“ليس هذا ما قصدته. أنا فقط أقول، لو كنتِ قد أخبرتينا كعائلة، لما صُدمنا لهذه الدرجة.”
سرعان ما تلاشی غرور لورين، لكنها لم تستطع إخفاء الاستياء في عينيها.
التفتت لورين بنظرها الحاد إلى هارييت.
“لكن هذا غريب. وجهكِ يبدو مألوفًا نوعًا ما، وأشعر وكأنني سمعتُ اسمكِ من قبل…”
أجابت هارييت على السؤال بنفسها.
“ربما سمعتِ عني بألقاب مثل، مثيرة المشاكل في عائلة ليسترويل، أو مثيرة الفضائح.”
“صحيح! هارييت ليسترويل تلك التي لديها ابنة عمها الجميلة…”
نظرت تريشا إلى هارييت بمفاجأة.
“يا إلهي، جديًا، الجميع يعرفكِ. دعيني أُكرّر، الأمر لا يتعلق بالمال فقط يا هارييت. ربما عليكِ شكر عمكِ على هذا!”
“لا. حتى لو اكتسبتُ بعض الشهرة بسببه، لا أظن أن لدي ما أشكره عليه.”
عند هذه النقطة، تغيّر تعبير تريشا قليلاًظ لكن لورين لم تكن تستمع إلى أي شيء من ذلك.
فكرت لورين: “تلك المرأة البغيضة تسمح لابنة أختها الكبرى، التي تعاني من فضيحة، بالعيش في منزلها؟ هذا غير معقول. ما الذي تخطط له حقًا؟”
ضغطت لورين على يديها المرتعشتين محاولة فهم العلاقة بينهما.
كان خوف لورين الأكبر هو أن تتبنى تريشا هارييت. هدّدتها تريشا ذات مرة بأنها إن تبنّت أي شخص، فسيصبح وريثها. كان الجميع يعلم ذلك، وحاول الكثيرون التقرب منها بسبب ذلك.
فكرت لورين: “اعتقدتُ أنها ستعطي كل شيء لجايدن لأنها لم تتردّد حتى مع كل الهدايا والجهد الذي بذله الناس… ولكن هل كان من الممكن أن تُغيّر رأيها؟ هذا لا يجب أن يحدث أبدًا.”
ولدت لورين من أُم محظية، عندما لم يكن لدى الكونت الراحل فيلون أي أطفال مع والدة أوستر. على الرغم من وجود العديد من المحظيات، إلّا أن لورين فقط هي التي ولدت من بينهن، وكان الأطفال نادرين في عائلة فيلون. لذلك سُمح للورين بأخذ اسم فيلون، لكن والدتها اضطرّت للعيش مختبئة في الظل طوال حياتها. ورغم أن لورين كانت تحمل اسم العائلة، إلّا أن الجميع كانوا يعلمون أنها غير شرعية. وبسبب ذلك، لم يكن بوسعها أن تتزوج إلّا من رجل أقل منها شأناً من الريف وهو ما جرح كبريائها بشدة. لذا إذا رحلت تريشا، فهذه ستكون فرصة لورين الوحيدة للسيطرة على منزل فيلون.
فكرت لورين: “سأصبح سيدة عائلة فيلون. إن لم يكن بنفسي، فمن خلال جايدن.”
ولهذا السبب ابتلعت لورين غرورها وعاشت مع تريشا طوال السنوات العشر الماضية.
فكرت تريشا: “ما لم تكن قد فقدت عقلها تمامًا، فلا توجد طريقة تجعلها تتبنّى فتاة كهذه… ولكن في حالة الطوارئ، يجب أن أُبقي عينيّ عليها.”
أجبرت لورين نفسها على الابتسام ونظرت إلى هارييت من أعلى إلى أسفل.
“كما قالت الكونتيسة، الجميع يعرف الآنسة هارييت. ألم تُثيري فضائح باسم ابنة عمكِ لتشويه سمعتها ؟ بصراحة هذا عمل شرير….”
وعندما أدرك أبناؤها قصد لورين، بدأوا بإضافة تعليقاتهم الخاصة.
