119
الفصل 119
أملتُ رأسي قليلاً بحيرة، متسائلة.
“هل تتحدث وكأنني لديَّ خطيبٌ أصلاً؟”
أجاب رافي متلعثمًا، وعيناه ترتجفان وكأن زلزالًا اجتاحهما.
“لا، ليس لديكِ خطيبٌ رسميّ بالطبع، ولكن…!”
قاطعتُه بحزم.
“تمامًا، لا يوجد، أليس كذلك؟”
أومأ مترددًا.
“صحيح، ولكن، هناك… نوعًا ما…”
رفعت حاجبي.
“ما الذي تتحدث عنه؟”
في العادة، كان رافي ذكيًّا ومتفوقًا في الحديث، ولكن الآن بدا وكأنه فقد كفاءته. هل يعاني من شيء؟ نظرتُ إليه بقلق، مما دفعه لأن يتنهد بعمق قبل أن يقول بنبرة واثقة.
“أعني ذلك الشخص… الذي كنتِ تبحثين عنه طيلة الوقت.”
تجمدت للحظة، ثم احمرَّت وجنتاي بشدة عندما فهمت ما كان يقصده.
“لا! ليس الأمر كذلك!”
رفعت صوتي بسرعة.
“لماذا يتطرق الحديث إليه؟! لا يمكن أن أكون قد فكرتُ به بتلك الطريقة أبدًا!”
تساءل رافي مستغربًا.
“ولكن، أليس في نفس عمركِ؟”
تأوهتُ متذمرة.
“أقصد العمر العقلي! إنه أصغر مني بكثير!”
أمال رأسه بحيرة، ثم انحنى معتذرًا.
“عذرًا يا آنستي. يبدو أنني أسأت الفهم.”
أومأت قائلة.
“بالتأكيد! لا علاقة له بزواجي من الماركيز الشاب.”
كان رافي يراقبني بحذر، ثم استجمع شجاعته ليقول.
“كنتُ فقط قلقًا. الزواج خطوة عظيمة، وأنتِ صغيرة جدًا لتجعلي منه مجرد وسيلة لتحقيق أهدافكِ.”
رددتُ ببرود.
“في الوقت الحالي، كل شيء يمكن أن يصبح وسيلة لتحقيق الهدف.”
كان ذلك هو الوضع.
لقد بذل القصر الإمبراطوري كل جهد ممكن لهزيمة الشمال، وكنا دائمًا ما نتصدى لهم. ولكن، بعد ست سنوات من هذا الصراع المستمر، كانت الإمبراطورة أشبه بوحش متعطش للانتقام، تستغل الشعب بلا رحمة لجمع الموارد.
لم يكن الأمر خطأنا، ولكن المسؤولية كانت تلقي بثقلها علينا. إذا استمر الوضع لعام آخر، سيهلك نصف الشعب جوعًا.
حينها، نظر إليَّ رافي بنظرة حازمة وقال بثقة.
“الشمال سيفوز، بالتأكيد.”
أومأت بابتسامة خفيفة.
“أجل، لابد أن يحدث ذلك.”
بعد شهر، كان كل شيء على وشك التغير.
سمعت صوت خطوات تركض نحوي. كان أحد الخدم ينادي بفزع.
“آنستي! آنسة ليليان!”
توقفت والتفت إليه، وسألته.
“ماذا هناك؟”
أجاب بنبرة عاجلة.
“الأمير لورانس يطلبكِ على وجه السرعة!”
* * *
“ما الأمر يا أخي؟”
كان وجه شقيقي الثاني، الذي كان يناديني ليلى، يبدو جادًا بشكل غير معتاد.
قال بصوت ثقيل.
“الشاهد استعاد وعيه.”
حبست أنفاسي في دهشة.
الشاهد كان الشخص الوحيد الذي كان موجودًا في الغابة عندما هرب إيدن قبل ست سنوات.
في ذلك الوقت، بحث فرسان والدي في الغابة طويلاً حتى عثروا عليه. كان قد شهد ما حدث عندما اختفى إيدن، لكنه فقد عقله في الحال.
عندما وصلنا إلى الغرفة، حذرنا كير.
“عقله لم يتعافَ بالكامل بعد. لا تخفضوا حذركم.”
أومأ شقيقي وأوقفني خلفه، ثم نادى كير الشاهد قائلًا.
“سيد بيل، استيقظ. الآنسة والدوق الشاب هنا لرؤيتك.”
تحدث بيل بصوت واهن، وهو ينظر إلينا بعينين زائغتين.
“مرحبًا…”
شعرت بالتوتر، فهذا الرجل يحمل في ذاكرته المفتاح الوحيد لمعرفة مصير إيدن.
