تأوه هيرود بخفوت، ثم امتلأت الغرفة فجأة بضوء ساطع. انطلقت خيوط من النور من كفّ تييل، وامتدت لتغلف جسد هيرود بنعومة وحذر.
كان مشهدًا مذهلًا بحق.
مع أن الضوء لا يمكن أن يمتلك وعيًا، إلا أن النور المنبعث من يد تلك الطفلة الصغيرة بدا وكأنه كائن حي، إذ اجتمع حول جسد هيرود كما لو كان ينجذب إليه بإرادة خاصة.
عندها فقط تمكّن الجميع من رؤية وجه المريض المستلقي على السرير بوضوح. بدا عليه الوهن الشديد من طول المعاناة، وكانت بقع داكنة قد امتدت على وجنتيه، حتى خُيّل للناظرين أنه ميت بالفعل.
لولا أن هيرود ابتسم وهو ينظر إلى الضوء، لظنّ معظم من في الغرفة أنه فارق الحياة.
لم تنطق تييل بأي كلمة، بل اكتفت بإضاءة المكان لهيرود وإيلرام، لتتيح للأب وابنه فرصة الحديث بهدوء.
اقترب إيلرام من رأس السرير، ومدّ يده المرتجفة يتحسس خدّ ابنه.
لم يسبق له أن رأى وجه ابنه في مكان بهذا القدر من الإشراق.
كان وجه هيرود أشد بياضًا مما تخيّل، وعيناه سوداوان كأعمق ظلمة، لكنهما لم تبثّا فيه أي شعورٍ بالنذير أو الشؤم.
لطالما تساءل إيلرام في قرارة نفسه عن الجهة التي ينظر إليها هيرود، وغالبًا ما عجز عن تحديدها. واليوم فقط، أدرك السبب.
‘عيناه سوداوان أكثر مما تصورت… ولهذا، لم يكن بوسعهما عكس أي ضوء وسط الظلام.’
“هيرود······.”
ناداه إيلرام بصوت خافت، وهو يربّت على خده الشاحب، فغمض هيرود عينيه بخفة كأنما يستجيب لنداء أبيه.
“ابني العزيز.”
انحنى إيلرام حتى لامس جبين ابنه بخده المتجعد، الذي ابتلّ سريعًا بدموعه. راقبهم كارل، وإيرين، وبقية الأطفال بصمتٍ مهيب.
‘لقد تمنّيتُ معجزة بكل جوارحي.’
‘تمنّيتُ أن تشرق شمس هذه الأرض، أن يزول عنها الظلام، أن ينبثق فيها النور، كي يتمكن ابني من العيش تحت ضوء النهار…’
لكن المعجزات، إن لم تتزامن مع واقعٍ ملائم وزمانٍ مناسب، فلا تعدو كونها حفنة رمال تتلاشى في الريح.
لقد ظهرت فتاة، امتلكت قدرة على تجلّي النور. وربما، فقط ربما، تكون قادرة فعلاً على تبديد الظلمة التي خيّمت على هذه الأرض وجلب الضوء إليها.
‘لكن، ماذا ينفع النورُ أولئك الذين لم يعودوا قادرين على العيش في ضوئه؟’
رغم ذلك، شعر إيلرام بامتنانٍ عميق نحو تييل. فقد كان حلم ابنه الأكبر أن يرى نورًا حقيقيًا، ولو لمرة واحدة في حياته. وها هو حلمه يتحقق… قبيل موته.
وكل ذلك بفضل هذه الطفلة الصغيرة.
“أحببتك… أحببتك حبًا عظيمًا.”
همس الأب بكلمات في أذن ابنه. فردّ الابن المحتضر بأقصى ما يملك من قوة، قابضًا على يد أبيه.
“أبي······.”
نطق هيرود بخفوت، يناديه بتردد. كانت هذه أيضًا أول مرة يرى فيها وجه والده في ضوء ساطع كهذا. بدا له والده أكبر سنًا مما كان يتصور، وأثقل عليه هذا الشعور بالحزن.
عندها، حدث ما لم يتوقعه أحد.
“هاه······؟”
كان أول من لاحظ التغيير الطارئ على جسد هيرود، ليس إيلرام ولا تييل، ولا حتى هيرود نفسه… بل كارل، الذي كان يقف على مقربة.
شهق كارل مشيرًا بإصبع مرتجف نحو هيرود، وعيناه متسعتان بالدهشة:
“البقع التي كانت على وجه هيرود…!”
رفع إيلرام رأسه على الفور، ينظر إلى وجه ابنه. استدار جميع من في الغرفة في اللحظة ذاتها نحو هيرود.
البقعة الداكنة التي كانت تغطي أكثر من نصف وجهه بدأت بالاختفاء… بهدوء، تحت ضوء النور.
“هيرود!”
هتف إيلرام ، وهرع ليحتضن وجه ابنه بكفّيه. كانت البقعة تتلاشى ببطء، ثم بدأت تتسارع أكثر فأكثر… حتى بدأت بشرته تستعيد لونها الطبيعي أمام أعين الجميع.
“······ما هذا بحق ······؟”
تحوّل وجه الرجل، الذي كان قد استشعر الموت، إلى تعبير مذهول ومشوش. أما إيلرام، فلم يبالِ بابنه، وبدأ بتمزيق قميص ولده وكأنه ينزعه عنوة.
“أ-أبي!”
“يا إلهي······.”
كانت البقع السوداء التي غطّت جسده بالكامل تتلاشى تدريجيًا، وكأنها تذوب من تلقاء نفسها.
‘كل أولئك اختفوا عندما لامستهم أنواري. لذا من المحتمل أن يكون الظلام الذي ينهش أجساد سكان هذا المكان كذلك. هل يمكن أن تسمح لي، لمرة واحدة فقط، بأن أراهم؟’
لقد كانت كلمات تييل صحيحة.
