الفصل السادس : حتى وإن كرهتُ، عليّ أن أحتمل
“……!”
كان الحضن الذي باغتها بلا إنذار عنيف كأنه يريد انتزاع أنفاس لازيل من صدرها.
اليد التي كانت تمسكها من خصرها، صعدت فجأة لتحضن رأسها وتغمرها في حضنه بإحكام.
كأنه يهمّ بابتلاعها كاملة، ويطوّقها تحت جسده.
حرارة بينهما ارتفعت .
حين لامست أنفاسه بشرتها الرقيقة، انكمشت كتفاها من فرط التوتر، وانتشر اللهيب في أوصالها.
“هاه…!”
كلما حاولت التقاط أنفاسها، كان يحتضنها اقوى من جديد، كأنه لا يريد أن يسمح لها حتى بالتنفس.
كانت إساءة، بلا شك.
وربما كان ذلك تفجّرًا لغضبه القديم عليها، ذاك الغضب الذي لطّخ ماضيه بسببها.
وضوح ذلك الشعور كان جارحًا، حتى إن صدر لازيل انسدّ من الألم.
تلاشت البرودة وسط الحمى التي التصقت بجسديهما، وارتجف بدنها لا من الصقيع، بل من قشعريرة مختلفة.
رفعت لازيل جفنيها المرتعشين، لتجد أمامها وجهًا مألوفًا غريبًا في آن—وجهًا لم تره طوال أربع سنوات الحرب، حتى كاد يبدو غريبًا عليها.
حاجباه الكثّان مقطّبان بتركيز، ورموشه الطويلة المتشابكة تلقي بظلالٍ خفيفة على عينيه.
بعد أن استنفد مقاومتها عقيمة، خفّت حضنه شيئًا فشيئًا.
ذلك الذي لم يعرف الرفق يومًا.
“هاه…”
تنفست لازيل بارتياح للمرة الأولى.
لا تدري كم طال ذلك الالتصاق، لكنّ البرد في الخارج بدا الآن كعاصفةٍ من الثلج تتلاعب بالأكفان.
ورغم ذلك، لم تشعر بشيء سوى الحرّ.
(الآن… هل ينوي حقًّا أن يُكمل؟)
رفعت نظرها المرتبك نحوه، وقلبها يخبط كطرقات مطرٍ على جدارٍ معدني.
ولمّا عضّت شفتها لتكتم ارتجافها، هبطت يده من جديد.
لكن بدلًا من أن يواصل ما بدأه، جذب الغطاء المتدلّي وأعاد رفعه حتى عنقها، ثم تمدّد إلى جوارها.
كما فعل في الليلة الماضية، ضمّها من الخلف بإحكامٍ وهدوء.
وتوقّف كل شيء.
“أه…”
فتحت لازيل فمها في حيرة. كانت تشعر بحرارته وأنفاسه تلامس ظهرها، كأنهما جسدٌ واحد يتنفس بانتظامٍ واحد.
لم يكن الأمر طبيعيًا أن يتوقف عند هذا الحد، ولم يكن جسده قد فتر بعد.
وحين حاولت الالتفات نحوه في ارتباك، قال بصوتٍ خفيض مبحوح:
“سنتحرك مع أول ضوءٍ للفجر. من الأفضل أن تنامي قليلًا الآن.”
“لكن… الآن…”
“حتى وإن لم تريدي الالتصاق بي، تحمّلي. هذا ثمن إلقائك بي في الجحيم.”
“……”
أطبقت لازيل شفتيها ببطء.
بدت كأنها تفهم دواخله، لكنها في الوقت نفسه تعلم أنها لن تدركها أبدًا.
ما كانت تعرفه يقينًا هو أنّ امتناعه عن اغتصابها الليلة خبرٌ يستحق الترحيب.
(لا أفهم تقلباته… لكن على الأقل، هذا أمرٌ جيد بالنسبة لي.)
ومع ذلك، لم يكن هناك ما يدعو إلى الاطمئنان؛ فعاجلًا أم آجلًا، حين تصبح زوجته رسميًا، سيتجاوز الأمر القُبل إلى ما هو أبعد.