سألته بهدوء.
“قبل ست سنوات، قلت إنك رأيتَ فتى ذا شعر أسود في غابة هيرنن. هل هذا صحيح؟”
أومأ برأسه ببطء.
“نعم، صحيح…”
واصلت بحذر.
“قلت أيضًا إنك رأيتَ الفتى مع فارس يرتدي زي القصر الإمبراطوري. أليس كذلك؟”
أجاب بصوت مرتعش.
“نعم، هذا ما حدث.”
سألته بنبرة ثابتة.
“إذن، إلى أين أخذ الفارس ذلك الفتى؟”
تغيرت ملامحه فجأة، وأجاب بصوت مليء بالرعب.
“لم يأخذه… لقد مات الفارس.”
حدقت إليه بصدمة.
“مات؟”
لم تُعثر على أي آثار دماء في الموقع، باستثناء ما كان على قطعة ملابس إيدن.
“نعم… بشاعة لا تُحتمل… بشاعة مروّعة.”
بدأ وجه الشاهد يزداد شحوبًا، حتى بات أشبه بجليد أزرق ينعكس عليه نور الموت.
عينيه اتسعتا كأنهما شاهداً رؤيا من ماضٍ مرعب، تهتز داخلها زلازل الرعب.
“جسده… سحق وتحطم بالكامل… ومات بتلك الطريقة الفظيعة…”
صوت أسنانه وهو يرتجف كصوت طرقات سريعة في صمت ليل الشتاء، كمن ألقي عاريًا على ثلوج قاحلة.
“ما هذا الذي يقوله؟”
سحقت كلماته روحي كأنها ضربات مطرقة على صخر، حديثه بدا غريبًا… بل مريعًا، ليصف الموت بهذه الطريقة الغامضة.
مسحت شفتي المتيبستين وهمست بصوت متلعثم.
“وماذا عن الصبي؟”
صوتي كان مرتجفًا، يحمل استعجالًا لم أستطع كتمانه.
“ذلك الصبي… ماذا حدث له؟”
أغرق الشاهد في دوامة صمته، ثم أطلق تنهيدة ثقيلة مليئة بالعجز.
“لقد… لقد مات!”
صرخة خرجت كأنها قيء مرير من جوف روحه، وقفت مكانها متجمدة، كأن الزمن توقف في جسدي.
“الصبي أيضًا مات! كلاهما ماتا معًا!”
“كذب!”
صرخت في داخلي، رفضت تصديق هذا العبث.
رأيت في عينيه عقلًا متشظيًا، لم يكن يعلم ما يقول، لا بد أنه يهذي… لا بد أنه كاذب.
لكن الكلمات التالية شلّتني كليًا.
“أيدٍ لا حصر لها… سحبتهم… كلاهما… سُحبَا معًا إلى الظلام!”
“أيدٍ لا حصر لها.”
تردد الصدى في رأسي، يفتح صندوق ذكريات من ست سنوات مضت.
تلك الأيادي التي خرجت من ظلال إيدن، تلك الهمسات الملعونة، تغوي وتدعو.
تحول دمي إلى جليد يسري في عروقي.
كيف علم عن الأيادي؟ كيف وصف ما رأيته بعيني؟
هذه شهادة لا تقبل الشك… لكنه أمر لم أستطع تحمله.
صوتي جاء كالصرخة المليئة بالغضب واليأس.
“إلى أين؟! أخبرني، أين أخذوهما؟!”
“إلى الأسفل… إلى الأعماق…”
صوته أصبح كأنه في حلم، نبرة تشبه البوح في نوم غارق.
وفجأة…
انقلبت عينيه إلى بياض الموت، ثم خفت جسده كأنه شمعة أطفأتها الرياح.
“السيد بيل!”
أمسكت بكتفيه، أصرخ كمن يحاول القبض على آخر خيط في ظلام عاصف.
“أخبرني… ما هو هذا الأسفل؟! لا تسقط الآن! أجبني!”
لكن عينيه أغلقتا، عاد الصمت يلفه مجددًا.
“السيد بيل!”
“آنستي، توقفي فورًا!”
صوت كير جاء كتحذير عاجل، ارتسمت على وجهه علامات عجز مشوبة بالخوف.
“لو أيقظناه بالقوة، قد يتحطم عقله للأبد!”
أغلقت شفتي على صرختي، فارتعش جسدي كأنه هشّ أمام الرياح.
“مات؟”
لا، هذا مستحيل.
كيف يمكن لذلك الفتى، بتلك القوة، أن يسقط هكذا؟
لا يمكن أن يكون قد مات… ليس بهذه السهولة.
