إذن، لم يكن هناك شكّ، كان طفلاً صغيراً.
بطبيعة الحال، لم يكن وجود الأطفال غريباً في هذه الأرض، إذ إنّ “السوين” يعيشون هنا أيضاً. لكن، مع ذلك…
“ما حاله؟”
قالت أوليفيا وهي تتقدّم لتقف حاجزاً أمام إياندروس وثيل تحسباً لأي طارئ. حدّقت ثيل في وجه الصبي.
‘…لقد أصيب.’
بدا وكأنه تدحرج أرضاً أو سقط من مكان ما، إذ كانت وجنتاه الغضّتان مملوءتين بجراح صغيرة متفرقة، أما ثيابه فقد تمزّقت بشكل رثّ، حتى إن أجزاء من جسده كانت بادية للعيان.
مكثت ثيل لحظة تتأمل هيئته، ثم ربّتت بخفّة على ذراع إياندروس، في إشارة إلى أن يُنزلها.
“لا.”
“…”
“أردتِ أن تنزلي لتتفحّصي حاله، أليس كذلك؟ وماذا لو كان في الأمر خطر؟ لا.”
كان رفض إياندروس حاسماً. بل إنه أحاط ثيل بذراعيه بإحكام أكبر، وكأنه يخشى أن تفلت من بين يديه لتقفز نحوه.
“يا إلهي…!”
تنفست ثيل بتذمّر، ثم عدلت عن فكرة النزول من بين ذراعيه. اكتفت بأن لوّحت بيدها قليلاً فاندفعت إحدى السمكات نحوها.
‘بما أنّ الشمس لا تشرق هنا، فلا بد أنّه غير معتاد على مثل هذا الضوء…’
صحيح أنّ نور ثيل لم يكن كسائر الأضواء، فهو لم يكن يؤذي العين مهما أشرق، لكن ثيل لم تكن تدري بذلك بعد. لذلك ظنّت أنّ انقباض ملامح الصبي كان بسبب انبهاره بنورها المزعج.
“لا… لا تفعلْ…”
غير أنّ الصبي بدا نافراً من محاولتها. وما إن بدأ الضوء يخفت مبتعداً ببطء حتى ارتبك وفتح عينيه على اتساعهما، مسرعاً بخطوات مضطربة نحوهم.
وهنا، تمكّن الواقفون من رؤية لون عينيه بوضوح. كان لوناً… بلون الماء.
“…نيستيان؟”
تمتم لوديّان. لكن بيردي هزّ رأسه نافياً.
“لا. إنه يشبه النيستيان… لكنه مختلف.”
فالنيستيان يولدون بعيون زرقاء فاتحة، شفافة كالجليد الصافي. أما عينا الصبي فلم تكونا كذلك، بل أعمق وأقرب إلى زرقة بحرٍ قاتم.
“إنه يشبه البحر تماماً.”
تمتمت كليمنس، فأومأ الأطفال برؤوسهم موافقين، ما عدا ثيل التي لم ترَ البحر من قبل. أجل، عينا الصبي كانتا كأمواج بحرٍ عاصف يوشك أن يبتلع كل شيء.
وفي أذهانهم جميعاً ارتسم سؤال واحد:
‘من يكون هذا الطفل؟’
أيّ طفل هذا الذي يحمل عينين بهذا اللون، وشعراً لا يشبه ألوان العامة ولا ألوان الأسر النبيلة التي يعرفونها؟ لم يخطر ببالهم اسم عائلة تتخذ هذا اللون شعاراً لها…
“أنقذوني… أرجوكم…”
تمتم الصبي بخطوة أخرى إلى الأمام. لكن صوته كان خافتاً، ضعيفاً، بالكاد يصل إليهم.
“لا تقترب أكثر. إن خطوت خطوة إضافية فسأعتبرك عدواً.”
قال قائد الفرسان بصرامة وهو يتقدّم ليحجب الأطفال خلفه. عندها تراجع الصبي مذعوراً، جسده الصغير يرتجف. وللحظة، شعر القائد بشيء من الشفقة نحوه.
كان الصبي أصغر كثيراً من إياندروس أو بيردي أو لوديّان، بل بدا أقصر حتى من أوليفيا وكليمنس. بالكاد كان في طول ثيل ، وربما أطول منها بقليل.
‘لكن لا يمكن المقارنة بآنسة ثيل ، فهي صغيرة للغاية.’
رفع قائد الفرسان نظره إلى الصبي من علٍ. لم يبدُ أكبر من سبعة أعوام. ورغم ما اعترى قلبه من شفقة، إلا أنّه لم يستطع أن يسمح له بالاقتراب من الأطفال أكثر.
كانت هذه أرضاً خارجة عن رقابة القصر الإمبراطوري، أرضاً مجهولة لا يعرفها الكثيرون، يقطنها “السُوّين” الذين لا يختلطون بالعالم الخارجي. أرض لا يشرق عليها الصباح أبداً.
ولذلك لم يكن بوسعهم السماح لصبي مجهول بأن يقترب على هواه. لكن فجأة، مدّ الصبي يده وأمسك بمعصم قائد الفرسان.
“آه؟”
“أرجوك… أنقذني، أنقذني… أرجوك!”
انحدرت الدموع بغزارة على وجنتيه الصغيرتين، حتى ابتلّتا بلحظة. ارتبك القائد لدرجة أنّه لم يفكر في إبعاد الصبي عن نفسه. كان فارساً مدرَّباً، نعم، لكنه لم يتلقَّ في حياته تدريباً على كيفية التخلّص من قبضة طفل في السابعة أو الثامنة.