“…حسنًا.”
أجابت بصوتٍ واهن، وأغمضت عينيها.
لم يمضِ وقتٌ طويل منذ استردت وعيها، لكنّ إرهاق البرد وسفر الأيام دفع النعاس إلى جفونها سريعًا.
صوت العاصفة الثلجية بالخارج أخذ يخفت تدريجيًا، كأن العالم كله يغفو.
—
مع بزوغ أول خيوط الفجر، تناولا وجبة خفيفة ثم انطلقت العربة من جديد.
(هل هو مجرد شعور، أم أن معاملته لي لم تعد سيئة كما كنت أظن؟)
كانت واثقة من أنه سيميّزها بالسوء في الطعام.
فمع حلول الصباح، اختفى كايلو عن الأنظار، وأحد الجنود المناوبين ناولها طعامها بنظرةٍ متبرّمة وغادر.
لذلك ظنّت أن ما سينالها لن يتجاوز قطعة خبزٍ يابسة وكوب ماء.
لكنّ الحقيقة خالفت ظنونها تمامًا.
فالوجبة كانت مطابقة لما يُقدّم للجنود الآخرين، بل وفيرة على نحوٍ لافت.
وبما أن لازيل اعتادت على قلة الأكل بسبب قسوة زوجة أبيها، لم تستطع حتى أن تُنهي الطبق.
(هل يعني هذا أنه لا ينوي إذلالي بالطعام؟)
رمقتها عيناها نحوه خلسة.
شفاهٌ مغلقة بإحكام، خطّ فكه الواضح، وعيناه الزرقاوان تحدّقان بصمتٍ في النافذة.
ملامحه المتماسكة والساكنة جعلت فضولها يتملّكها: ماذا يدور في ذهن هذا الرجل؟
في تلك اللحظة، فتح كايلو فمه وتحدث، دون أن ينظر إليها حتى.
“يُفضَّل أن أخبرك مسبقًا قبل أن نصل إلى مقاطعتي.”
“بِماذا…؟”
ابتلعت لازيل ريقها الجاف، وقد باغتها كلامه المفاجئ.
حين قال مقاطعتي، تأكدت من ظنها—لقد نال كايلو بالفعل مكانة رفيعة في مملكة كرومبيل.
وربما… مكانة أعلى مما تخيلت.
“هناك، سيكون أمامك الكثير من المهام. ستقضين أيامًا شاقة.”
“مهام؟ تقصد… ما الذي عليّ أن أفعله؟”
“هل كنتِ تظنين أنكِ ستعيشين في راحة، وأنتِ التي أُسرت؟ على أي أساس خطر لكِ مثل هذا الوهم؟”
قطّب حاجبيه الوسيمين قليلًا، وحدّق بها، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة مائلة، ساخرة حدّ المرارة.
“لا تقولي لي أنكِ تثقين بي؟ أم كنتِ تعتقدين أني سأرأف بكِ؟”
ضحك بخفوتٍ، بسخريةٍ لا تليق بهيئته المهيبة.
وجهٌ صارم وجميل، لكن كلماته كانت قاسية كخناجر تلمع في الظلام.
ظلّ متعجرفًا كما عهدته، يفيض ازدراءً وثقةً متغطرسة.
ومع ذلك، لم يكن للزيل أن تلومه.
فهي التي لم تعاملْه يومًا بلطف.
حين كان عبدها، كانت تُفرغ فيه كل الغضب الذي تتلقّاه من عائلتها، تُسقط عليه ما يوجَّه إليها من إهانات، وكأن قسوته قدرها الطبيعي.
إذن، ما يحدث الآن هو ثمنٌ عادل، وعليها أن تتحمله.
قالت بصوتٍ منخفضٍ منكسر:
“لم أفكر في الراحة… أعلم أن حياتي لا تساوي شيئًا سوى أنك أبقيتني على قيدها.”
“إذن عليكِ أن تطيعي أوامري دون نقاش.”
أسند ذقنه على كفه وهو ينظر إليها من جانب، ثم ابتسم هذه المرة ابتسامة كاملة، متناظرة، تحمل في طياتها شيئًا من الرضا الخبيث.