الظلام الذي كان يسلبهم حياتهم بدأ يتلاشى بسرعة مدهشة تحت نور هذه الفتاة الصغيرة.
“تييل.”
وضع بيردي يده برفق على كتف شقيقته الصغرى. فأومأت تييل برأسها بعدما رأت البقع السوداء تتلاشى عن جسد هيرود، ثم رفعت ذراعيها عاليًا.
تجمّع النور في كفيها وارتفع طافيًا في الهواء، لينير الغرفة بشكل أكثر إشراقًا.
ومع ذلك، لم يكن مؤلمًا أو باعثًا على الانزعاج للعيون. شاهد كليمنس وأوليفيا، ولوديان وإيان، من على بُعد، المشهد غير المصدق حيث ضمّ إيلرام ولده هيرود على سرير المرض.
أما كارل وإيرين، فقد نظروا أولًا إلى هيرود وإيلرام، ثم إلى النور المتماوج بين يدي تييل.
لقد جاءهم المعجزة في لحظة لم يتوقعوها، وبصورة أصغر بكثير مما تخيلوا.
لكن كونها صغيرة لم يُنقص من معناها شيئًا، ولم يجعلها أقل شأنًا أو وضوحًا.
حدّق كارل في عيني الفتاة الذهبيتين اللامعتين تحت ضوء النور، وكان ذلك من أجمل، وأبهى، وأكثر ما رآه روعة في حياته، حتى إنه لم يستطع أن يحوّل نظره عنها لفترة طويلة.
شعر بشيء ساخن يصعد إلى حلقه حتى كاد أن يختنق، لكنه حاول أن يبتلعه بصعوبة. لم يكن يريد أن يُظهِر دموعه في هذه اللحظة السعيدة، حين عاد هيرود إلى الحياة.
ولمّا رأته تييل وهو يفرك عينيه الحمراوين بكمّ قميصه بإلحاح، التفتت إلى الفتى الذي يقاربها في الطول، وابتسمت له ابتسامة مشرقة.
المعجزات تأتي، في نهاية المطاف، لأولئك الذين يتمنونها بإخلاص.
وليس بعد فوات الأوان.
—
‘······لا يُصدّق!’
انفجر صوت غاضب من أعماق الظلام. كان صداه يهدر ويهتزّ وهو ينتشر كموجات من أعمق مكان مظلم، فيتسبب في ضجيج بأذانهم.
كانت تلك الفتاة الصغيرة الآن في قلب “أركاديا”، وهي أراضيه التي ابتلعها الظلام.
بمعنى آخر، كانت واقفة في صميم نفوذه.
ولهذا، كان من المفترض أن تبتلعها الظلمة كما يشتهي، أو أن تضيع إلى الأبد في متاهاتها الحالكة······
‘لكن لماذا، بحق الجحيم، تعيق تلك الصغيرة خطتي العظمى؟! كيف لفتاة بالكاد أكملت عامها السابع أن تفسد مخططي؟! بأي مهارة أو قدرة فعلت ذلك؟!’
سبع سنوات فقط. وقت قصير للغاية لا يكفي لأي نضج.
وفوق ذلك، لم يمضِ على إدراكها لقواها حتى عام واحد. كانت مجرد طفلة.
ومع ذلك، فها هو ذا، في قلب أراضيه أركاديا، يعجز عن استخدام قواه، بل إنّ قواه بدأت تضعف تدريجيًا.
لقد اعتاد أن يزداد قوة عبر امتصاص طاقة الحياة من سكّان أركاديا من السوين وسائر الكائنات.
صحيح أنه استهلك الكثير مؤخرًا في محاولاته لإيقاف تلك الطفلة، لكنه لم يكن على وشك النفاد. ولم يكن ينوي أن ينفد.
كان ينوي أن يبقيهم على قيد الحياة لوقت طويل، يمتصّ قواهم تدريجيًا.
فحياة السوين وغيرها طويلة ومتماسكة، وستُبقيه متغذّيًا إلى الأبد، يتكاثرون وينجبون مزيدًا من النسل، ليزداد هو قوة مع الزمن.
ولكن…
‘قواي تضعف······.’
كانت قوته تضعف شيئًا فشيئًا. بسبب حجر صغير مضيء تجرأ ودخل إلى أراضيه. بسبب شمعة ضئيلة، بسبب نور ضئيل، بل في النهاية… بسبب شيء صغير لا يُؤبه له!
‘لا يمكن أن أترك الأمر هكذا······.’
ذلك الشيء الصغير لم يكن بعد قادرًا على محو الظلام المتراكم في تلك الأرض منذ زمن طويل. لا يزال غضًّا، غير مكتمل النضج، وربما لا يستطيع سوى إزالة الظلام من حوله وحسب.
ومع ذلك، لم يكن بوسعه استبعاد احتمال أن يتمكن هذا الكائن الصغير من تحقيق ما هو أكثر من ذلك. فقد خالف توقعاته مرة تلو الأخرى، رغم أنه لم يعش أكثر من سبع سنوات فحسب.
وكان هو من أولئك الذين يحبون الاستعداد لكل الاحتمالات. قد يخسر إن لم يستعد، أما إن استعد، فلن يخسر شيئًا.
‘لا مفر… سأضطر إلى سحب كل شيء······.’
تمتم الظلام بهذه الكلمات. كان صوته البارد يتصاعد مثل ضباب الماء، متمددًا في الأماكن المنخفضة، كثيفًا وثقيلاً كما لو كان مشبعًا بالرطوبة. وكان من ثقله يبدو كأنّه سيغوص في أي لحظة نحو الأعماق.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "116"