد بعيد…
لكن فجأة…
“انظروا! البقع تختفي!”
ارتفع صوتٌ آخر من بين الجمع.
“صحيح! البقع تتلاشى!”
“يا صغيرتي… هل عدت إلى وعيك؟ صغيرتي!”
“يا إلهي، هذا… هذا لا يُصدَّق! حقاً لا يمكن أن يكون واقعاً…!”
انفجرت الهتافات من كل صوب، فيما ظل بعضهم يتمتم غير مصدّق.
تردّد إيلرام لحظة، ثم رفع بحذر الثوب الذي كان يغطي وجه الفتاة الصغيرة.
“……!”
لقد بدأت البقع حقاً تتلاشى شيئاً فشيئاً. وفي تلك اللحظة خطرت ببال إيلرام صورة وجهٍ ما.
كانت فتاة صغيرة، يصعب أن يصدّق المرء أنها من السلالة المفترسة.
شعرها الأبيض الناعم يتصبب عرقاً بينما تستنزف قواها في استخدام قدرتها، كل ذلك بإخلاص صادق لمساعدتهم.
طفلة بدت وكأنها خيط نور نسج بعناية.
كان أهل هذه الأرض إذا مسّهم النور هلكوا، غير أن ضوء ثيل لم يكن يسلب حياتهم.
بل كان يزيح عنهم ستار الظلام الذي خيّم عليهم، ويمحو البقع التي نخرت أجسادهم.
رفع إيلرام رأسه إلى الشمس التي أشرقت للمرة الأولى منذ مئات السنين. ضوء ساطع كاد يعمي الأبصار.
لكن عينيه لم تؤلمانه. ظل يحدق دقائق طويلة، دون أن يجد في الضوء ألماً. كان مشابهاً… للضوء الذي أبدعته ثيل.
‘آه… لقد فعلتها.’
الطفلة التي وُهِبت قدرة النور جاءت لتُعيد الصباح إلى أرضٍ لم تعرف الفجر منذ أمد بعيد.
أسطورةٌ قديمة طالما حملت السوين على الصبر، ها هي تستقر أخيراً في قلوبهم.
كان كارل يحدّق في الشمس المشرقة بوجه شاحب مذهول.
قضى عمره كله في الظلام، فكان يفترض أن يؤذيه الضوء، ومع ذلك ظل مشدوهاً يرقب الفجر دون أن يرمش.
“كيف يمكن….”
طالما تخيّل كارل هذا المشهد في قلبه:
أن تشرق الشمس من وراء هذا التل… وأن يهرع أهل الأرض جميعاً، هو نفسه بينهم، ليشهدوا الفجر.
صحيح أنّ الذين حلم بمشاركتهم هذا المشهد لم يكونوا معه، إلا أنّ عاطفة جياشة غمرت صدره حتى كاد يختنق.
لقد عاد الصباح إلى أركاديا.
وسيستعيدون حتى الاسم الذي فقدته هذه الأرض.
ولن يُضطر أبناء السوين بعد الآن للعيش في الظلمات، ولن تعود هناك بقع…
“ماذا عن البقع؟”
سارع كارل فرفع كمّه.
كان الضوء فيما مضى يُنبت البقع على الجلد.
لكن جسده هذه المرة كان نقياً.
“اختفت البقع…”
تمتم كارل. ولحقه صوت أوليفيا متمتماً بدوره:
“هذا جنون… كنت أعلم أن ثيل مميزة، لكن لم أتخيّل أنها بهذا القدر من العظمة…”
رفعت الفتاة شعرها الرمادي المجعَّد خلف أذنها، وألقت نظرة على ابنة خالها الصغيرة.
وكليمنس أيضاً، لم تكن أفضل حالاً. فقد أمسكت بيد أوليفيا بقوة، وكأنها تتأكد أنها ليست تحلم.
إنّ ثيل أستاريان، الابنة الصغرى لعائلة أستاريان، والتي لم تتجاوز السابعة، لم تكن مجرد طفلة…
لقد امتلكت قدرة النور، وأثبتت أنها أقدر مما تصوّر الجميع.
