الفصل التاسع: أريدكِ، كلَّكِ
 
كانت لازيل تنتظر كايلو في الغرفة الجديدة التي دُلّت إليها.
فالغرفة التي أقامت فيها من قبل لم تكن سوى غرفة ضيوف، أما هذه، فقد كانت غرفة السيدة الحقيقية للقلعة.
وعلى الرغم من أن القلعة القديمة بالكاد كانت تُدار بشكلٍ لائق، فإن الغرفة كانت أنظف بكثير مما توقعت.
 
(لقد تزوّجت حقًا…)
وحتى كايلو نفسه.
 
قبل شهرٍ واحد فقط، ما كانت لتتخيل أن تجد نفسها في مثل هذا الموقف.
نظرت لازيل حولها ثم جلست على حافة السرير الواسع.
كان الملمس الذي استقبلها ناعمًا وفاخرًا، حتى بدا أن أغطية السرير لا تليق بغرفة قديمة الطراز كهذه، لجودتها الفائقة.
 
(أن أضطر لانتظاره وأنا بهذا الشكل…)
 
أطرقت بعينيها إلى أسفل، فرأت ساقيها مكشوفتين بوضوح من خلال قماش ثوب النوم الرقيق الذي يشبه الفستان.
اشتعل وجهها خجلًا حتى كاد الدم يغلي في وجنتيها. لو نظرت في المرآة الآن، لكانت رغبت أن تعض لسانها من شدة الإحراج.
 
رفعت يدها لتُسدل خصلات شعرها وتُصففها بهدوء.
تدلى شعرها الأشقر المذهب، لماعًا بفعل الزيت العطري الذي مسحته عليه، حتى انساب على كتفيها بليونة.
 
ثم توقفت فجأة.
فقد عادت إلى ذهنها صورة حفل الزفاف الصغير الذي أقيم لهما.
لم يكن هناك ما يُعاب في الحفل البسيط، ومع ذلك، ظل في قلبها عيبٌ واحد لا يمكنها نسيانه.
 
(أمي وأبي… لا بد أنهما ما زالا يجهلان أنني تزوجت كايلو…)
 
كان كايلو الآن أسرتها الوحيدة، بعد أن تبرّأ منها والداها.
وفي تلك اللحظة التي خالجها فيها شعورٌ مرير، خفضت يدها ببطء—لكنها سمعت صوت طرقٍ خافت يأتي من الباب.
 
رفعت رأسها، وقد افترضت دون تردد أنه كايلو.
لكنها تجمّدت في مكانها، لأن عينيها التقتا بنظرة زرقاء كانت تراقبها بالفعل.
 
كان واقفًا هناك داخل الغرفة، مسندًا كتفه إلى الباب، يتأملها.
هو الآخر لم يكن يرتدي سوى ثيابٍ خفيفة.
 
اتسعت عينا لازيل دهشة.
“م… متى جئت؟”
 
“حين كنتِ غارقة في أفكارك.”
 
قالها بابتسامةٍ باهتة، وكأنه كان يتسلى بمراقبتها دون أن تلاحظ وجوده.
“بمن كنتِ تفكرين إلى هذا الحد حتى لم تشعري بدخول زوجك؟”
 
“آه، ذاك لأن…”
 
“نحن حديثا الزواج، أليس كذلك؟”
 
حين نطق كلمتي زوجك و حديثا الزواج، شعرت لازيل بوخزٍ لطيف في صدرها، كأن قلبها اختلّ إيقاعه.
لكن ما إن رأته يبتسم تلك الابتسامة الباردة التي تخفي وراءها جليدًا، حتى سرت في جسدها قشعريرة خفيفة.
 
تراجعت إلى الخلف فوق السرير، دون وعيٍ منها.
فابتسم كايلو ابتسامة قصيرة، ثم اعتدل واقفًا وتقدّم نحوها.
 
“هناك أمر أردت قوله منذ زمن…”
 
توقف عند قدميها، وصوته يخفت.
“خلال السنوات الأربع التي كنا فيها بعيدين…”
 
كانت تلك الأربع سنوات هي المدة منذ أن تركته لازيل يذهب إلى ساحة الحرب، حتى التقيا مجددًا.
 
انحنى حتى صار وجهه قريبًا من وجهها، وعبس قليلًا وهو يقول بنبرةٍ خافتة:
“كأن روحك يا أميرة قد تبدّلت بأخرى.”
 
كانت نبرته تحمل غضبًا مكتومًا، غير أن يده امتدت برفق لتزيح خصلة من شعرها خلف أذنها.
توقّف نفسها للحظة. لم تستطع لازيل أن تميز: هل كان هذا الحنان تهديدًا متنكرًا؟
 
حاولت أن تحافظ على رباطة جأشها، لكنها لم تدرك متى تسلّل الارتباك إليها.
في لحظةٍ خاطفة محصورة بين ذراعيه.
 
اقتربت أنفاسهما حتى امتزج عبير جسديهما معًا، وكان عبق الصابون المنعش يلفهما.
دهشت لازيل من السرعة التي جرى بها كل ذلك.
 
