الفصل الخامس: الزوجة الغنيمة
توقّف أخيرًا ذلك الارتجاج المزعج الذي كان يهزّ جسدها طوال الطريق، وبدأت تشعر براحة غريبة تتسلّل إلى أطرافها.
كانت لازيل تغرق في غيبوبة من النعاس حين فتحت عينيها على مهل.
“استيقظتِ؟”
تردّد صوتٌ عميق ومنخفض أكثر مما تذكرت.
رمشت بضع مرات، ثم بدأ وعيها يعود إليها تدريجيًا.
رفعت رأسها، لتجد نفسها في موضعٍ عالٍ على غير العادة.
وحين رفعت نظرها أكثر، التقت بعينين زرقاوين تحدّقان بها من الأعلى.
“…كايلو؟”
“ما هذا الذهول في عينيك؟ هل فقدتِ ذاكرتك من الصدمة؟”
تكلّم بنبرة هادئة لا مبالاة فيها، ثم وجّه نظره إلى الأمام من جديد.
ومع تحرّك المشهد في عيني لازيل، أدركت أخيرًا الحقيقة—
كانت محمولة بين ذراعي كايلو.
(هل ما رأيته قبل قليل كان… حلمًا؟)
كم غاصت في النوم بعمق حتى بدا لها الماضي في الحلم كأنه واقع؟
(صحيح… جند كرومبيل جاءوا إلى قلعة إيفور، وقررت أن أتبع كايلو…)
يبدو أنهما كانا قد نزلا من العربة في هذه الأثناء.
خرجت أنفاس لازيل الجافة في هواءٍ بارد، كأنها دخانٌ باهت.
نظرت إلى الرجل الذي يحملها.
مظهره لم يكن كما حفظته في ذاكرتها القديمة.
كان بطولٍ يفوقها كثيرًا، قامته مشدودة، وعضلاته منحوتة بقوة، وفكّه حادّ الملامح وثابت.
لكنّ وجهه الجميل، المؤلم بجماله، ظل كما هو.
وعيناه الزرقاوان بقيتا كما في الماضي—مليئتين بغرورٍ يشي بازدراء العالم بأسره.
“يبدو أنكِ ما زلتِ غير قادرة على تصديق ما آل إليه الوضع.”
نطق أخيرًا بعد صمتٍ ثقيل.
ارتجفت لازيل، وقد شعرت بأنه قرأ ما يدور في رأسها تمامًا.
(هل ما زلتُ عالقة بين النوم واليقظة؟ كان عليّ ألا أحدّق به هكذا مباشرة…)
كانت تعرف تمامًا لماذا عاد كايلو ليبحث عنها.
كل النبلاء الذين أحاطوا بها آنذاك، أولئك الذين حمتهم مكانتها، لا بد أنهم سقطوا جميعًا بسيفه.
تذكّرت النصل الأبيض الذي كان يقطر دمًا داكنًا في ذلك اليوم…
ذاك السيف الذي جزّ رقبة خادمتها، وكان كأفعى يلعق الهواء حول عنقها في تهديدٍ صامت.
(لو أراد أن يعاقبني، فلن يكون عقابه أخفّ من الموت… بل أشدّ منه.)
ما رأته في الحلم لم يكن سوى قطرة من بحر ما فعلته به في الواقع.
لقد عذّبته، حطّمت أمله، وسحقت الحب الذي كان في قلبه يومًا.
كانت وحيدة وفقيرة، فصبّت حقدها عليه حتى استحال الحقد رغبةً مسمومة.
ثم داست على كل ما كان يملكه من كبرياء وإنسانية.
ولذلك، كان من الطبيعي أن يُبقيها حيّة—
كي يردّ لها الدين كاملاً.
كانت لازيل تدرك خطاياها أكثر من أيّ أحدٍ سواها.
“…سواء صدّقتُ أم لا، لن يغيّر ذلك شيئًا.”
“لم أتوقّع أن تستوعبي الوضع بهذه السرعة.”
ضحك كايلو ضحكة قصيرة خافتة، جافّة النغمة، ثم توقّف عن السير.
توقّف المشهد المتحرّك أمام عيني لازيل، وسمعت صوت حذائه العسكري يغوص في الثلج.
“سنمكث هنا لبعض الوقت.”