“سمعتُ أنه بسبب تلك الفضائح، كادت ابنة عمكِ بيلا أن تقع بنفسها في مشكلة خطيرة. ألم تشعري بالأسف إطلاقًا؟”
“سمعتُ أشياء أيضًا من أصدقائي. يقولون إنكِ كنتِ تلاحقين الرجال لكنهم جميعًا كانوا مغرمين ببيلا. إن عمق غيرة المرأة مقزز حقًا.”
لكن خلافًا لتوقعاتهم، لم تشعر هارييت بالخجل أو الارتباك، بل استمعت بهدوء.
في الواقع، كانت تريشا هي التي أصبح تعبيرها أكثر حدّة وكثافة.
لورين وجّهت نظرها إلى هارييت.
“ما هو السبب الحقيقي وراء تمسككِ بالكونتيسة؟ أخبرينا.”
“لا توجد خطة سرية. أنا فقط…”
نظرت هارييت إلى لورين بهدوء وأجابت.
“لقد فقدتُ ولي أمري دون أن أحصل على أي شيء، وكنتُ بحاجة إلى من يرعاني حتى أتمكن من الاعتماد على نفسي. كانت عمتي الكبرى أول من راسلتها، ولكن لو رفضت، لكنت تواصلتُ مع أقارب آخرين.”
“لذا فأنتِ تقولين أنكِ امتلكتِ الجرأة للطلب منها أن تكون وصية عليكِ؟”
“هل تقولين أنكِ كنتُ تُفضّلين أن أموت بشكل بائس في الشوارع؟”
بدا صوت هارييت وكأنها تسأل: “هل عطفكِ يستحق هذا القدر فقط؟”
شعرت لورين بالارتباك للحظة.
“من قال هذا؟ الاستقلال يعني الاعتماد على النفس. أنتِ شابة، ويمكنكِ تحقيق ذلك بمفردكِ.”
“امرأة شابة نشأت في أسرة نبيلة، لم تتعلّم أبدًا كيفية كسب المال، بلا مكانة ولا سُمعة، ولا مُدخّرات… هل تعتقدين حقًا أنها يمكن أن تصبح مستقلة بمفردها؟”
“بالطبع!”
“بصفتكِ سيدة حكيمة، هل يمكنكِ التكرّم بإسداء نصيحة لفتاة حمقاء مثلي؟ ماذا كنتِ ستفعلين لو كنتِ في وضعي؟ لم يكن لدي منزل أنام فيه، ولم يكن معي سوى خمسة آلاف درهم نقدًا وبعض المجوهرات.”
وجدت لورين نظرة هارييت مزعجة للغاية. لم تكن نظرة هارييت غاضبة أو حزينة أو مرتبكة، لكنها كانت أكثر هدوءً واتزانًا من أي نظرة رأتها على الإطلاق.
فكرت لورين: “من تظن نفسها، تُحدّق بي هكذا؟ إنها الآن مجرد امرأة عادية.”
في النهاية، فقدت لورين أعصابها. أرادت أن تضع هارييت في مكانها، فتفوهت بكلمة قاسية.
“حسنًا، لن أكون في هذا الموقف أبدًا، أما أنتِ؟ من الأفضل أن تبيعي جسدكِ. ماذا عساكِ أن تفعلي غير ذلك؟ سمعتُ أن النبلاء الساقطين يباعون بأسعار مناسبة في الأحياء الفقيرة.”
كانت تريشا هي التي انزعجت من ذلك.
“لورين! هل جننتِ؟”
“سيدتي الكونتيسة.”
“كنتُ صامتةً لأرى إلى أي مدى ستصلين، والآن ماذا؟ هل تطلبين من قريبة لعائلة ليسترويل أن تبيع جسدها؟ أم أن هذا شيء لطالما أردتِ قوله لي؟”
“بالطبع لا!”
“أنتِ من أمرتيني بمغادرة هذا المنزل بعد وفاة أوستر. لا بد أنكِ كنتِ تتوقين لقول شيء كهذا لي حينها أيضًا، أليس كذلك؟”
كانت قبضة تريشا ترتجف من شدة الغضب.
حينها فقط تذكرت لورين أن تريشا ابنة عائلة ليسترويل. نسيَت ذلك بعد أن نادتها بالكونتيسة فيلون، لفترة طويلة.