نظر إليها كايلو، عيناه الزرقاوان تلتهمان ملامحها عن قرب.
جبهتها الهادئة، عيناها البنفسجيتان اللتان خبت بريقهما قليلًا، وجنتاها المتورّدتان بلون الورد…
وشفاهها، التي بدت كأن العطش لا يُروى مهما تذوّقها.
 
كانت نظرته حادة وثقيلة، تحمل حرارة لم تعرفها من قبل. شعرت لازيل ببرودةٍ تتسلل إلى أطرافها.
 
“كايلو، اريد ان …”
 
لم تكن قد هيّأت قلبها بعد.
دقّاته تتسارع بجنون.
لقد تبادلا الاحضان من قبل، أكثر من مرة، لكن هذا—ما كان قادمًا—كان شيئًا آخر تمامًا.
 
مدّت يديها لتدفعه، لكن قبضته أمسكت بها بسرعة وأعادها إليه.
في اللحظة التي اختنقت فيها أنفاسها بين ذراعيه، ارتسمت على شفتي كايلو ابتسامة ملتوية.
 
 
حين اقترب منها كما لو كان سيقبّلها، خرج صوته فجأة ببرودة حادة:
“هل أنا… أخيفكِ؟”
 
كانت عيناه مثبتتين عليها بعمقٍ ثاقبٍ كالجليد، تحملان في أعماقهما مشاعر مبهمة لا يمكن سبرها.
تجمّدت لازيل، عاجزة حتى عن التفكير.
 
“لماذا؟”
ابتسم بمرارة. “هل تظنين أنني سأقتلكِ، مثلاً؟”
 
“…”
 
“قلتُ لكِ هذا قبل أسبوع، أليس كذلك؟ ومع ذلك، ما زلتِ لا تفهمين.”
 
خفض كايلو يده التي كانت تضغط على معصمها فوق السرير، محرّرًا إيّاها من قبضته.
لكن لازيل لم تتحرك، وكأن جسدها فقد القدرة على الاستجابة.
كانت حرارة أنامله التي تسللت على طول ذراعها لا تزال عالقة على بشرتها.
 
لو أنه مضى خطوةً أخرى، لأغمضت عينيها دون تفكير.
لكن كايلو توقف عند هذا الحد.
 
قال بصوتٍ ثقيلٍ منخفض:
“ما أستحقه منكِ… يفوق أي اعتذارٍ كنتِ لتقدّميه. لماذا يصعب عليكِ تصوّر أنني أستطيع أن أطالب به؟”
 
“ماذا… تعني؟”
 
مدّ يده إلى شعرها المتدلّي على كتفيها، قبض على خصلةٍ منه بشيء من القوة، ثم همس بصوتٍ متوترٍ متحكم:
“أريدكِ.”
توقف لحظة، وصوته ازداد خفوتًا لكنه صار أكثر إلحاحًا.
“من أول شعرة في رأسكِ إلى أطراف قدميكِ… أريد كلّكِ.”
 
“…!”
 
“لذا، حتى تمنحيني كل ما تملكين، لن تنعمي بموتٍ هادئ.”
 
ارتجفت عيناها، ثم اتجه بصرها إلى يده التي قبضت على شعرها الذهبي.
وفي اللحظة التالية، حين التقت نظراتهما من جديد، احتضنها بشدة .
 
شهقت لازيل بقوة، كأن أنفاسها انقطعت على حين غرّة.
أما هو، فكان يملأ المسافة بينهما بنَفَسه، لا يتوقف عن احتضانها، كأنما يريد أن يبتلعها كل ما تبقى منها.
 
ولسببٍ ما، رغم أنه لم ينطق بشيء، سمعت داخله صدى صوتٍ يقول:
لقد صمدتُ لأجل هذا وحده… لأجل هذا عدتُ من الحرب، وحصلتُ على كل شيء بسبب هذا.
 
 
حاولت ابعاده عنها لكن يده الكبيرة التقطت يدها المرتجفة وضغطتها بقوة.
لم يترك خصلات شعرها التي تشابكت بين أصابعهما، فتداخل خيطٌ من الذهب الباهت بين أيديهم المتشابكة.
 
تاهت أنفاس لازيل وسط الاحضان المضطربة، وشعورها بالواقع أخذ يتلاشى تدريجيًا.
 
“هاه…”
ابتعد عنها أخيرًا، فهرب نفسها الخارج بصوتٍ متقطع.
ولم يتركها تستعيد أنفاسها، إذ انحدر دفء أنفاسه إليها.
 
في اللحظة نفسها، أمسك بيدها ورفعها إلى رأسه، واضعًا كفها على شعره.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة، خطيرة، تشي بأنه لم يتخلَّ بعد عن عاداته السيئة القديمة.
 
كانت هذه الوضعية مألوفة لهما—نظرة متقابلة، حركة تكررت كثيرًا من قبل.
وبترددٍ خفيف، أمسكت لازيل بشعره برفقٍ كي لا تؤلمه.
 
“لازيل…”
 
تبعثرت أنفاسهما في الهواء، مختلطةً بارتجاف الصمت.
رفعت رأسها نحوه، وعيناها دامعتان تتأرجحان بين رجاءٍ وارتباك.
 