“هنا…؟”
“هذا معسكر مؤقت استخدمناه أثناء الحرب. سنقضي الليل هنا قبل أن نتابع الطريق. ليس لديكِ خيار آخر.”
قال كلماته بنبرة تقريرية، لا مجال فيها للاعتراض، ثم التفت ليتبادل بضع كلمات مع أحد الجنود الواقفين.
نظرت لازيل إلى المكان الذي ستقضي فيه ليلتها.
كانت الرياح تعصف، والثلوج تتساقط، والمأوى يبدو قاسيًا، بالكاد يوفّر دفئًا.
ومع ذلك، كما قال كايلو، لم يكن أمامها أي اختيار.
“هيا.”
عاد إليها بعد لحظة، واقتادها إلى داخل إحدى الخيام الكبيرة.
أنزلها برفقٍ محسوب على سريرٍ ميداني بسيط، ثم أشعل المصباح الزيتي القريب.
(أوسع مما توقعت…)
لكن، وكما توقّعت لازيل، كان المكان هزيلًا لا يصلح لقضاء ليلةٍ في منتصف الشتاء.
فور مغادرة كايلو، سيكون عليها أن تقضي الليل تصارع البرد حتى الصباح.
(بارد… جداً…)
خرجت أنفاسها بيضاء في الهواء رغم أنها داخل الخيمة.
لكنها لم تجرؤ على التذمّر، فاكتفت بضمّ طرف معطفها بيديها لتقاوم الرجفة.
في تلك اللحظة، رماها كايلو بشيء ما.
“غَطّي نفسك.”
تسمّرت في مكانها لوهلة، ثم أدركت أن ما سقط بين ذراعيها كان بطانية عسكرية ثقيلة.
رفعت نظرها نحوه مذهولة.
كان يقف قرب الطاولة الصغيرة، عند علاقة الملابس المعدنية، وبدأ فجأة يخلع درعه الحديدي قطعة بعد أخرى.
“ماذا… ماذا تفعل؟!”
صرخت، وقد ارتبكت من المشهد، لكن كايلو لم يكلّف نفسه حتى الالتفات إليها.
خلع آخر قطعة من سترته المبطنة أيضًا، ليبقى بقميصٍ بسيط، وكأنه لم يسمعها أصلًا.
توقّعت لازيل أن يتركها ويغادر بعد أن رماها هنا،
لكن رؤيته يخلع درعه فجأة أربكتها حتى الجمود.
سقط بصرها على ظهره العريض.
كانت الندوب تغطيه كشبكةٍ من آثارٍ قديمة وحديثة، متقاطعةٍ كخرائط ألم.
شعرت لازيل وكأن مطرقة سقطت على رأسها.
(تلك… آثار الحرب…)
عرفت ذلك دون حاجةٍ إلى تفسير.
لقد رأت جسده من قبل، قبل أن تُرسله إلى ساحة القتال—حين لم تكن عليه أي من تلك الجروح.
وبينما كانت تحدّق مذهولة، كان كايلو قد ارتدى ثيابًا مريحة وعاد إليها.
اقترب ببطء وجلس على الكرسي قرب السرير، بصمتٍ مهيب.
نظرت إليه بتوجّس.
“…ألست ذاهبًا إلى مكانٍ آخر؟”
كانت الخيمة باردة بشكلٍ لا يُحتمل.
حتى امرأة جاهلة بشؤون الحرب مثلها فهمت أن قائدًا مثله لا يمكن أن يقيم في مكانٍ كهذا.
“لن أذهب.”
جاء صوته منخفضًا، عميقًا، يحسم الأمر.
لم تفهم لازيل السبب.
“لا داعي لأن تبقى مع أسيرةٍ مثلي… أو مع غنيمة حرب…”
“وكيف أضمن أنكِ لن تحاولي الهرب؟”
“…”
كانت قد أكدت له سابقًا أنها لن تهرب، لكنه بدا غير مكترث بكلماتها.
كان عناده صلبًا كالصخر، فلم تجد ما تردّ به.
خفضت بصرها لتنجو من ثقل النظرات بينهما.
كانت رؤية تلك الندوب على جسده تثقل صدرها أكثر فأكثر، كأن كل واحدة منها خُطّت باسمها.
ارتجفت كتفاها مع زفرةٍ خافتة، فاخترق صوته السكون مجددًا.