“ليلي.”
كان صوت شقيقي الثاني مفعمًا بالقلق، لكنه لم يكن متفاجئًا كما توقعت.
كانت عيناه تحملان مزيجًا من الحزن والإدراك، كأن هذا اليوم كان متوقعًا منذ زمن طويل.
“آنستي.”
استدرت على عجل، صوته خلفي كان كحبل نجاة ألقي في بحر الظلام.
لكن حتى كير… كان تعبيره مثل شقيقي، ممتزجًا بشيء من الحزن العميق.
“كنت أشك… أن النهاية ستكون كذلك.”
صوته جاء ثقيلًا، كأنه يعترف بخطأ لم يكن يريد تصديقه.
تحدث كير بنبرة ثقيلة تخفي خلفها الاضطراب.
“لقد استخدمنا سحر البحث حتى على مستوى تحليل الدماء لمدة ست سنوات كاملة. ومع ذلك، لم يُظهر السحر أي استجابة مطلقًا. الأمر يبدو واضحًا، مهما حاولنا التغاضي عنه.”
تنهّد بعمق، ثم تابع وهو يتفحص ملامح وجهي.
“الهدف الذي نبحث عنه… لم يعد موجودًا في هذا العالم. أردتُ أن أجد حتى جسدًا لتقديمه لكِ، لكن بعد ست سنوات من المحاولات الفاشلة، يبدو أن ذلك مستحيل. لذا أعتقد أنه يجب علينا إيقاف البحث السحري الآن.”
“لا.”
هززت رأسي بعزم.
“لن يتوقف. ما زلنا نوفر المواد والتكاليف، وسنستمر بذلك. لا توقفوا البحث.”
“ليلي.”
هذه المرة، ناداني شقيقي الثاني بصوت هادئ ومفعم بالحزن.
“حان الوقت لتقبُّل الحقيقة. لقد مرت ست سنوات… ست سنوات طويلة. لقد بذلتِ كل ما تستطيعينه.”
كان صوته لطيفًا ومراعيًا، كل كلماته كانت مليئة بالعطف.
أعلم أنهم يقولون ذلك لأجلي.
لكنني مرة أخرى، هززت رأسي برفض.
“لا.”
ربما يصفني البعض بالعناد الأحمق، لكنني لا أستطيع الاستسلام.
“إيدن على قيد الحياة. أعلم ذلك.”
لأنه قوي… ولأن هذا العالم الذي خُلق من أجله لن يتخلى عنه بهذه البساطة.
لكن في أعماقي، كنت أعلم الحقيقة.
أعلم أن حججي ليست سوى خيوط واهية.
وربما… ربما يكون الجميع محقين في النهاية.
عضضت على شفتي بقوة، حتى تذوقت طعم الدم المر.
* * *
بعد مرور شهر.
تسللت إحدى فرق التحرك التابعة لتحالف الشمال تحت غطاء ضباب الليل إلى قلب أراضي العدو.
هدفهم كان منجم كينيل الواقع في جنوب الإمبراطورية، وهو أكبر مصدر لأحجار القوة السحرية التي يستخدمها سحرة البلاط الإمبراطوري.
كانت تلك المنطقة واحدة من أهم مواقع الإمبراطورية، محصنة بجنود وسحرة يحرسونها بلا كلل، ليلًا ونهارًا.
حتى مع عنصر المفاجأة، كان من المتوقع أن تكون المعركة دامية ومليئة بالتضحيات.
“هذه المعركة ليست فقط مصيرية للشمال… بل للإمبراطورية كلها!”
قال قائد الفرقة بصوت صارم مليء بالعزم، بينما كانت نظرات الجنود تشع بالإصرار.
“سنخوض قتالًا نرهن فيه حياتنا وشرفنا!”
كانت هذه أول ضربة تحالف الشمال للإمبراطورية.
وفي لحظة، انطلق الجنود، سيوفهم مشرعة، قلوبهم مليئة بالحماس والغضب، متجهين إلى عمق أراضي العدو.
ولكن ما استقبلهم هناك لم يكن جنودًا على أهبة الاستعداد، ولا دفاعات سحرية محصنة.
“ما هذا؟”
همس أحد الجنود وهو يتوقف فجأة.
رائحة الدم الكثيفة ملأت الهواء، لدرجة جعلته يكتم أنفاسه.
وعندما انقشع ضباب الليل الكثيف، ظهرت أمامهم الحقيقة.
“ماذا…؟”
جثث متناثرة في كل مكان، وبرك من الدماء تغطي الأرض.
أرض العدو كانت بالفعل مغطاة بالموت.