تساءلت لازيل في داخلها بقلقٍ غامض:
(هل ينوي أن يُبقيني كخادمةٍ له؟ أن يجعلني أُنظّف وأخدم، وأنا التي جعلني “زوجته” بالاسم فقط؟)
لم تكن تتوقع الراحة، لكن لم تتخيل أيضًا أن يُثقل كاهلها بالأعمال الشاقة.
كل ما ظنته هو أنه سيُعذّبها، ربما بالكلمات، أو ربما بالإهمال البارد.
(لكن ما نوع “العمل الشاق” الذي يقصده؟)
تسلّل القلق إلى قلبها، وأفكارها تشعبت نحو احتمالاتٍ لم تجرؤ على استكمالها…
أهي الأعمال الوضيعة التي يقصدها؟ أم تلك الليالي التي يُسكت فيها الرجال صمتهم بجسد امرأةٍ يملكونها؟
شدّت شفتيها بقوة حتى كادت تؤلم نفسها.
“لقد أوشكنا على الوصول.”
صوته الجاف قطع شرودها، فالتفتت إلى النافذة.
ما إن نظرت حتى اتسعت عيناها.
(أوشكنا على الوصول؟!)
كادت تتساءل بصوتٍ مسموع، غير مصدّقة ما ترى.
كان الخارج صحراءً من الجليد والريح، أرضًا قاحلة ميتة، لا حياة فيها.
لم يُخطر ببالها أن تكون الوجهة في مكانٍ كهذا.
(ظننت أننا سنواصل السير طويلًا بعد… لكن بهذا الاتجاه لن نجد سوى الخراب…)
الرياح كانت تجرف الثلج كالأشباح، والمشهد أمامها بدا كأقصى حدود العالم المعروف.
(هل هذه بالفعل أقصى شمال مملكة كرومبيل؟)
كانت قد قرأت عن هذه المنطقة في الكتب—
أرضٌ لا تعرف الخصب، يغمرها الشتاء حتى لتكاد تنسى الصيف.
تُعرف بقسوتها، وليلها الطويل الذي لا ينتهي.
(إذن… هذا ما مُنح لكايلو؟ أرضٌ منفية في الشمال؟ هل عوقب على أصله الغريب، أم على أنه لم يولد بينهم؟)
غرقت في أفكارها حتى اهتزت العربة بعنف، تصعد تلًّا مائلًا.
تعلّقت بمسند المقعد كي لا تسقط، حتى توقف العجلات أخيرًا بعد مسافةٍ طويلة من الارتجاج.
“انزلي.”
قالها كايلو بهدوءٍ، ثم نزل أولًا من العربة ومدّ يده نحوها.
كان في تلك الحركة شيء من اللباقة غير المتوقعة، لوهلةٍ بدت إنسانية.
ترددت، ثم وضعت يدها في يده ونزلت بخطواتٍ حذرة.
بمجرد أن لامست الأرض، تصاعد بخار أنفاسها في الهواء، واندفعت ريحٌ باردة حملت خصلات شعرها الذهبي بعيدًا عن وجهها.
“هذا هو المكان الذي سنعيش فيه من الآن فصاعدًا.”
رفعت رأسها مع كلماته.
أمامها ارتفع حصنٌ ضخم، مغطّى بالثلج حتى أعالي الأبراج.
كان شامخًا، بارد الملامح، كأنه منحوت من الشتاء ذاته.
في مدخل القلعة، وقف عدد من الخدم مصطفين، وجوههم قاسية كالحجر.
حدّقت لازيل في المكان بدهشةٍ صامتة، بينما عاد صوته يخترق الهواء.
“بما أنكِ ضيفتي، و خطيبتي، فمن الواجب أن أقدّم لكِ الترحيب اللائق.”
أمسك يدها مجددًا بإحكام، وارتسمت على شفتيه ابتسامة واثقة، باردة، فاتنة على نحوٍ مؤلم.
“مرحبًا بكِ في دوقية ويندمور.”
التعليقات لهذا الفصل " 6"