فماذا سيقول بقية السلالات حين يعلمون أن طفلة في السابعة هي التي أعادت الضوء إلى هذه الأرض؟
‘لقد كانت أمي على حق.’
أغمضت كليمنس عينيها ببطء، ثم فتحتهما. وامتلأت عيناها الخضراوان بندى الصباح، وتألقت فيهما صورة تلك الطفلة الصغيرة تحت الشمس.
أما بيردي ولوديان، وأبناء أستاريان الآخرون، فكانوا أكثر تماسكا. فقد عرفو بالفعل روعة قوة أختهم الصغرى.
ومع ذلك، لم يستطع لوديان أن يكبح انفعاله، فأسرع راكضاً نحو المذبح، فيما فاضت على شفتي بيردي ابتسامة عجز عن إخفائها.
كان وجه ثيل يفيض اعتزازاً كأنها ستنفجر فخراً.
مدّ لوديان يده إلى المذبح، عاجزاً عن أن يخطو فوقه، فاكتفى بأن يلمسه براحة كفه.
ثم ابتسمت بخجل، فاحمرّت وجنتاها البيضاوان الطريّتان.
تقدّم إياندرُوس خطوة، ووقف إلى جانب لوديان، ثم ألقى نظرة نحو ثيل وابتسم ابتسامة قصيرة.
“كنت أعلم منذ زمن أنك مميزة، يا ثيل… لكنك حقاً تفاجئينني في كل مرة.”
ضحكت ثيل مسرورة بمدحه، ثم قالت بحماسة:
“بما أنّ كارل بخير، فربما يكون باقي السلالة في الأسفل بخير أيضاً تحت هذا الضوء! علينا أن ننزل بسرعة ونتأكد من ذلك!”
وانهضت ثيل فجأة من مكانها. وما إن ارتفعت راحتاها وراحة كارل عن المذبح، حتى بدأ المذبح يهتز من جديد.
كُوُوُغُونغ—!
راح المذبح يهبط ببطء إلى أسفل. فقدت ثيل توازنها، فتعثرت في مكانها.
“آه!”
وفي النهاية سقطت جالسة على الماء، فتطايرت قطرات رذاذ خفيفة حولها. قفز بيردي ولوديان وإياندرُوس بسرعة فوق المذبح المائل صوبها.
“كان عليك أن تكوني أكثر حذراً!”
وكان أول من أسرع إلى احتضانها هو إياندرُوس. ضمّها إلى صدره، يوبخها بخفة.
التصقت به الصغيرة المبللة وهي تتحرك بتململ، ثم ابتسمت بخجل.
“لم أستطع أن أسيطر على نفسي…”
“انظري إلى نفسك، ملابسك مبتلة تماماً! والآن حتى ثيابي ابتلّت بك…”
“ملابسي مبللة منذ البداية أصلاً. أما ثيابك، فقد ابتلّت منذ أن وقفت بجوار المذبح…”
“متى أصبحتِ تجادلين كثيراً هكذا… يا ثيل أستاريان؟”
نظر إليها إيان نظرة ماكرة لا تخلو من حنان، ثم شدّ بخفة خدّها الطري وتركه.
فضحكت ثيل بفرح، وتعلّقت بعنقه بقوة.
وكانت أشعة الصباح تنسكب على رؤوسهم، تتكسر على قطرات الماء فتجعل الأرجاء كلها تتلألأ كنجوم السماء ليلاً.
كُوُوُغُونغ—.
وأخيراً، توقف المذبح تماماً عن الحركة.
ففي البداية حين جاؤوا، كان بارزاً عن الأرض، أما الآن فقد غاص عميقاً فيها كأنه عاد ليستريح بعد أن أنجز مهمته.
وقف كارل ينظر إليه بدهشة، ثم التفت إلى الصبية الثلاثة وهم يحملون ثيل في أذرعهم، ثابتين الخطى رغم اهتزاز المذبح.
خرج من شروده سريعاً وأسرع ليلحق بهم.
وفي كل خطوة يخطونها بين الماء، كانت الرذاذات تتناثر، تصنع جلبة طفولية مبهجة.
غير أن أحداً منهم لم يلتفت إلى بنطاله المبتل، ولم يتذمّر أحد من ابتلال ملابسه.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "121"