“لم تتغيّري إطلاقًا. قلتُ بوضوح إني ولية أمرها، وهي ضيفة في بيتي. ومع ذلك، تحكمين على أحدهم بناءً على شائعات لا تعلمين حتى صحتها؟ أشعر بالخجل منكِ.”
“لقد اعتقدتُ فقط أنها ربما كانت تحاول التلاعب بكِ واستغلالكِ، هذا كل شيء….”
“آه يا لها من ضحكة! أنتِ من بين كل الناس تعرفين، أستطيع كشف من يحاول استغلالي من على بعد ميل. ولم أسمح لأحد منهم قط أن يأخذ مني شيئًا.”
في تلك اللحظة، أدركت لورين أن تريشا ليس لديها أي نية لإعطاء عقار فيلون لجايدن. على الرغم من أن لورين وابنها كانوا الفرع الوحيد الممتد، وعلى الرغم من أن لورين لم تبذل قصارى جهدها، إلّا أنها ما زالت تزورها مع عائلتها كل صيف ويحضرون الهدايا، ويثنون عليها. افترضت لورين أنه إذا استمروا في ذلك، فإن تريشا سوف تُسامح في النهاية على الماضي وتسمي جايدن بشكل طبيعي وريثًا لها. لكن بالنظر إلى مدى غضبها الآن، كان من الواضح أن تريشا لم تنسَ أبدًا القتال الذي دار بينهما عندما مات أوستر.
فكرت لورين: “كل تلك الهدايا الثمينة التي أهديتها لها! لو كانت ستحمل ضغينة، لما تظاهرتُ بالتخلّي عنها.”
لقد كانت لورين غاضبة. لطالما استاءت لز ين من تريشا، فهي من عائلة أخرى، تتمتع بسلطة تفوق سلطة لورين رغم أنها من عائلة فيلون. وكرهت أوستر أكثر، فهو من منح تريشا تلك السلطة. لو استطاعت لورين لحفرت قبر أوستر وحطّمت عظامه.
فكرت لورين: “والآن تريشا توبخنا أمام ابنة أختها المفقودة منذ زمن؟ لم يعد هناك أمل فيها. سيتعين عليّ أن أجد طريقة أخرى لتمرير اللقب إلى جايدن.”
صرّت لورين على أضراسها ثم وقفت.
“أنا بصراحة أشعر بخيبة أمل يا كونتيسة. هل هذا ما يقلقكِ؟ ظننتُ أننا عائلة. لكن بالنسبة لكِ، لا بد أنني أبدو كذئب.”
حرکت لورين تنورتها بشكل درامي. وقف زوجها البارون وأبناؤهما خلفها، في حيرة من أمرهم.
“سنذهب الآن. استمتعي بوجبتكِ مع ابنة أختكِ الصغيرة الفاضحة. أراكِ في المرة القادمة.”
“لن أراكِ خارجًا. عودي عندما تدركين كم كنتِ وقحةً. مع ذلك، لدي شعور بأنكِ قد لا تعودين أبدًا.”
حدّقت لورين في تريشا لبرهة في تحدٍّ صامت، ثم نقرت بلسانها برفق وخرجت من الغرفة.
أطلقت هارييت نفسًا طويلًا: “لقد شعرتُ وكأن العاصفة قد مرّت.”
مازالت تريشا تُحدّق في الباب الذي غادرته لورين وعائلتها، وأخيراً تحدّثت.
“هذه هي سُمعتكِ الآن. مشاغبة تُثير الفضائح، فتاة ساقطة يتحدّث عنها الجميع همسًا. إذًا، ما الذي تخططين لتغييره؟”
كان صوت تريشا يحمل أثراً من القلق. يبدو أنها كانت متزعزعة بعض الشيء بعد رؤية مثل هذا التحيز الخام شخصيًا.
لكن من المدهش أن هارييت شعرت بثبات أكبر من أي وقت مضى. فمقارنةً بالعام الماضي، عندما لم يكن لديها أحد بجانبها، أصبح لديها الآن من يهتم بها بما يكفي ليقلق عليها. لكن هارييت شعرت بالأسف قليلاً، لأنها لم تتمكن من إعطاء الإجابة التي ربما كانت تريشا تأمل في الحصول عليها.
التعليقات لهذا الفصل " 36"