“هل أنتِ باردة؟”
“لا… لا، لست باردة.”
كذبت، وأشاحت بنظرها عنه.
لم ترد أن تبدو ضعيفة، ولا أن تزيد عليه عبئًا جديدًا.
لكنها لم تلحظ كيف تجعّد حاجباه في امتعاضٍ خافت.
ثم نهض من مكانه.
بضع خطوات فقط فصلته عنها قبل أن يصعد إلى السرير بجانبها.
“ماذا…؟!”
تراجعت غريزيًا إلى الخلف، لكن بلا جدوى.
ذراعه القوية التفّت حولها في لحظة، وسحبها نحوه حتى سقطت معه على الفراش.
شهقت، وقد تجمّد الهواء في صدرها.
السرير الخشن صرّ تحت وزنهما، وصدى صريره شقّ صمت الخيمة الباردة.
كان يحتضنها فحسب. لا أكثر.
لم يكن في فعله ما يتجاوز دفء الجسد.
حين أدركت ذلك، أمسكت بذراعه المتشابكة حول خصرها.
كانت حرارته تمتدّ إلى ظهرها، تخترق برد الليل ببطءٍ مدهش.
“ل… لا داعي لهذا…”
“قلتِ إنكِ باردة. ابقي هادئة.”
“متى قلت إنني باردة؟ قلت إنني بخير…”
تمتمت بكلماتٍ ضعيفة، لا تملك الجرأة لتدفعه.
تساءلت في داخلها إن كان قربه هكذا لا يثير فيه شيئًا من الاشمئزاز، وهي التي كانت سبب جراحه، عذابه، سقوطه.
(أم أنّه يخشى فقط أن أهرب؟ لهذا… يحتجزني هكذا؟)
لكن قبل أن تكتمل الفكرة في ذهنها، سمعَت زفيره البارد يلسع الهواء بينهما.
كان صوته أشدّ قسوة من عاصفةٍ ثلجية.
“كنتِ ترتجفين. أظنّين أني لا أميّز كذبك؟”
اشتدّت ذراعه حولها، وكأنّه يعاقبها بصمته.
تدفّق الدفء في جسدها رغمًا عنها، والبرد بدأ يتلاشى تدريجيًا.
“لماذا تجهدين نفسك في دفعي بعيدًا؟ تخافين أن أفعل بك شيئًا طوال الليل؟”
“ذلك… ليس…”
تعثّرت كلماتها، ولم تكمل.
نعم، حين بدأ بخلع ملابسه وتوجّه نحوها، دبّ في صدرها خوفٌ خافت من أن يقربها.
بعد كل شيء، هي الآن “زوجة غنيمة حرب”—وسيلتها للبقاء حيّة.
إذا شاء، يمكنه أن يأخذ منها ما يريد، ومتى أراد.
وإذا غضب، يمكنه أن يؤذيها دون أن يرفّ له جفن.
هي زوجته الآن بحكم القوة، لا القانون، ولا القلب.
في ذلك الصمت المثقَل بالبرد، راحت تتخيّل المستقبل المظلم الذي ينتظرها:
أن تكون جسدًا بلا إرادة، ظلّ امرأة كانت نبيلة يومًا، تُقدّم نفسها إن طلبها، وتبتلع الإهانة إن خانها.
كانت شاردة في أفكارها حين دوّى صوته المنخفض ضاحكًا بسخريةٍ باردة.
“أتخافين من هذا فقط؟ مثيرٌ للشفقة. ألسنا قد رأينا كل شيء بالفعل؟”
تجمّدت نظرات لازيل، واهتزّت حدقتاها.
ذكرياتها اجتاحت عقلها كتيارٍ مظلم—ذكريات تلك الأيام التي كانت فيها هي من تطلبه، هي من تجرؤ على لمسه بدناءةٍ تافهة.
خفق قلبها بقسوة، كما لو أنه تلقّى ضربةً من مطرقةٍ حديدية.
وفجأة، أحسّت بيده التي كانت على بطنها تنزلق إلى أسفل.
“ماذا… ماذا تفعل؟!”
ارتعدت وهي تلتفت إليه بصدمة،
لكن قبل أن تنطق بشيءٍ آخر، قبض بيدٍ قاسية على كتفيها الاثنتين واحتضنها بقوة .
التعليقات لهذا الفصل " 5"