وفوق ذلك…
“…يطلب النجدة؟”
الكلمات المرتجفة الممزوجة بالبكاء جعلت من المستحيل تقريباً أن يصدّوه أو يرفضوا توسّله.
هذه المرة، سمع الأطفال الواقفون خلف القائد صوت الصبي بوضوح تام، لأنه جمع كل ما يملك من قوة لينطقها.
“لقد طلب النجدة!”
“علينا أن نفحص جراحه أولاً…” قالت أوليفيا وكليمنس معاً.
عندها تدخّل بيردي ولوديّان:
“لكن، ما الذي يفعله طفل وحيد في هذه الجبال؟ الأمر مريب.”
“بالضبط. هل يجوز أن نُعالجَه هكذا ببساطة؟ ثم إننا لا نعرف بعد الكثير عن السوين الذين يعيشون هنا. أليس بين طلاب الأكاديمية من يروي حكايات عن أنّهم يفترسون بعضهم بعضاً؟”
“يكفي، إلى هنا.”
قاطعهم إياندروس بصرامة. كان يعرف ذلك “القول الشائع” جيداً، لكنه اعتبر الحديث عنه أمام ثيل أمراً غير لائق.
كان في داخله يقين بأن ثيل ستطلب منه أن يُنزلها بمجرد أن سمعت كلمة “ساعدني”. ومع ذلك، حين خفَض بصره وجد عينيها الذهبيّتين تتأملانه بلمعان صامت.
“لماذا تنظرين إليّ هكذا؟” سألها.
أخذت ثيل تعبث بطرف كُمّه وهي تجيب بخفوت:
“ألستَ أنت… سموّ ولي العهد؟”
“…نعم.”
“وسموّ ولي العهد لا يتجاهل أحد رعاياه إذا مرض أو وقع في خطر، أليس كذلك؟”
“…”
كانت تدرك جيداً أنّ إياندروس لن يُنزلها أبداً، لأنه يضع سلامتها قبل كل شيء. لكنها كانت تعرف أيضاً أمراً آخر: أنّ الكلمة الأولى والأخيرة هنا تعود لولي العهد.
“ذلك الطفل جُرح كثيراً. معنا بعض الأدوية، أليس من الجائز أن نعطيه شيئاً منها؟ وإن لم تُرِدْ، فليكن أن نضع له الدواء فحسب، ثم نتركه في مكانٍ يحميه من الخطر…”
لم يستطع إياندروس إنكار الأمر. صحيح أنّه كان متردداً، لكنه لم يكن في وسعه تجاهل صرخة الاستغاثة تلك. ومع ذلك…
“ألم تتعلّمي بعد أنّ ولي العهد لا ينبغي أن يُستَخدم ويُكلف على هذا النحو؟”
“لم أتعلم ذلك بعد… ثم إنك لستَ ولي العهد فحسب، بل صديقي وحاميَّ وقر… أُووه!”
“حسناً، يكفي، يكفي.”
وضع إياندروس يده على فمها ليُسكتها، ثم وجّه نظره نحو قائد الفرسان.
كان القائد لا يزال واقفاً، يتأمل الصبي الذي لم يتجاوز نصف قامته، وهو متشبث بمعصمه.
“ليس هذا المكان مناسباً لمعالجة الجراح. سنبحث عن موضع نُضجعه فيه ونعتني بجراحه، ثم نواصل الطريق. ما دمنا نملك قدرة ثيل ، فلن نضلّ سبيلنا. هيا، فلنسرع.”
بمجرد أن صدرت الأوامر، أسرع قائد الفرسان إلى رفع الصبي المتشبث به. كأنه كان ينتظر هذه الكلمة فقط، إذ تحرك بخفة وسرعة مدهشتين.
—
كان الفرسان بارعين في العثور على موضع آمن يحتمون فيه ويستريحون. وما إن أصدر إياندروس أمره، حتى اكتشفوا غير بعيد كهفاً مناسباً.
احتياطاً، تمركز نصفهم في عمق الكهف، والنصف الآخر عند مدخله، بينما جلس الأطفال في الوسط.
“لكن… هل رافقنا طبيب أيضاً؟”
سألت أوليفيا وهي تتفحّص الفرسان. فأجابها كليمنس ولوديّان وبيردي معاً بهزّ رؤوسهم.
“الطبيب بقي في قصر آرنيه. لكن لا تقلقي، معنا طبيب عسكري.”
قال إياندروس وهو يشير إلى رجل خرج من بين الفرسان حاملاً صندوقاً ثقيلاً متيناً. كان ذلك الطبيب العسكري قد رافقهم منذ أن غادروا أستريان في بداية الرحلة.
انحنى الرجل بتحية خفيفة للأطفال، ثم جثا أمام الصبي الممدّد بينهم بلا حراك، كالجثة.
كان الصبي منهكاً إلى درجة أنّه غفا في أثناء بحثهم عن مكانٍ ليستريحوا فيه. تردّد أنفاسه الصغيرة بضعف، وكأنها على وشك الانقطاع.
“افحص حالته.”
“أمرك، سموّ الأمير.”
بدأ الطبيب العسكري بسرعة في تفحّص جراح الصبي الظاهرة. ربما كانت هناك إصابات داخلية أيضاً، لكن في هذه الظروف لم يكن بوسعه سوى معاينة ما يبدو على السطح.
أما ثيل فكانت تضيء المكان بنورها لتُسهّل عليه الفحص. وبفضل ذلك، بدا وجه الصبي المستدير اليافع جلياً تحت الضوء…
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "111"