كان في عينيه شيء لا يشبه الحب، بل أشبه بالحقد.
كانت تعلم ذلك.
كانت تعرف أن قلبه ليس لها، وأنه لم يأتِ إليها إلا ليقتصّ منها بطريقته الخاصة.
 
كايلو لم يكن يحبها.
لقد عاد من الحرب لينتقم، لا ليحب.
 
ومع ذلك… وبينما وُضعت في هذا الموقف، تساءلت لازيل في أعماقها:
 
لكن إن كان كل ما يفعله انتقامًا… فلماذا منحني بين كل ذلك بعض الدفء؟
 
ذلك الدفء الذي أعاده إليها، أضعاف ما منحته إياه هي باسم “النية الطيبة” أو “الشفقة”…
 
لكن التساؤل تلاشى سريعًا قبل أن يستقر في عقلها، كما يذوب الجليد في النار.
في الخارج، كانت الريح تعصف بالنوافذ، معلنةً عن ليلٍ طويلٍ وبارد.
ليلٍ لم يعد فيه شيء سوى هما ، فاقدين القدرة على التمييز بين العدوّ والحبيب.
 
**
 
“آه…”
 
كانت الرؤية ضبابية حين لمحَت أطراف بطانيةٍ شتويةٍ دافئة تحيط بها.
رمشت لازيل ببطءٍ عدة مرات قبل أن ترفع جسدها، فانزلق الغطاء عن كتفيها.
 
حدّقت في الأرجاء بعينين غائمتين، حتى بدأ وعيها يستعيد شكله.
لم يكن المكان مألوفًا.
إنها غرفة الدوقة الكبرى في قلعة ويندمور، تلك التي نُقلت إليها بعد زواجها من كايلو.
 
وبينما كانت رمشاتها البطيئة تتوالى، اتسعت عيناها فجأة، وتدفّق الدم إلى وجهها دفعةً واحدة.
 
(صحيح… البارحة…!)
 
تجمدت في مكانها، لا تعرف ما تفعل.
تحسست قميص نومها بخفة، وكأنها تبحث عن دليلٍ على ما جرى.
لكن سرعان ما توقفت يدها، مشدوهة.
 
(مهلاً… هذا…)
 
كان ثوبها مرتّبًا بعناية، خالياً من أي أثرٍ للفوضى.
بل بدا كما لو أنها لم تتحرك طوال الليل.
 
وفوق ذلك، جسدها… بخير
 
(إذًا… لم يحدث شيء.)
 
جاءها هذا الإدراك كصفعةٍ صامتة، تركها خاوية النظرات.
هل أغمي عليها قبل النهاية؟ أم أنه هو من توقّف؟ لا تتذكر.
 
(ربما من الأفضل هكذا… أنه لم يجبرني…)
 
ينبغي أن تشعر بالارتياح، لكنها لم تفعل.
بل غمرها شعورٌ خافت بالأسى، لا تدري سببه.
ربما لأن الفراش كان واسعًا جدًا، وهي وحدها المستيقظة فيه.
 
نظرت إلى الجانب الآخر من السرير، حيث خمد الدفء، ثم أطرقت رأسها.
 
(ما الذي كنتُ أتوقعه؟)
 
همست لنفسها بمرارة:
(لا يحقّ لي أن أتوقع أي شيء من كايلو. حتى ليلتنا الأولى لم تكتمل…)
 
لم يكن هناك سببٌ ليبقى بجانبها.
مجرد زواجٍ شكليّ، لا أكثر.
ولا يجب أن تجرؤ على معاملته كما لو كان حبيبًا.
 
جلست على حافة السرير، تردّد في داخلها صوتها الحزين كأنه تعويذة:
(كايلو يكرهني… لقد عاد لينتقم مني… ليجعلني أدفع ثمن الجرح الذي تركته فيه…)
 
لكن الفكرة لم تكتمل بعد، إذ فُتح باب الغرفة بهدوء.
 
رفعت رأسها متوقعة أن ترى إحدى الخادمات—لكن ما رأته جعل عينيها تتسعان.
 
“استيقظتِ أخيرًا، على ما يبدو.”
 
كان هو.
الرجل الذي ظنت أنه لن يعود، دخل الغرفة بخطى واثقة.
 
حين تنحّى جانبًا، تبعه عددٌ من الخدم الذين وضعوا الإفطار على الطاولة القريبة ثم انسحبوا بصمت.
 
ظلت لازيل تراقب المشهد مذهولة، لا تدري ما تقول.
تجولت نظراتها القلقة بين الأواني الفاخرة حتى توقفت عنده أخيرًا.
 
كان كايلو يقف بثباتٍ ووجهه هادئٌ كأن شيئًا لم يحدث.
وقال بنبرةٍ عاديةٍ تمامًا:
“بما أنكِ استيقظتِ، فمن الطبيعي أن نتناول الإفطار معًا. نحن زوجان، بعد كل شيء.”
             
			
			
		
		
                                            
التعليقات لهذا الفصل " 9"